اثر انتصار الهند الكبير في حروب بنغلادش أوائل السبعينات، التمعت كاريزما انديرا غاندي حتى الابهار، وظهرت كقائدةٍ واستراتيجيةٍ عسكرية وديبلوماسية لامعة. ولكن هذا لم ينفعها مع شعبها، حين سادت الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة في أواخر العام 1974. واجهت إنديرا عندئذٍ تهماً بالفساد والتلاعب في نتائج الانتخابات التي تخصها شخصياً، وضغطت المعارضة من اجل استقالتها، وأصدقاؤها من اجل ان تقدم استئنافاً قانونياً لردّ التهمة، التي لو ثبتت لحرمت من الترشح والانتخاب لست سنوات متتالية. النصيحة الوحيدة التي سمعتها، هي التي جاءتها من ابنها الذي غدا شهيراً في العالم كله في ما بعد: سانجاي. وكان سانجاي ابنها الأصغر الممتلئ حيويةً واندفاعاً، أما النصيحة فهي اعلان حال الطوارئ. وكان لها ذلك، من اجل ان تكون قادرةً على ان تفعل ما هو "أفضل" من اجل الهند. فقد أمرت باعتقال رفاق ابيها وتلاميذ المهاتما غاندي الأقربين، وكللت التعتيم الاعلامي بتكليف سانجاي بأمر الاشراف على الرقابة، وارتفعت الشعارات القدرية الكبرى "إنديرا هي الهند، والهند هي انديرا" كما عمل سانجاي على تغطية جدران الهند بصور أمه وعليها عبارات الشكر على انقاذ الهند من الفوضى التي كانت سوف تضربها. عملياً لم يبقَ معارض خارج السجن أو في بيته، مع تجميع عددٍ لا بأس به من الصحافيين والمحامين والمثقفين والنشطاء في السجون. لم تكن مرحلة الطوارئ مجانيةً بالطبع، فقد ساد "استقرار" مهم من خلال التشديد على المهربين وتجار السوق السوداء والمتهربين من الضرائب وأمثالهم، فأثر ذلك على أرقام الانتاج وخفض الأسعار... وقيل حتى على السماء التي جادت بأمطارٍ أكثر في ذلك العام. ولكن الاستياء العام تزايد في الوقت نفسه من حال الطوارئ وأحكامها، من مثل تجميد الأجور والضغط الزائد على الناس، وأيضاً من حملة التعقيم الشهيرة التي قادها سانجاي لمنع العائلات من انجاب أكثر من ولدين. ولم تر انديرا وابنها من ذلك الا جوانب التطور الاقتصادي، فقررت اجراء الانتخابات التي كانت واثقة من فوزها فيها تصديقاً منها لدعايات ابنها ولافتات الشوارع، وخوفاً - ربما - من انقلاب عسكري يطيح بها ويُعيد العمل بالدستور والقانون. وجرت الانتخابات بالفعل في أوائل 1977 وانخفض عديد نواب حزب المؤتمر الى 153 مقابل 259 للمعارضة. في ما بعد، ربط بعض المحللين المستقلين ما بين المصائر التراجيدية لعائلة غاندي سانجاي في حادث طائرة، وانديرا وراجيف باغتيالٍ من قبل متطرفين، وبين استفزاز التاريخ والمجتمع الهندي بحالة الطوارئ. في بلادٍ أبعد من الهند، فرض ماركوس الأحكام العرفية على الفيليبيين ما بين عامي 1972و1981، وفرض دستوراً جديداً من أجل صلاحيات ضخمة لنفسه في عام 1973. واستطاع ماركوس من خلال الأحكام العرفية ان يقوم بأشياء كثيرة للفيليبيين، لم يكن منها كبح الفساد المستشري بدءاً من ذاته وعائلته، ولا منع أعمال العنف التي تمارسها المنظمات المتطرفة بازديادٍ ملحوظ، ولا خلق الظروف التي تساعد على تطور بناء الدولة وتقدمها في مضمونها المعاصر. وحدث ما حدث في ما بعد، ولكن الأذى الذي سببته فترة الطوارئ لم ينته بعد. وهذا تأخير - تأتأة؟! - للسؤال التالي: ماذا تفعل الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ في بلادنا العربية حتى الآن؟! قيل في تعريف الأحكام العرفية إنها حكم موقت من قبل السلطات العسكرية لمساحةٍ محددة من الزمن الذي تقتضيه حالة الطوارئ، ولا تكون السلطات المدنية قادرة على الحكم في تلك الفترة. والآثار القانونية لإعلان الأحكام العرفية تختلف من حالٍ الى حال، ولكنها تتضمن عموماً تعليق العمل بالحقوق المدنية العادية وتعميم العدالة العسكرية المختصرة على السكان المدنيين. وقيل عن الدولة أشياء كثيرة ما زالت تناقش، ما عدا كونها نتاجاً لعمليتين متوازيتين من الاجتماع المدني والاجتماع السياسي. أو كونها حصيلة اتفاقٍ مدني لتنظيم حياة المجتمع وتطوره، اضافة الى وظيفتها السياسية القاهرة. يجزم البعض بأن حال الطوارئ أفضل حلٍّ لموضوعة بناء الدولة، لأنها تتيح أفضل امكان للقهر، وتأسيس الدولة القوية. وأن على