يحتفل العالم هذه الأيام بالذكرى الخمسين لميلاد المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وهو ما يمثل مناسبة مهمة للوقوف على أبعاد قضية اللاجئين التي تمثل إحدى القضايا المهمة في أجندة النظام العالمي الجديد، الذي شهد تبلوراً واضحاً لفكرة التدخل الإنساني لحماية حقوق الإنسان. وفي البداية نقول إن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أسست بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة فشي مطلع العام 1951، وكانت المهمة الرئيسية التي عهد إليها بها هي إعادة توطين نحو 2،1 مليون لاجئ أوروبي كانوا بلا مأوى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان من المتصور، حينئذ، أن تكون المفوضية مكتباً موقتاً لفترة زمنية مدتها ثلاث سنوات، لكنها أصبحت الآن إحدى الوكالات الرئيسية في العالم ومقرها في جنيف، ولها مكاتب في حوالى 117 دولة، ويعمل فيها نحو 15 ألف موظف، أكثر من 80 في المئة منهم في الميدان. والواقع أن دور المفوضية تصاعد بشكل واضح خلال العقدين الأخيرين، وهو ما ثبّت مكانتها كإحدى الوكالات المهمة للأمم المتحدة، وذلك بسبب تفاقم مشكلة اللاجئين على المستوى العالمي خلال هذه الفترة. إذ أن انتهاء عصر الحرب الباردة أعقبه اندلاع العديد من الحروب والصراعات الأهلية التي اتخذ معظمها نمط الصراع العرقي، وفي هذا الإطار تشير البيانات الى أن عدد اللاجئين كان يبلغ حوالى 7،5 مليون لاجئ العام 1980 ارتفع إلى 10 ملايين العام 1985 ثم وصل إلى 9،14 مليون العام 1990، وفي العام 1991 تصاعد العدد إلى 3،17 مليون ثم وصل في العام 1995 إلى نحو 27 مليوناً. بيد أن هذا الرقم اتجه إلى الانخفاض في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، إذ تشير الإحصاءات الى أن العدد الكلي للاجئين انخفض إلى ما دون العشرين مليوناً. وعلى أي حال، فإن هذه الأرقام، وعلى رغم ما تشير إليه من تحسن حدث في قضية اللاجئين على المستوى العالمي، لا تلغي مشكلتهم وتكتسب هذه المشكلة خصوصية شديدة ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، والذي يشهد تنامياً لمفاهيم حقوق الإنسان، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن أكثر من نصف عدد اللاجئين على مستوى العالم هم من الأطفال، وأن اللاجئ يعاني تعاسة مزدوجة بسبب حرمانه من حضن الوطن وحرمانه في الوقت نفسه من الحق الطبيعي في الحياة. ولا شك أن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين قامت، وتقوم حالياً، بدور كبير في محاولة علاج مشكلة اللاجئين. إلا أن هناك الكثير من الإشكاليات التي تعرقل عمل المفوضية، شأنها في ذلك شأن بقية المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني. وتنبع هذه الإشكاليات من الأزمة الكبيرة التي تواجه العمل الدولي الإنساني، إذ أنه مع حلول نهاية القرن العشرين تصاعدت حال القلق لدى المجتمع البشري بسبب حدث تاريخي بدا في حينه مصدراً لآمال عريضة، وهو نهاية الحرب الباردة، فالثوابت التي كانت قائمة في ظل عالم شديد الاستقرار على رغم ما تخللته من مخاطر، حلّت محلها تساؤلات بلا إجابة حول عالمنا الذي يمر بمرحلة انتقالية، وهو ما استدعى لدى البعض ذكريات العصور الوسطى، ولم تتجسد حقبة السلام التي طال انتظارها. وما أن أوشك القرن العشرون على نهايته حتى نشبت سلسلة من الصراعات المضنية التي أخذت تفصح عن نفسها في البلقان والقوقاز ومنطقة البحيرات العظمى في افريقيا وأفغانستان وكولومبيا ومناطق أخرى كثيرة، وغالباً ما كانت تلك الصراعات تمتد ليتقاطع معها بين فترة وأخرى اتفاقات سلام أو وقف لإطلاق النار، ما يؤدي إلى محاولات لبناء سلام لم يقدر لها دائماً أن تصل إلى تحقيق الهدف المطلوب. وهكذا كاد العمل الإنساني أن ينجرف في خضم الفوضى، لكنه بدا، أحياناً، وكأنه السبيل الوحيد للاستمرار بضمير مستريح، إذ أخفقت السبل الأخرى، وتشبثت الدول بالعمل الإنساني بعدما أصبحت فريسة في معظم الأحوال لحال من التردي لفشل جهودها في وقف أعمال العنف. وكان العمل الإنساني هو أيضاً الإجابة على المعضلة التي واجهت الدول التي لم تكن مستعدة لتعريض حياة جنودها للخطر. غير أن المبادئ الإنسانية أصبحت هي الأخرى موضوع تساؤل، فحيادية اللجنة الدولية للصليب الأحمر تم النظر إليها في بعض الأحيان بارتياب، وهناك مشاكل حقيقية تواجه عمل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في تعاملها مع مشكلة النازحين على اعتبار أنهم ما زالوا داخل حدود دولتهم، بل إن هناك مشاكل أخرى في التعامل مع قضية اللاجئين، إذ أن ذلك يعتمد على مدى استعداد الدول المضيفة للاجئين للتعاون مع المفوضية، وعلى رغم تنامي فكرة التدخل الدولي لاعتبارات إنسانية، إلا أن هذه الفكرة تم تسييسها في أحيان كثيرة. وإذا كان الجميع حاولوا القفز الى عربة العمل الإنساني، فإن هذا الوضع أفضى إلى حال من الفوضى خلفت مشاكل خاصة بالتنسيق بين العمليات الإنسانية، والتداخل بين العمليات الإنسانية المدنية والعمليات العسكرية. والسؤال المطروح في هذا الإطار: كيف تُمكن معالجة هذه الأزمات التي تكتنف العمل الإنساني الدولي؟ والواقع أن هناك عدداً من المتطلبات لتحقيق هذا الهدف يأتي في مقدمها ضرورة أن يصبح العمل الإنساني جزءاً من نظام دولي شامل لمعالجة الأزمات مع معالجة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان. وعلى العاملين في المجال الإنساني أن تكون لديهم رؤية مستقبلية لعملهم في القرن الحادي والعشرين، ولابد لهذه الرؤية أن تشمل أولاً وقبل كل شيء المزيد من التضامن بين العاملين في مواقع الأزمات أو المشاركين في جهود التنمية، وهذا التضامن لاپبد أن يقوم بين من يجاهدون من أجل استعادة السلام ومن يحاولون تضميد جراح الحرب، بين المجتمع المدني والسياسيين، وكذلك بين المنظمات الإنسانية والعسكرية، لكن هذا التضامن يجب ألا يحول دون استقلالية العاملين في المجال الإنساني، والتي تعتبر شرطاً أساسياً إذا ما كانوا سيعملون على تقديم مساعدة محايدة. وإذا ما سلّمنا بوجود اختلافات بين العاملين في هذا الحقل، فهذا يجب ألا يكون مسوغاً للانغلاق على الذات، بل على العكس تماماً فتبادل الخبرات يجب أن يدعم حتى يستطيع كل طرف أن يتفهم بشكل أفضل تحفظات الآخرين. من ناحية ثانية فإن العاملين في المجال الإنساني عليهم أن يكونوا واعين بالتأثير السياسي لعملهم في بعض الظروف وذلك حتى يتمتعوا بالصدقية المطلوبة لممارسة أعمالهم. يمكن القول إنه على رغم التحسن الذي شهدته حال اللاجئين، كما أشرنا سلفاًَ، إلا أن أسباب هذه المشكلة سوف تظل قائمة، وهي على النحو الآتي: - الأسباب السياسية، والناجمة عن الصراعات بين الدول أو الصراعات الداخلية في الدول، وإذا كان زمن الحرب الباردة شهد ارتفاع مؤشر الصراعات من النمط الأول، فإن عصر النظام العالمي الجديد يشهد ارتفاعاً في مؤشر الصراعات داخل الدول نفسها، وفي هذا الإطار تشير الإحصاءات الى أن الحرب في يوغوسلافيا السابقة أدت إلى تشريد حوالى 4 ملايين، كما أدت الحرب الأهلية في أفغانستان إلى تشريد أكثر من 6 ملايين. - تصاعد الفجوة الاقتصادية بين الشمال والجنوب، فصيغة التقسيم الإيديولوجي للعالم شرق /غرب، إبان الحرب الباردة، حل مكانها الآن صيغة الانقسام على أسس اقتصادية بين شمال غني وجنوب فقير، وهو ما يؤدي إلى حدوث موجات من الهجرة من الجزء الفقير في العالم إلى الجزء الغني، وفي هذا الصدد تشير الأرقام إلى أن هناك نحو 460 مليون أفريقي يعانون نقصاً في الغذاء من إجمالي 800 مليون على المستوى العالمي. - الانفجار السكاني الذي تشهده دول عدة في العالم الثالث، والذي يؤدي إلى فرار الملايين من هذه الدول الى الدول الأكثر غنى. - الكوارث الطبيعية، فعلى رغم الطفرة التكنولوُجية التي تحققت حالياً، فإن الإنسان لم يستطع التحكم في مصائب الطبيعة، التي تؤدي إلى تشريد ملايين البشر. والواقع أن مشكلة اللاجئين لا تنحصر فقط في بُعدها الإنساني، الذي يثير بالفعل آلاماً كبيرة لهؤلاء الذين اضطروا إلى الفرار من بلادهم، اذ إن لها العديد من الأبعاد الشديدة الخطورة: فعلى الصعيد السياسي، فإن مشكلة اللاجئين تحدث العديد من الآثار سواء بالنسبة إلى دولة المنشأ أو دولة الملجأ، في ما يتعلق بدولة الملجأ، فإن مجموعات اللاجئين والذين يشكلون إثنية متمايزة، أو بمعنى آخر هوية وطنية مميزة تعوق عملية الاندماج الوطني في الدولة المستقبلة لهم، أو بمعنى أكثر دقة تؤدي إلى حدوث اختلالات في الهيكل العرقي لهذه الدولة، خصوصاً إذا ما كانت محدودة العدد، وكانت مجموعات اللاجئين ذات حجم كبير، والمشكلة الأكبر إذا كان لهذه المجموعات امتدادات عرقية في دولة الملجأ، فذلك يصعد من احتمال اندلاع صراعات أهلية في تلك الدولة، وبالطبع فإن هذا القول ينطبق في شكل أكبر على حال اللاجئين الفارين من جراء حروب أهلية، والتي هي في الواقع السبب الرئيسي في النسبة العظمى من حجم اللاجئين على المستوى العالمي. أما في ما يتعلق بدولة المنشأ، فإن خروج مجموعات من اللاجئين منها، خصوصاً في حال ما إذا كان هؤلاء اللاجئون من عرقية واحدة، أو النسبة العظمى منهم تنتمي إلى إثنية واحدة، يؤدي إلى حدوث تغير في موازين القوى لمصلحة العرقيات الأخرى، وإذا كان هؤلاء اللاجئون فروا من جراء صراع أهلي، فإن عودتهم إذا ما تحققت لاحقاً، وهم الذين حملوا مشاعر مريرة تجاه الآخرين إبان وجودهم في مناطق اللجوء تدفعهم عادة إلى محاولة الانتقام من أولئك الذين حرموهم من أحضان الوطن، وهو ما يذكي الطابع السياسي لمشكلة العرقية. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن مشكلة اللاجئين تؤدي إلى حدوث اختلالات عديدة في دولتي المنشأ والملجأ، وتبتدئ هذه الاختلالات في شقين أساسيين، أولاهما أن هذه المشكلة تهدد التجانس الاجتماعي في دولة الملجأ، وإلى حد ما أيضاً في دولة المنشأ، إذا ما ارتبطت بفرار عرقية معينة، وثانيهما، فإن هذه المشكلة تؤدي إلى حدوث آثار في منظومة القيم في دولتي المنشأ والملجأ أيضاً، ذلك إن اللاجئين يحملون معهم إلى دولة الملجأ قيمهم وأنساقهم المجتمعية الخاصة، وبذلك فهم يهددون النمط القيمي في الدولة المستقبلة. وفي الوقت نفسه ومن جراء إحساسهم بأنهم قلة في وطن آخر، فإن ذلك يدفعهم عادة إلى ارتكاب أعمال العنف. وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن آثار مشكلة اللاجئين تبدو أكثر وضوحاً، فدولة المنشأ أو الدولة المصدرة للاجئين تخسر طاقات بشرية من جراء خروج مجموعات اللاجئين، ويصاحب ذلك بالضرورة اتساع مساحة الفقر بهذه الدولة، أما في ما يتعلق بدولة الملجأ، فإن هؤلاء اللاجئين يمثلون عبئاً على موارد هذه الدولة، وعلى رغم أن المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني، وبخاصة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تنهض بجزء من الأعباء المادية للاجئين، إلا أن القسم الأعظم من هذه الأعباء يتم تغطيته من السوق المحلية في دولة الملجأ، وإذا مااعتمد كعمالة في تلك الدولة، وهذا ما يحدث غالباًعند الأجور التي يتقاضونها، فإن ذلك يتبعه حدوث بطالة واسعة النطاق في أوساط العمالة المحلية، وهو ما يؤدي إلى حدوث توترات وصراعات بين مجموعات اللاجئين وهذه العمالة. من ناحية ثانية، فإن ظاهرة تدفق اللاجئين، وهذا واضح في شكل أكبر في حال افريقيا الى دولة مجاورة تؤدي إلى خلق مجتمعات بائسة، هي تلك التي يقطنها هؤلاء اللاجئون، تعاني بأساً شديداً في الخدمات الأساسية، وإذا ما اتجهت دولة الملجأ إلى محاولة تخفيف هذه المعاناة، فإن ذلك يؤثر حتماً على قوة اقتصادها القومي، خصوصاً إذا ما كان هذا الاقتصاد ذا قدرة محدودة، في الوقت نفسه كان عدد الوافدين كبيراً، وإذا كانت هذه الأبعاد تشكل الآثار الكلاسيكية لمشكلة اللاجئين، فإن هذه الأبعاد تكتسب طابعاً خاصاً في ظل النظام الدولي الجديد الذي شهد الكثير من المتغيرات ذات الصلة بطبيعة هذه الآثار، اذ صاحب ظهور هذا النظام اندلاع الكثير من الصراعات والحروب الأهلية وداخل الدولة، ومن ناحية أخرى ترافق مع هذا الظهور تصاعد قوة العامل الاقتصادي في العلاقات بين الدول، بمعنى تصاعد الفجوة بين الأغنياء والفقراء كما أشرنا سلفاً، وأدى هذان العاملان إلى حدوث تصاعد في مشكلة اللاجئين على الصعيد الكمي، رافقه بالضرورة تصاعد على صعيد هذه الآثار في اتجاه تعميقها، على رغم التنامي الذي حدث في العمل الدولي الإنساني، ويثير الحديث عن مشكلة اللاجئين ضرورة التعرض لحالتين على وجه التحديد، الأولى تتمثل في حال اللاجئين في افريقيا بالنظر إلى كونها القارة التي تعج بأكبر عدد من اللاجئين في العالم، والثانية تتمثل في حالة اللاجئين الفلسطينيين التي تثير حالياً الكثير من الجدل في ضوء المفاوضات العربية - الإسرائيلية، والسيناريوات الناقصة المطروحة لحل هذه المشكلة. إذا بدأنا بحال اللاجئين في افريقيا، فسوف نجد أن عدد اللاجئين في القارة السوداء يفوق الخمسة ملايين لاجئ حالياً، على رغم عودة أعداد كبيرة من اللاجئين الى موطنهم الأصلي، وهو ما يعني أن افريقيا تحتضن أكثر من ثلث عدد اللاجئين في العالم، ويقف وراء هذا المعدل الكبير تنامي واستمرار ظاهرة الحروب الأهلية في افريقيا التي عانت منها الكثير من الدول الافريقية منذ استقلالها، وما زال الكثير من هذه الدول حالياً يعج بهذه الصراعات، وثمة سبب جوهري يجعل من تلك الصراعات ذات طابع ديمومي، ويتمثل في أنها من نوع الصراعات الاجتماعية الممتدة، أي أنها تأخذ شكل الصراع الهيكلي الناجم عن حدوث حالات استقطاب مستعصية داخل البناء الاجتماعي للدول الافريقية، وهناك سبب آخر يتمثل في هشاشة بناء الدولة الافريقية بعد الاستقلال، ومن ثم فإن تلك الصراعات والتي تدعم هذه الهشاشة هي من ناحية أخرى تعكس فشل آلية بناء الدولة بسبب عجزها عن حسم مشكلات التنمية السياسية التي تواجهها الدول حديثة الاستقلال عموماً، ويظل في المطاف الأخير أن كلا الحالين يدعم وجود الآخر، فتزايد الصراعات الأهلية يحول دون بناء قومي للدولة الافريقية، وهذا الأخير يؤدي إلى تأجيج هذه الصراعات. وعلى رغم أن الإحصاءات تشير إلى انخفاض العدد