لعل المؤشر الأكثر اهمية من الناحية العملية في الحكومة الأولى في عهد الرئيس بشار الأسد ان قرار الاختيار غلّب المصلحة العامة على اي اعتبار آخر ليعطي دفعاً كبيراً لمشروع الإصلاح الاقتصادي المطروح منذ وصوله الى الحكم في تموز يوليو العام الماضي. إذ تكشف تشكيلة الوزارة الثانية للدكتور محمد مصطفى ميرو توجهات الدكتور بشار بعدما كانت حكومته الأولى تعكس جزءاً من اتجاهاته الأسد لأنها تشكلت في آذار مارس العام الماضي اي قبل رحيل الرئيس حافظ الأسد بأشهر. أعطت الحكومة الجديدة مؤشرات عدة منها تراجع عدد اعضائها من 36 الى 34 وزيراً وانخفاض عدد وزراء حزب "البعث" الحاكم من 26 الى 19 لمصلحة المستقلين غير الحزبيين زاد عددهم من 5 الى 7 وزراء وأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" ارتفع عددهم من 5 الى 8 وزراء. ويذكر ان دخول ثمانية احزاب من التيارين الناصري والشيوعي في "الجبهة" منذ العام 1972 يعني "مشاركتها" في التمثيل السياسي في البرلمان والحكومة مع بقاء غالبية كبيرة ل"البعث" باعتباره الحزب الحاكم منذ 1963 و"القائد للدولة والمجتمع" بحسب المادة الثامنة من الدستور الذي اقر في العام 1972 بعد وصول الرئيس الراحل الى الحكم العام 1970. الى ذلك تضمنت حكومة ميرو التي تشكلت في 14 الشهر الجاري الكثير من المؤشرات السياسية والاقتصادية والعلاقة بين المؤسسة الأمنية والسلطة التنفيذية، وفي مقدمها تسلم اللواء علي حمود رئيس "ادارة المخابرات العامة" وزارة الداخلية، خلفاً للدكتور محمد حربة بعد شغله هذا المنصب مدة 14 سنة، لدوره كقيادي في "البعث" خلال المواجهات العنيفة بين السلطات وحركة "الاخوان المسلمين" بين عامي 1976 و1982. ويعكس ذلك مدى الثقة باللواء حمود 57 سنة، الذي لم يمض سوى بضعة اشهر على انتقاله من مدير فرع الأمن العسكري في حلب الى رئاسة "إدارة المخابرات"، التي تسلمها قبل ايام اللواء هشام بختيار، ووجود اتجاه لدى الأسد الى تقوية وزارة الداخلية والحكومة وتعزيز "سلطة المؤسسات". يضاف الى ذلك، ان الحكومة شهدت تغيير 7 من الوزراء ال13 الذين دخلوا حكومة ميرو الأولى كان بينهم الدكتور حسان النوري وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية ووزيرا الصناعة احمد الحمو والسياحة قاسم مقداد الذين لم يعملوا كوزراء سوى منذ آذار العام الماضي. وتأتي اهمية هذا التغيير في انه ترجمة لما نقل عن الرئيس الشاب من ان "التغيير سيطاول اي وزير لا ينجح في وزارته وأن التقويم سيكون في شكل سنوي". كما ان تشكيلة الحكومة ترجمت عملياً التغييرات التي حصلت في المؤتمر القطري التاسع لحزب "البعث" الحاكم الذي عقد بين 17 و20 حزيران يونيو العام الماضي اي بعد ثلاثة ايام على وفاة الرئيس الأسد. وظهر ذلك في تسلم الدكتور محمد الحسين منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية وفاروق الشرع منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية بعد انتخابهما كعضوين في القيادة القطرية ل"البعث" التي تضم 21 عضواً يشغلون كبار المناصب في الدولة والجيش والحكومة بقيادة رئيس الجمهورية. وبهذه الترجمة حافظ "البعث" على الدور القيادي للإصلاح الاقتصادي مع اعطاء وزراء مستقلين الحقائب الوزارية التي تتناول الشأن الاقتصادي. وظهر قرار تغليب المصلحة العامة في ان "البعث" خسر ثلاث حقائب اساسية لمصلحة المستقلين بعد ان اعتاد على شغلها منذ وصوله الى الحكم العام 1963 وهي: السياحة التي تسلمها الدكتور سعدالله آغا القلعة المقرب جداً من الرئيس، والتموين التي كانت من اعمدة "البعث" في الحكومة وسياساته الاشتراكية حيث انها ذهبت الى بسام رستم الناصري بعدما كان يتسلمها القيادي "البعثي" اسامة ماء البارد، والمال التي ذهبت من الدكتور محمد خالد المهايني بعد 15 سنة الى الدكتور محمد الأطرش الذي تسلم وزارة الاقتصاد في مطلع الثمانينات وخرج من الحكومة بسبب خلافه مع رئيس الوزراء السابق الدكتور عبدالرؤوف الكسم على آلية تسعير الليرة قياساً الى الدولار وأثرها على الحياتين الاجتماعية والاقتصادية في خضم المواجهات مع "الاخوان". لكن المؤشر الأكبر الى طبيعة الانفتاح الاقتصادي في المستقبل ظهر في اعطاء حقيبة الاقتصاد للدكتور غسان الرفاعي الخبير السوري في "البنك الدولي". فالقرار كان مفاجئاً الى حد ان الدكتور الرفاعي لن يصل الى دمشق قبل مطلع العام المقبل لأنه يعمل في "البنك الدولي" منذ العام 1972 بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة ساسكس البريطانية العام 1980. لا شك في ان تسلمه هذا المنصب سيعطي دفعاً لتطوير سورية علاقاتها مع المؤسسات المالية الدولية واستمرار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق شراكة يتضمن تحريراً كاملاً للاقتصاد وتقليص الحماية على البضائع المحلية والدخول في منطقة التجارة الحرة المتوسطية في العام 2010 و"منظمة التجارة الدولية" WTO التي اكد معاون وزير الاقتصاد الدكتور فؤاد السيد ل"الحياة" ان سورية "مصممة" على الانضمام اليها على رغم "عرقلة" اسرائيل والولايات المتحدة لطلب دمشق الانضمام. ويتفق الدكتور الرفاعي 59 سنة والأطرش 67 سنة وآغا القلعة 51 سنة مع وزيري الصناعة عصام الزعيم 61 سنة والمواصلات محمد بشير المنجد 54 سنة في كونهم مستقلين ويحملون شهادات الدكتوراه من جامعتي باريس ولندن ما سيترك تغييراً في الذهنية التي تتعاطى في الشأن الاقتصادي، علماً أن الزعيم انتقل الى وزارة الصناعة بعد الغاء وزارة التخطيط التي شغلها منذ آذار العام الماضي بعدما نجح في تشكيل "هيئة مكافحة البطالة" برأسمال قدره بليون دولار اميركي لإيجاد فرص عمل جديدة لنحو 200 ألف شخص يدخلون الى سوق العمل سنوياً. ويقول خبراء اقتصاديون ان "هؤلاء الوزراء مستقلون فعلاً في المعنى الحزبي مع حرصهم الكامل على المصلحة العامة للبلاد لإنجاز الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة وتنفيذ القرارات والمراسيم التي يتخذها الرئيس الأسد في هذا الإطار". ومع ان وزيري النقل مكرم عبيد 57 سنة والتعليم العالي حسان ريشة 56 سنة ينتميان الى "البعث" ودرسا في جامعات اوروبا الشرقية، فإن السنوات الأخيرة اعطتهم فرصة الاطلاع على التجارب الغربية في ادارة اقتصاد السوق اذ ان عبيد خضع لعدد من الدورات في بريطانيا والسويد والولايات المتحدة وأن ريشة درس قبل سنوات في جامعة هيوستن الأميركية. في هذا السياق، لا بد من الإشارة الى الدور الكبير الذي لعبته "الجمعية العلمية للمعلوماتية" في اختيار الوزراء، ذلك ان هذه "الجمعية"، التي ترأسها الدكتور بشار منذ العام 1994 الى انتخابه رئيساً، ساهمت في شكل كبير في نشر الانترنت والتكنولوجيا في كل انحاء البلاد ادى الى اختيار اربعة وزراء من مجلس ادارتها هم: آغا القلعة للسياحة، ريشة للتعليم العالي، المنجد للمواصلات، وعبيد للنقل، كما ان الرئيس الشاب كان عين عضواً خامساً في مجلس ادارتها، الدكتور غسان لحام محافظاً لمدينة دمشق، وسادساً هو نبيل عمران محافظاً لمدينة درعا. وجاء اختيار ال17 وزيراً جديداً الى الحكومة الجديدة بعد دراسات معمقة جرت في الأشهر الأخيرة، حين انشأ مقربون ومستشارون للأسد بنك معلومات عن 400 مرشح اختير منهم 120 شخصاً ثم رشح 70 شخصاً الى مناصب وزارية، ما يعني ان الفترة المقبلة ستشهد تغييراً اضافياً في مناصب عالية اعتماداً على هؤلاء المرشحين حتى لا يبقى اي عذر للحكومة الجدية كي تقلع فوراً في تنفيذ القوانين الإصلاحية والمشروع الانفتاحي على العالم الخارجي.