القانون والديموقراطية أن ينتظرا في الفناء الخارجي، ويبنيا لهما بيتاً مستقلاً أو بيتين ان ضجرا من الانتظار. هذا البعض قليل جداً في الواقع، ولكنه يمسك بزمام الحقيقة، على الأقل. ولا يدرك أن هذه الحقيقة لا تموت مع الزمن، بل تكثر متطلباتها وتطول فاتورتها. إن سلطة الطوارئ تأكل من دولة القانون، وتأكل - من ثم - من الدولة ذاتها. وهذه المفاعيل ذات علاقةٍ بالزمن. فلا يمكن لتعليقٍ - موقت - للعمل بالقوانين وإحلال قوانين استثنائية مكانها، إلا ان يكون تعليقاً لبناء الدولة ذاتها ولتطورها الطبيعي والتقدمي. فكيف اذا اصبح هذا التعليق دائماً، وأصبح الاستثناء قاعدة؟! وسلطة الطوارئ تأكل حتى من دولة القهر، لأنها تحل مكانها سلطة القهر... فتحل الأجهزة القمعية الاستثنائية بدلاً من العادية، والأحكام العرفية والمرتجلة بدلاً من المحاكم العادية، وادارة الطوارئ أو الحزب بدلاً من أجهزة الادارة المستقلة بأهدافها ومسارها بمقدار استقلال الجانب المدني للدولة. لذلك يغدو استمرار حال الطوارئ عائقاً ومعرقلاً للتطور نحو سيادة القانون، ومحولاً الدولة الى سلطة بعد ان سارت خطىً على طريق التحديث والتقدم. ولطالما طُرح مبرران اساسيان لفرض حال الطوارئ، أولهما ضرورة الخلاص من حال فساد الطبقة السياسية المستشري، وثانيهما مواجهة الخطر الخارجي على الوطن والأمة. في بلاد أخرى يطرح سبب ثالث لا علاقة لنا به، وهو احساس الجيش بالمخاطر على دستور البلاد نصاً أو روحاً، وكان هذا سبب انقلابات تركيا غالباً. وأثبت التاريخ العربي الحديث، أن طول الفترة التي تعيشها مجتمعاتنا تحت حال الطوارئ والأحكام العرفية سبب عضوي كبير للفساد، وللفساد الكبير الذي ينخر تحت ظلال سيوف الطوارئ ذاتها. وذلك لأن لا شفافية يمكن ان تمارسها سلطة مسلحة بسلاحٍ استثنائي، ولا شجاعة لممارسة الرقابة الفاعلة من عزّل السلاح امام حملة هذا السلاح بعد طول استعماله عليهم. ومن ثم لا قانون ونيابة عامة تلاحق الفاسدين، حتى ولو كانت هنالك صلاحيات للنيابة تفوق السلطات الاستثنائية وامكانات لتطبيق القانون العادي على صاحب الاستثنائي... ولن يكون ممكناً اكتشاف وملاحقة فاسدٍ كبيرٍ إلا بعد زمنٍ طويلٍ قد يجيء أو لا يجيء، والا برغبة وقرارٍ خاصين أو عارضين. أما الأخطار على الوطن، فتلك حكاية أخرى. كنا ظننا أنها انتهت منذ سبعة وعشرين عاماً على الأقل، وهذا تاريخ حرب تشرين. وحصل اجماع ما بين السلطات والناس بعد حرب حزيران يونيو على ان الهزيمة لم تكن للأنظمة وحدها، بل شملت الأمة بأسرها، بنىً وتركيبات وعجزاً عن تجاوز الفوات. ولذلك كان مطلوباً ان يتم العمل على هذا المستوى حتى يمكن تحقيق انتصارٍ على العدو القومي. ولاحت ملامح من ذلك هنا وهناك، كانت متناسبةً في حجمها مع حجم الانتصار الذي تحقق في تشرين، ثم كفى الله المؤمنين شرّ القتال فكفاهم أيضاً شرّ الحاجة للناس، واستعادوا سريعاً الشعور بالحاجة لاستمرار كف شر الناس، وهذا يحتاج الى استمرار الطوارئ والإبقاء على الأحكام العرفية، وعدة الشغل كافة. حالياً: لماذا لا تفرض حال الطوارئ في لبنان، أو لماذا لا ترفع هذه الحال في سورية ومصر؟! لم يكن في لبنان من حاجةٍ الى الأحكام العرفية حتى يتم تحرير جنوبه، وبعض هذه الأحكام المتسرب من غير مكانٍ لم يعجل في التحرير أيضاً وهنا قول كثير يمكن ان يقال. وليس في مصر حاجة لقانون الطوارئ للحفاظ على حالة السلم ولا احتمال الحرب مع إسرائيل، كما لا يوجد سبب يجعل من وجود حال الطوارئ ضماناً لصد هجوم اسرائيلي على سورية... وليس هنالك بلد في العالم يفرض حال الطوارئ للدفاع عن الوطن خارج أوقات العمليات الحربية عشرات السنين، فيقوم بذلك بتضييع جزءٍ من طاقة المجتمع اللازمة لتقدمه واللازمة أيضاً لمواجهة أي احتمال خطر وطني في المستقبل. الاحتمال الأخير أن يكون استمرار حال الطوارئ باباً مفتوحاً للمعارضين السياسيين يوردهم الى السجون بمددٍ مفتوحة. وقد اصبحت خسائر هذا الباب أكثر من مكاسبه، لذلك ينبغي اغلاقه بأسرع وقتٍ ممكن، فقد غدا "سجين الرأي" من الديناصورات الطيبة التي عاشت في العصر الجوراسي، ونحن سنرطن قريباً بلغة الأنترنت. * كاتب سوري.