يتواصل السجال حول المسلسل التلفزيوني المصري "عائلة الحاج متولي" في القاهرة ومعظم العواصم العربية. وحلّ المسلسل في المرتبة الأولى في احصاءات أجريت أخيراً في أكثر من عاصمة عربية. هنا مقاربة أخرى لهذا المسلسل الظاهرة. تبدو كلمة "ندمان" التي قالها الحاج متولّي في الحلقة الأخيرة لابنه سعيد، مُضحكة، إذا ما قيست باللقطة الأخيرة من المشهد الأخير عندما يمدّ الحاج متولّي رأسه طويلاً لمتابعة فتاة جميلة مرّت أمامه في حفلة زفاف ابنه الصغير! ويبدو ان هذه الكلمة كانت مشتركة لفظياً لا عملياً بين الحاج متولّي والكاتب مصطفى محرّم، الأوّل لأنه لم يقنع الناس بما فعل زواجاً اثر زواج في وقائع المسلسل ولا بالتبريرات التي قدّمها لذلك، والثاني لأنه أراد أن يتخفّف من الحمل الثقيل في شخصية الحاج متولّي وهو يتوقّع معركة وربما معارك نقدية تقول له ماذا فعلت يا مصطفى؟! والواقع ان لا الحاج متولّي كان نادماً على "أفعاله" ولا الكاتب مصطفى محرّم، والسبب ذلك التجاوب الكبير الذي أعلنه الجمهور العربي حيال مسلسل "عائلة الحاج متولّي" والذي يغري بالأخطاء في غلاف من البساطة والعفوية مرّت عبرهما مواقف "لا تركب على قوس قزح" لاستحالتها على الاقناع. وخفة دم المسلسل عموماً، واجادة الممثلين أدوارهم والأحداث الطريفة والغريبة التي ملأته هي التي حرفت نظر الجمهور عن منطقية ما يجري أو لا منطقيته الى الانسياق "اللاإرادي" أحياناً خلفه والنابع من لعبة الذكر والأنثى التاريخية ولكن على الطريقة العربية! ينبغي التنبّه أولاً الى ان مسلسل "عائلة الحاج متولّي" قام على تفسير غير حقيقي للآية القرآنية الكريمة التي تحدثت عن تعدّد الزوجات. بمعنى ان الكاتب مصطفى محرّم بنى قصته على فهم شائع في المجتمع العربي يبتر الآية بالقول "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة" من دون ان يلتزم بمطلع الآية الذي يحدّد الأسباب للسماح بتعدد الزوجات، وهذا الفهم الشعبي ناقص تماماً وانعكس نقصاً في المسلسل أيضاً. ان الآية الكريمة في نصّها الكامل تقول: "فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء"... الى آخر الآية. والتفسير هو انه إذا خفتم أن يعيش الأيتام حياة غير طبيعية ولا عادلة، فتزوّجوا امهاتهم أي الأرامل الى حدود أربعة نساء فإن خفتم ألا تعدلوا بينهن، فواحدة. وهناك آية كريمة أخرى في السورة نفسها "النساء" تقول بالحرف "ولن تعدلوا بين النساء ولو حَرَصتم"، في معرض التشديد على فكرة العدل في الموضوع. ومسلسل "عائلة الحاج متولي" جعل بطله نور الشريف هائماً على وجهه في "حب الزواج" من دون أسباب موجبة غير هواه، ومن دون القواعد المطلوبة في الآية والمحددة بالأرامل. أما بعض الجمل الحوارية التي كانت تمرّ على لسانه من وقت الى آخر في المسلسل عن حرصه على العدل بين نسائه فما هي إلاّ تأكيد على أن العدل غائب عن تصرفاته، في العمق "الشرعي" والتفسير، وان الكاتب مصطفى محرم أحب التطرق الى موضوع اجتماعي معقد نفسياً وانسانياً في قالب يمكن القول