الكلي للاجئين في افريقيا خلال الفترة الأخيرة ثلث عدد اللاجئين في العالم الآن تقريباً، مقارنة بما يوازي 50 في المئة خلال عام 1995، إلا أن ذلك لم يكن يعني انخفاض حدة الصراعات الأهلية الافريقية، وهي التي تعد السبب الأساسي لظاهرة اللاجئين، خلال هذه الفترة، شهدت ظاهرة اللجوء أو الفرار في افريقيا تغيراً جديداً من حيث الشكل، فبعد أن كانت ظاهرة الصراعات الأهلية تؤدي إلى فرار اللاجئين إلى الخارج، أي خارج حدود دولهم، فإن الإحصاءات الأخيرة تشير إلى أن العدد الأكبر من اللاجئين الافريقيين لا يتعدون حدود دولهم الدولية، وإنما يفرون إلى مناطق أخرى داخل دولة الصراع نفسها. وذلك بسبب التدابير التي دققت فيها دول الملجأ لمنع توافد أعداد كبيرة من اللاجئين إليها. وإذا كانت الحروب الأهلية في افريقيا هي السبب الرئيسي لمنشأ ظاهرة اللاجئين في افريقيا، فإن هناك أسباباً أخرى، ولكنها بالطبع أقل أهمية وتتمثل في الدواعي الاقتصادية، اذ تشهد افريقيا أيضاً موجات لجوء من دول الى دول أخرى تحت وطأة العامل الاقتصادي. ومن ناحية أخرى تلعب الامتدادات العرقية هي الأخرى دوراً، بسبب الحدود الدولية الهندسية بين دول القارة الافريقية، فإن هناك مجموعات سكانية ذات أصول اجتماعية وثقافية واحدة قسمت بين أكثر من دولة، وفي إطار محاولة تلك المجموعات إعادة لم الشمل تكون ظاهرة اللجوء. وهذه الحال تتضح بجلاء في مشكلة اللاجئين التي خلفتها الحرب المريرة بين رواندا وبروندي. أما في ما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، كانت هذه القضية ومنذ أكثر من نصف قرن إحدى المشكلات الرئيسية في أجندة الاهتمامات الدولية، إذ أن الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في أيار مايو 1948 ترتب عليه تشريد معظم الشعب الفلسطيني، وقامت إسرائيل بمصادرة نحو 93 في المئة من أراضي الفلسطينيين، ومع تصاعد حدة الصراع العربي - الإسرائيلي ونشوب أكثر من حرب أخرى خلال حرب 1948 تفاقمت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وأدرك المجتمع الدولي مبكراً حجم مشكلة هؤلاء اللاجئين، إذ أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قامت بتأسيس وكالة الأممالمتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في 8 كانون الأول ديسمبر 1949. وكان عدد اللاجئين الفلسطينيين عند تأسيس "أونروا" يبلغ حوالى 750 ألفاً، ثم وصل إلى 1،1 مليون نسمة عام 1960، وعلى رغم الدور الذي لعبته أونروا، ظلت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في تصاعد، وبعد بدء عملية السلام وتحديداً منذ توقيع اتفاق أوسلو في 1993، حدث تدهور واضح في دور أونروا، إذ بلغ العجز في موازنتها خلال 1999 حوالي 60 مليوناً، وحالياً يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى أونروا 4 ملايين و743 ألفاً وهناك مئات الآلاف يتبعون المفوضية التابعة للاتحاد الأوروبي، أو يعيشون من دون مظلة دولية إنسانية. وتثير مشكلة اللاجئين الفلسطينيين صعوبات كبيرة في وجه المفاوضات المتعثرة حالياً على المسار الفلسطيني، وكانت المفاوضات المتعددة الأطراف التي تم افتتاحها في موسكو في كانون الثاني يناير 1993، قد شكلت لجنة خاصة بهذه المشكلة، لكن عمل اللجنة لم يسفر عن شيء وظلت هذه القضية إحدى المعضلات في مفاوضات المرحلة النهائية جنباً إلى جنب قضية القدس التي تمثل هي الأخرى إحدى العقبات الأساسية في سبيل إتمام عملية التسوية السياسية. والحجة التي تسوقها إسرائيل دائماً للتنصل