السبت 17/9/2011: على شرفة لبنان يوم على شرفة في آخر لبنان. دعونا أنفسنا إلى شرفة صالح، نحن أصدقاءه من غير مكان في لبنان، وواحد منا وصل من باريس. الشرفة المعلقة في بلدة العديسة يجاورها في الأعالي قصر خرب تشي جدرانه بماضي زهو وقسوة. أهل القصر كانوا يذرعون بخيْلهم أملاكاً شاسعة، فقطعت إسرائيل الأملاك والنفوذ. ولا أحد يذكر حركتهم الحرة ما بين حيفا وبيروت، ومرورهم من زاوية الحولة إلى شرق الأردن. هم الآن في آخر وطن اسمه لبنان يهربون من ضياع الإرث إلى الجنون أو السفر، تاركين شواهد من حجر وحكايات غضب وحلاوة تين نخرها السوس ومدارس حكومية تخرّج متمردين لا يفرطون بحقهم ويبارزون حتى إسرائيل. على الشرفة الأصدقاء، جمعوا أعمارهم على الطاولة لتجتمع الأرض مجدداً وتمّحي الحدود. بدأوا الكلام على أسماء الأشجار الكثيفة هناك في آخر تلة لبنانية وفي التلة المجاورة حيث مستعمرة مسكفعام. جمعوا أعمارهم فوصلوا إلى رقم يؤرخ انتصار الأشرف خليل على دوقية عكا ونهاية ممالك الفرنجة في بلادنا. لا يستطيع الجالسون على الشرفة الهرب من التاريخ. يطلون على جمال الطبيعة، ولكن، أيضاً، على مصطرع الإقامات حيث لا مكان جامعاً، إمّا أن أكون أو أن تكون. شرق البحر المتوسط هذا ممر الجبابرة، ولكن، هو أيضاً إقامة الأذكياء يتدبرون عيشهم بالصبر الدهري وبحكمة متراكمة. كم يبدو حديث السياسة سطحياً على الشرفة، سياسة المصالح العابرة والنجوم السريعة الانطفاء والخطب التي تعلو ضجتها وتختفي حكمتها. على الشرفة تحلو حكايات الحاضر والأمس القريب. أن يسلم لبنان من خطر القضم. أن يبقى جنوبه عصياً على الاحتلال، أي وثيق الصلة بالعاصمة بيروت، ولكن، بالضرورة والأولوية، أن يبقى الأهالي في آخر لبنان أحراراً، لا يستتبعهم أحد وتبقى أشواك أسئلتهم، والانفتاح على ثقافات وأساليب عيش متنوعة. على الشرفة جمع الأصدقاء أعمارهم. لم ينكروا أن لكل عمر تجربته الخاصة، وأن سرّ بقاء لبنان، أي بقاء جنوبه، هو هذه الخبرات المتنوعة، معرض الأشكال والألوان، حكايات المقيمين وحكايات المغتربين، قيمة الرجل وقيمة المرأة، العلم والعمل، وتنوع مصادر الأغاني ولقاء الضحك والبكاء. على شرفة في آخر لبنان، أصدقاء يلتقون بعد فراق، تجمعهم حرية ورثوها عن الأجداد ويحافظون عليها بقوة. حرية الفكر والقول والتعليم والسفر والعمل والتملك. هي درعهم في أزمنة السيوف والرماح والرصاص أيضاً. الثلثاء 20/9/2011: سيف الحنين قلت للصديقة وقد تركت بلدها إلى باريس: احذري سيف الحنين فإنه قاتل من الضربة الأولى. كانت في زيارة فمددتها وانطوى اليوم إثر اليوم والأسبوع بعد الأسبوع حتى صار الزمن جداراً وكثرت الأوهام حول أخطار العودة. يبدأ الوهم برواية شخص غير موثوق ليتراكم الخوف فيبقى من في الوطن في الوطن ومن خارج الوطن خارجه. ليست الحالة هي الأولى، فالمنفى يبدأ مطلباً لكنه يصبح واقعاً مستمراً بمرور الزمن. ولم يكتب العرب المعاصرون عن منافيهم سوى انطباعات شخصية وقصائد، فيما كتب الأجانب، خصوصاً الروس، أعمالاً روائية وأخرى توثيقية عن مثقفين انتشروا في أوروبا هرباً من سطوة القيصر، وكانت خلافاتهم شبه يومية في شؤون السياسة والفكر فوصفوا بأنهم جيل خائب زرع الريح فحصد العاصفة. وتعزز المنفى الأوروبي والأميركي لاحقاً بالهاربين من سطوة ستالين، ثم بالهاربين من الستار الحديد الشيوعي الذي شمل أوروبا الشرقية، وغالبية هؤلاء فنانون وأدباء. اندمج المنفيون الروس لاحقاً في مجتمعاتهم الجديدة حيث أبدعوا فكراً وفناً وتبوأ عدد منهم مراكز في التعليم الجامعي وفي معاهد البحوث العلمية وتلك المعنية بالسياسة والاقتصاد. نستبعد من المنفيين العرب المهاجرين لأسباب اقتصادية والشمال أفريقيين الذين اختاروا الفرنسية لغة فصار لزاماً أن يسكنوا في أرض فرنسا. المنفيون العرب هم اللاجئون من سطوة أنظمتهم طالبين حرية التعبير، ثم يطلبون الإقامة الدائمة وما يلزمها من عمل وتحضير أجواء تسمح بالإبداع. الصديقة التي تركت بلدها إلى باريس لم تصل إلى برنامج