بلا أي تردد أنه يعتمد نظرية "الكاتب عاوز كده" فضلاً عن نظرية "الجمهور عاوز كده"، وبهذا المقياس فقد وضع مصطفى محرّم "نصاً شعبياً" بامتياز: حدّوثة اجتماعية على مواقف "غريبة" بين أبطالها، على فكاهة عذبة، على نَفَس ذكوري، على استضعاف للمرأة، على معالجة درامية تبسّط الخطير، وتنهي أصعب الحالات بابتسامة، وتجعل العالم سهلاً الى حدّ اقامة ثلاث زوجات لرجل واحد في مبنى واحد... ولا من يسمع صوتاً لهن! الحاج متولّي في هذا المسلسل هو سي السيّد تماماً. وأغلب الظن ان الكاتب وضع القصة أساساً في مناخ سي السيّد، أي في المناخ "القديم" للمجتمع المصري، ثم رأى ان اخراج سي السيد من جلبابه قد يكون أفضل وأقرب الى الجمهور، وهكذا كان بالفعل. ذلك أن شخصيات نساء الحاج متولّي "شخصيات" قديمة على صعيد أسلوب التفكير والتعامل مع الزمن، فهنّ ساكنات طائعات راضيات بما يقول سلباً وايجاباً، غارقات في احترامه لا يشوّشهن عليه شيء ولا يشوّشه عليهن شيء إلاّ بعض المواقف العابرة التي لا شأن لها بل لا قدرة لها على تغيير ما يرسمه الحاج متولي لكل ما يجري ومَن يجري حوله. وقد بلغت درجة الغرابة حدّاً راحت الزوجات تحصر فيه أنفسهن وصداقاتهن وعوالمهن بين بعضهن بعضاً فقط، فلا تواصل مع الخارج، مع المجتمع، مع الآخرين، نهائياً. وإذا حصل التواصل فنادراً وعابراً وفي شكل خاطف... لا وجود له! في هذا "العالم المتولّي" الخاص رسم مصطفى محرّم شخصيات أبطال مسلسله، وهي بلا شك شخصيات ظريفة غاية في الظرف، محببة غاية في التحبّب، رقيقة غاية في الرقة، جميلة غاية في الجمال. ولقد تطلب الأمر جهداً خارقاً ربما منه لكي يجمع كل تلك المثاليّات الانسانية في أبطاله، وكلّ على طريقته. ولعلّ كثيراً من الجمهور العربي تعامل مع "عائلة الحاج متولِّي" على أنه مسلسل فكاهي، فقد كانت الفكاهة تنتقل من حلقة الى أخرى من نور الشريف - الحاج متولّي، الى ماجدة زكي - أمينة، الى "نعمة الله" في شكل دوري، وأحياناً في شكل مشترك حتى كان صعباً على الكاتب أحياناً أن يبدأ موقفاً درامياً من دون ان ينهيه بضحكة عالية، أو موقفاً ظريفاً من دون دمعة سريعة ثم مسامحة سريع. انها الخلطة السحرية في صناعة مسلسل شعبي ذكَّر الكثيرين بالخلطة السحرية السابقة لمسلسل "أم كلثوم" ولو أن لكلّ منهما طبيعته وموضوعه ونجومه. وعلى رغم ان عدد متابعي "الحاج متولّي" كان متفوّقاً في العالم العربي والعالم كلّه الذي تصل اليه فضائيات العرب الست عشرة التي عرضت المسلسل، على كل ما عرض هذا العام في شهر رمضان تلفزيونياً، فإن هذا المسلسل حظي بجدل ونقاش وأخذٍ وردّ وهجوم ودفاع في الصحافة العربية والإعلام العربي عموماً، جعلته كلّها مركز استقطاب للبحث والدراسة والتحليل، وانقسم حول قصته ومضمونه المجتمع الى رجال يحبذونه عموماً ونادراً ما يعترضون على ميول بطله المزواج الا إذا تجاوزت اللاواقعية نفسها، ونساءٍ يرفضنه عموماً ونادراً ما يقبلن أحكامه المبنية على منطق القوي بسلطته المادية والمعنوية والنفسية أمام منطق