من أعمال حق عودة اللاجئين والذي تؤكد عليه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن عودة هذا الكم من اللاجئين سيؤثر تأثيراً كبيراً على طبيعة التركيبة السكانية للمجتمع الإسرائيلي، وإن هذه العودة باتت غير ممكنة. لكن الدراسة القيمة التي أعدها أسعد عبدالرحمن مسؤول ملف اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض حول هذه القضية الشائكة تكذب هذه الحجج، إذ تؤكد هذه الدراسة التي تأخذ في الحقيقة شكل الوثيقة نظراً إلى محدودية انتشارها أن التحليل السكاني لإسرائيل اليوم يؤكد تركز اليهود داخل وحول الأراضي التي كان يملكها اليهود قبل العام 1948، وأن الأراضي التي ملكها الفلسطينيون لا تزال فارغة، وللتوضيح تقول الوثيقة: إنه يمكن تقسيم إسرائيل إلى ثلاث مناطق: - المنطقة أ: وتمثل مساحة قدرها 1683 كم، أي ما يوازي 8 في المئة من مساحة إسرائيل، ويقطنها نحو 68 في المئة من اليهود وفقاً لإحصاء العام 1994، وهذه المنطقة هي تقريباً المنطقة التي قطنها اليهود قبل العام 1948 في فلسطين تحت الانتداب. - المنطقة ب: وتقدر مساحتها بحوالي 1318 كم، أي ما يقدر ب7 في المئة من مساحة إسرائيل ويقطنها 10 في المئة من يهود إسرائيل و20 في المئة من فلسطينييها، وتشغل هذه المنطقة المختلطة المساحة نفسها تقريباً التي يمتلكها الفلسطينيون الذين بقوا في إسرائيل، وهكذا تظهر الأرقام أن 78 في المئة من يهود إسرائيل يعيشون في منطقة لا تتجاوز مساحتها 15 في المئة من مساحة إسرائيل الكلية. - أما المنطقة ج: فمساحتها تبلغ 17325 كم، وهي بالأساس أراضي اللاجئين الفلسطينيين عدا بعض المراكز السكانية التي يقطنها يهود متشددون يبلغ تعدادهم حوالى 15 ألفاً و400 يهودي قروي من سكان "الكيبوتات". وبلغة الأرقام تشير الوثيقة إلى أن عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم سترفع الكثافة السكانية بنسبة 6 في المئة فقط في المنطقة أ، و5 في المئة في المنطقة ب، و32 في المئة في المنطقة ج، وسيبقى اليهود بغالبية أكثر من 50 في المئة حتى في المنطقة ج. ونعود من حيث بدأنا، أي وضع مشكلة اللاجئين في ضوء أزمة العمل الإنساني الدولي، فنشير بداية إلى أن هناك أيضاً، بعض المشكلات الفنية التي تواجه العمل الإنساني الدولي إضافة إلى المشكلات الأخرى التي تعرضنا لها، ويتمثل أهم هذه المشكلات في عدم وجود اتفاق واضح على مفهوم اللاجئ، اذ يتداخل هذا المفهوم في الواقع العملي مع وضع النازح، وهو الشخص الذي شرد من بيته لخوفه على آرائه السياسية أو العقائدية أو الدينية ولكنه ما زال موجوداً داخل حدود بلاده، ولم يتخطها الى الخارج، فكل من اللاجئ والنازح يواجه المصاعب نفسها، حيث الحرمان والتشرد. وإذا كانت المفوضية العليا، وفي إطار تنامي دورها الإنساني شملت برعايتها نسبة معتبرة من النازحين، فإن مشكلة هؤلاء ما زالت متفاقمة، الأمر الذي يتطلب إنشاء وكالة متخصصة للتعامل معهم، أو توسيع اختصاصات المفوضية فيدخل في اختصاصاتها رعاية النازحين جنباً إلى جنب مع رعاية اللاجئين. وفي النهاية تشير إلى قضية مهمة، وهي أنه إذا كانت الحروب هي السبب الرئيسي لمشكلة اللاجئين، فإن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي كان آخر موعد للتوقيع على النظام الأساسي لها في 31 كانون الأول ديسمبر الماضي يعد أمراً مبشراً في هذا الإطار، اذ توفر آليات عمل المحكمة وميثاقها ضمانة للحد من جرائم الحرب البشعة التي شهدتها مناطق عدة في العالم. * نائبة سابقة في البرلمان المصري.