عرضت "صالة أرابسك" في جدة السعودية ستين لوحة للرسام والناقد0 لأسعد عرابي، من محترفه الباريسي، بعضها من الحجم الكبير والآخر من الحجم الصغير. وتنوعت التقنيات بين الألوان الزيتية والأكريليك على القماش والقامبيرا على ورق البردي. تضم أعمال أسعد عرابي ذخائر بصرية حية تتصل بذاكرة المدينة العربية القديمة المسكونة بكائناتها وعوالمها المؤنسنة. تعزز هذه الذاكرة رحابة المواضيع والإيقاعات من طقوس الحياة الى التعابير التي تشكلها شخوص وكائنات المدينة والعلاقات بينها وانتهاء بالبحر وحكايات الأسطورة عن المدينة ذاتها. نعثر على حساسية التعاطي مع هذه الصور في مفردات تشكل روح المدينة ذاتها ووفق تقنيات تيارات التعبيرية والتشخيصية المحدثة تكشف قدرة الفنان على صياغة وتطويع أدواتها لمصلحة مواضيعه. وتؤكد أهمية حضور تلك التيارات وعلى عكس ما يحدث في المحترفات العربية عند إشاعة التعاطي مع تيارات التجريدية الغنائية وما بعدها. ونلمح احتفاء بأجواء التراكمات التعبيرية وخصائصها، وانحيازاً لمنطلقاتها ومناخاتها وكأن عرابي استخلص متعة ذاتية من تجاربه البصرية السابقة. يتضح ذلك بصورة دقيقة في تراشح تقاسيم الصباغات المتكلسة بنواظم ألوانها المتجاورة والمتضادة. تظهر تلك التباينات على سطوحها الرخوة محدثة انشقاقات متداخلة ومتسارعة بحيوية ضربات وارتعاشات فرشاته المتلاحقة والمتسربة على سطوح جدران لوحاته. تكمن أهمية الحبكة في تفاصيل شخوصه وكائناته وفي تعدد احتمالات قراءتها إذا تقمصنا حالاتها ومواقفها. تبدو تلك الشخوص والكائنات منهمكة في معاريج سلطانها ومتجلية ومتألقة ومتآلفة من خلال دلالات وإشارات التعبير التي تثيرها الوجوه والملامح في صيغ تعبيرية مشحونة بتأوهات الألم والقسوة والمشاعر التي تفرضها تضاريس الحياة. تتضح تلك الافتراضات بصورة أقوى في رسوم النسوة وهنّ يتحدثن في أزقة وأحياء المدينة القديمة. تحضر تلك الصور بكثافة حاملة خصائص بصرية تزيد من فرادة وخصوصية حساسية عرابي الشاعرية خصوصاً في منحنيات طبيعة تناوله المواضيع وفق تضاريس تقنية مشحونة. فتزخر أعماله بمظاهر متنوعة لسلوك الكائنات المستأنسة التي لا تخلو منها بالإجمال الحياة في المدينة العربية القديمة. ونتبين حساسية في الطقوس التي تتناول تلك الكائنات في مشاهد متعددة. لا يبدو بعضها بريئاً من إشارات عميقة ما زالت تخنق ذاكرة شخوص وكائنات المدينة العربية. على سبيل المثال، يصور لنا الفنان كائناً كالقط على أنه الجلاد الذي علينا ان نسلم له الأمر. يمارس ذلك القط ألاعيبه على الفأر ليجسد لحظة درامية تحتم علينا النظر إليها وفق مقولة "القاهر والمقهور". وهي المقولة الأكثر اجتراراً في تجسيد الحال الغالبة في مناخات المدينة العربية وطقوسها النزيهة. وبالتالي فإن عرابي إذ يشغلنا بشخوصه وكائناته مستعيراً إياها لتشكل صوراً لواقع الحياة في المدن العربية ووفق كل التأويلات التي تحتملها، وعلى طريقته التكوينية والجمالية فإنه يحرّضنا على إعادة النظر الى خصائص المنابع التي نستلهم منها مفرداتنا البصرية ويكرس علامات الاستفهام التي يثيرها فنانو المحترفات العربية عند هجرهم لمورثاتنا من دون النظر في جوهرها. ولعل عرابي يلمح بهذه التجربة الى ما تعانيه المحترفات العربية من شيوع إغراءات تيارات التجريدية الغنائية وما بعدها واستنساخها وترويجها بشكل استهلاكي لم يعد مقبولاً. هذه التساؤلات هي أهم ما يطرحه علينا الفنان عبر منجزاته، مستغلاً ثراء ثقافته النقدية وخبرته البصرية.