ليومها من الصبح إلى المساء. لا يكفيها حضور الأفلام ومتابعة نشاطات ثقافية والتواصل مع الأحداث في بلدها الأم. ثمة انسداد في الإبداع لأنها أسيرة عادات في الكتابة، بل هي أسيرة مكان الإبداع فإذا تركته قد تصل إلى طريق مسدود. الوقت مبكر لتختار صديقتي وأصدقاؤها الإقامة الدائمة في المنفى أو المغامرة بالعودة إلى الوطن لتتجدد هناك ثنائية الإبداع والإقامة. الوقت مبكر، ولكن سيأتي الاختيار الذي يجدد نهضة المبدع أو يخرسه إلى الأبد. في الوقت الضائع أحذر الصديقة من الحنين. يبدأ صوراً حميمة في الذاكرة وينتهي سيفاً جارحاً أو قاتلاً. الأربعاء 21/9/2011: الجميلة البعيدة تحمل جمالها وطفلتها من مدينة إلى مدينة، عارضة صلصال الأهل على نار هادئة هنا وحامية هناك. قالوا إن الأدب شجاعة وصدّقت. لم تعرف أن أدباء كثيرين اختبأوا من العواصف وبقي أدبهم عاصفاً. في أولى خطوات الإبداع، في براءة الهواية، في ذلك الدمج بين اللحم والورق، بين اللهاث والجملة الطويلة. تحمل جمالها بعيداً وربما إلى آلاسكا. في أقصى البرودة لا مكان للصلصال. كل شيء أبيض حيث تكتفي الأفران بإنتاج الخبز لا إنتاج التماثيل. التي لم أعرفها جيداً، أدرك معاناتها في هذا الغموض يلفّ شعباً أنتج أباطرة لروما ويعجز عن إنتاج نظام سياسي يحفظ حريته. الخميس 22/9/2011: سجنيّات ليبية تتحرر ليبيا وتتعزز حرية كتّابها. عمر أبو القاسم الككلي من هؤلاء. كتب «سجنيات» عن تجربته في معتقلات نظام معمر القذافي الجماهيري. لم يحدث أن كان الككلي في سجن «حرره» القذافي في إحدى نوباته. هل حدث ذلك حقاً؟ يبدو الككلي كاتب قصة بارعاً، خصوصاً القصة القصيرة الصعبة المراس. هكذا تشير كتاباته التي أعطاها العنوان «سجنيات» ولم تنشر بعد. من مخطوطة الكاتب هذه المقاطع: - رسالة خطر للسجين، وهو يمد يده بالصحن لتلقي نصيبه من الغداء، أن يخاطر ويسأل العسكري الذي كان يوزع الطعام: لماذا أخذت كمية الطعام التي تمنحونها لنا تتناقص، هذه الأيام، يا عريف عمر؟! فسارع العريف عمر إلى الرد، بهدوء، وهو يضرب الغارف مكفياً على الصحن: كثرت أمة محمد! - رقصة تجديد الهواء في الصيف، حين يأسن الهواء في الزنزانة، ممتلئاً بروائح الأنفاس والعرق، ويثقل التنفس، قليلاً، وكدر النفوس يزداد، ينهض اثنان ممن في الزنزانة، يمسكان في ما بينهما بملاءة بيضاء (ككفن الميت، وراية المستسلم، ومعاطف الممرضين والأطباء، وثوب العروس، وزهور الياسمين والبرتقال، وبياض العين الحوراء...) ويأخذان بهزها، كما لو كانا ينفضان ما علق بها من غبار. كان واحد عنصراً ثابتاً، لأنه هو الذي كان يقوم بالمبادرة، ويتغير العنصر الثاني أحياناً. كنت أظل أراقب (حين لا أكون أحد المهوّيين، ونادراً ما أكون) ارتفاع وانخفاض الملاءة وتموجها، مستمتعاً بلطافة ما تحدثه رفرفتها من نسيم، متأملاً، بالخصوص، وأنا أخفي ضحكة منبجسة، حركة عنق صاحب المبادرة، الشبيهة بحركة طائر يطاول بمنقاره ثمرة معلقة. وكثيراً ما كنت أقول في نفسي: إذا ما حدث أن خرجت من هنا، فسوف أقترح على مصمم رقصات تصميم رقصة باسم: رقصة تجديد الهواء، وأخرى باسم: الطائر المقيد والثمرة المعلقة. - عجين الاتصالات كريات من عجين، متخذ من بواقي الخبز، يكوّر حول قصاصات ورق انتزع من مصادر متنوعة، كتبت عليها أشعار، وقصص، ومقالات تحلل الأفكار والسياسات والواقع وتستقرئ المستقبل، ورسائل شوق ومودة وتحايا. ترمى في الهواء، فتعلو طائرة فوق سور قسمنا والأسلاك الشائكة التي تعلوه، عابرة البرزخ الفاصل بين القسمين، ومحلقة فوق سور القسم المجاور والأسلاك الشائكة التي تعلوه، لتحط في الساحة. تتم العملية في حذر من انتباه الحراس على السطح، وقدر من السرية إزاء غير المأمونين من نزلاء القسم. يتولى شخص جمع البريد وتطييره، في يوم معين ووقت محدد، واستقبال البريد العائد وتوزيعه. في اليوم والزمن المحددين يرمي الشخص الآخذ على عاتقه إدارة البريد حصوات استطلاع وتنبيه عجينية من ساحة قسمنا إلى ساحة القسم المجاور، فإذا عادت كان ذلك علامة أمان.