الضعيف غير الممتلك عناصر المقاومة. فكأن الرجال وجدوا في الحاج متولّي ما لا يستطيعون أن يكونوا أما لأسباب مادية وأما لأسباب شخصية وأما لأسباب جنسية، وكأن النساء وجدن فيه ما يمكنهن اعلان احتجاجهن المزمن على الرجل الذي يرى النساء من خلال جسده هو لا من خلال عقولهن أو امكاناتهن الفكرية أو حتى أجسادهنّ. أي ان "الحاج متولي" كان بالنسبة الى الرجال عموماً تعويضاً كوميدياً طبعاً عن ماضٍ كانت فيه كلمتهم ورأيهم أولاً وقد صارت النساء شريكات كاملات فيه، وكان بالنسبة الى النساء تنبيهاً بأن حقوقهن نائمة في شهوات الرجال في حين يردنها هنّ في وجودهم ككل لا في شهواتهم فقط. المخرج محمد النقلي حاول ألاّ يُخرج هذا المسلسل في الطريق الى اخراجه! فهناك مشاهد كثيرة وفي المضمون الدرامي تحديداً، كانت تحتمل كثيراً من العمل الاخراجي واطلاق حركة الكاميرا والممثلين من نطاق المحدودية، فإذا بمحمد النقلي يتعامل معها ببرود تام. ولولا أداء الممثلين الحار جداً في الغالب، لانكشفت العين الاخراجية للنقلي ضعيفة، من دون ان يعني ذلك سقوط أجواء المسلسل اخراجياً ككل في البرودة. وبمعنى أدقّ، لم يحتفظ المسلسل بدرجة واحدة من البراعة الاخراجية فحيناً هناك توتر وحيوية ودفء وتفتح طاقات، وحيناً هناك القاء للحبل على الغارب في ما يجري داخل الاستديو. ربما كان محمد النقلي يهدف الى محاكاة اخراج مسلسل "أم كلثوم" البسيط الذي حظي بمباركة شعبية عالية وسط ترحيب وأيضاً تردد وأيضاً انتقال مهني عال، لكن "عائلة الحاج متولّي" لم يحظ اخراجياً بالمباركة إيّاها، ولعلّ الاعتراض الشديد كان على سكون الاخراج حين ينبغي النبض، وعلى افتعال الاخراج حين ينبغي الابداع. وكل هذا لم يمنع المسلسل من التماس المباشر مع عيون الناس التي تركّزت على ما يفعل أبطال المسلسل أكثر مما تركزت على ما ينبغي ان يفعل المخرج. ومن الغريب أيضاً ان هذا الأسلوب الاخراجي المتردد غير المتوازن بين الحلقات والمشاهد لم يقطع وتيرة المتابعة، فحافظت الحلقات على سهولة وسلاسة وانسياب، بالرغم من ان أماكن التصوير لم تتعدّ في كل حلقة الخمسة: بيت الحاج متولّي مع "أمينة"، وبيته مع "نعمة الله"، وبيته مع "مديحة"، ومحل القماش وقليل غيرها، مع ان البيوت الثلاثة المذكورة متشابهة في ديكورها مما قد يوحي بأنها بيت واحد! نادراً ما تابع "الحاج متولي" مشاهدون في العالم العربي على انه قصة واقعية. فالقصة غير واقعية اطلاقاً، وكانت تنقل اللاواقعية في طريقة "معقولة" وعبر مواقف وأحداث "واقعية" يمكن ان تحصل مع كل شخص بمفرده وليس مع الجميع دفعة واحدة! هل صدّق الذين شاركوا في الندوات الكثيرة حول مسلسل "عائلة الحاج متولّي" ان هذا المسلسل يحلل قضية تعدّد الزوجات ويدرس أبعادها وتأثيراتها! لعل أفضل ما فعله مسلسل "الحاج متولّي" هو انه حرّك المجتمع العربي الذي كان يتبنّى فكرة تعدّد الزوجات من دون ادراك الوجه "الشرعي" فيها، أقول "حَرَّكَهُ باتجاه قراءة الآية القرآنية الخاصة بهذا الموضوع وفهمها على حقيقتها.