تأييد الرأي العام البريطاني لرئيس الوزراء توني بلير، في هذه المرحلة من الحملة على الارهاب، يفوق ما كان لرئيسة الوزراء السابقة مرغريت ثاتشر بعد استعادة القوات البريطانية لجزر فولكلاند في 1982 64 في المئة مقابل 23 في المئة. كما تسجل استطلاعات الرأي نسبة عالية 52 في المئة من الارتياح الى اداء الحكومة. مع ذلك فان من يزور بريطانيا هذه الأيام يدرك بسرعة أن هناك مشاكل سياسية حقيقية على الصعيد الداخلي، اضافة الى تدهور مشين في الخدمات العامة. ومن بين أسباب قوة موقف الحكومة بالرغم من هذه المشاكل الضعف الواضح للحزبين المعارضين. وكان الانهيار السريع لنظام طالبان دعم موقف بلير شعبياً. كما يساند الرأي العام البريطاني بقوة اجراءات الرئيس جورج بوش بعد 11 أيلول سبتمبر الماضي. وكان المعلق السياسي في صحيفة "تايمز" ماثيو باريس، وهو نائب سابق، قدم وصفا مبالغا بعض الشيء - لكن ليس كثيرا! للمشهد السياسي بعد ستة أشهر على فوز حزب العمال للمرة الثانية على التوالي في الانتخابات العامة. وكتب باريس: "نظام الخدمة الصحية يتدهور، والطرقات مخنوقة، ومستقبل شبكة السكك الحديد في مهب الريح، وميترو لندن على وشك الانهيار ... فيما يلوح شبح تصاعد الضرائب. هناك تضارب في التوجهات بين رئيس الحكومة ووزير المال، فيما يتشاجر انصارهما علنا. مكتب رئيس الوزراء يسرّب الى الصحافيين معلوما تضر ببعض الوزراء. وتخلت وزيرة التنمية الدولية عن مبدأ المسؤولية المشتركة لتشن هجوما على الولاياتالمتحدة. رئيس الحكومة لا يتذكر اسم وزير خارجيته الا بعد جهد. ووزير الدفاع يخوض حربا مختلفة عن تلك التي يخوضها قادته العسكريون ... نائب رئيس الوزراء اختفى دون أثر". هناك مشاكل اخرى يمكن اضافتها الى القائمة. من بينها تخبط وزير الداخلية الذي يفترض انه النجم الصاعد في عالم السياسة في تقديمه مشروع قانون لمكافحة الارهاب، و"الاصلاح"الفاشل لمجلس اللوردات الذي اغضب كل الأطراف، و"قبة الألفية" في غرينتش التي أصبحت فضيحة وطنية ولا تزال تبتلع المال العام بعدما فشلت الحكومة في بيعها، وانهيار خطط انشاء مجمع رياضي جديد للعاصمة الخ. بالمقابل هناك قوة الاقتصاد التي تثير الاعجاب، مع انخفاض مستوى التضحم وتراجع نسب الفائدة. وتشهد الأسواق عشية الأعياد نشاطا كبيرا يعزز الثقة، في الوقت الذي يستمر فيه ضعف اقتصادات أوروبا، من ضمنها المانيا. وما يزيد من مشاكل بلير اسلوبه "الرئاسي". ويعني انشغاله في الخارج تأجيل القرارات والاجراءات الداخلية، ويسود الشعور بعدم وضوح الأهداف. وقد اختار فريقا حكوميا ضعيفا، فيما تستمر خلافاته مع وزير المال القوي غوردن براون في اضعاف موقف الحكومة. لكن من حسن حظ بلير ان سلطته تتزامن مع انهيار تاريخي للحزب المعارض الرئيسي، أي المحافظين. واعتُبر الحزب منذ أكثر من مئتي سنة الأنجح سياسيا في العالم. وكان دوما متعطشا الى السلطة ومستعدا للاتحاد من اجل الحصول عليها، وتعيسا عندما يكون في المعارضة، عكس بعض الأحزاب اليسارية. واتسم المحافظون في السابق بالمرونة والبعد عن الدغمائية، وشكلوا الحكومة مرات كثيرة خلال تاريخهم الطويل. لكن الهزيمتين الساحقتين المتواليتين تثير الكثير من الشك والتوجس حول مستقبل. وبعد الهزيمة الثانية قبل أشهر استقال رئيس الحزب وليام هيغ، وحل محله ايان دنكان سمث. ولنا القول، اذا أردنا الصراحة، ان الأخير لا يصلح للمنصب ولن يبدو رئيس حكومة مقبولا من الناخبين. ولا يزال الحزب متمسكا بموقفه اليميني المتشدد، معتمدا على قطاع متضائل من الناخبين المسنين المعادين لكل ما يتصل بالاتحاد الأوروبي. وأعلن المحافظون تأييدهم لتوسيع الحرب على الارهاب لتشمل العراق. كان المفترض ان يصب كل هذا في مصلحة الحزب المعارض الأصغر، أي الديموقراطيين الليبراليين برئاسة تشارلز كينيدي، الذي تظهر استطلاعات الرأي انه يحظى بتأييد 44 في المئة من الناخبين. لكن هذا الحزب بدوره يواجه مشاكل صعبة. من بين المشاكل افتقاره الى برنامج متميز، واعتماده على دعم ناخبين عماليين يشعرون بخيبة الأمل من حكومتهم، فيما يحتاج الديموقراطيون الليبراليون الى تحقيق مكاسب على حساب المحافظين اذا كان لهم ان يتحولوا خلال السنين العشر المقبلة وهو ما يتوقعه كثيرون الى حزب المعارضة الرئيسي. المشكلة عموما هي استحواذ حزب العمال على موقع الوسط السياسي الذي كان يفترض للديموقراطيين الليبراليين ملأه. مع نهاية السنة، ومن دون توقع لتغيير رئيسي قبل الموعد الرسمي للانتخابات العامة بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، يبدو الوضع السياسي البريطاني ضبابيا الى حد كبير. ذلك ان الشغل الشاغل لحزب العمال خلال سنينه في الحكم هو "تلميع" صورته اعلاميا من دون اهتمام كاف بمواجهة التردي المتواصل في قطاع الخدمات العامة. ويأتي هذا في الوقت الذي ينسحب فيه حزب المحافظين من الملعب، فيما لا يجد الليبراليون الديموقراطيون طريقا الى تسجيل هدف ضد الحزب الحاكم. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو