كان اسحق شامير هو أول رئيس وزراء إسرائيلي يسقط انتخابياً بسبب تأثير الصراع العربي - الإسرائيلي وعملية السلام على انتخابات 1992. وقبل ذلك، كان هذا الصراع واحداً من بين مؤثرات انتخابية عدة تعلق معظمها بقضايا داخلية. ولكن في العام 1992 بدا شامير مزعزعاً عاجزاً عن التعامل مع مرحلة جديدة في تاريخ الصراع، ومع العملية التي اطلقها مؤتمر مدريد قبل حوالى تسعة شهور على انتخابات الكنيست. وصعد رابين وقتها الى رئاسة الحكومة لأنه ظهر، أمام الناخبين، أكثر مقدرة على التعاطي مع مرحلة جديدة. ولم تمض ثلاث سنوات حتى كان رابين سقط بسبب سياسته تجاه الصراع والتسوية، ولكن بالرصاص ولا بأصوات الناخبين، وجاء نتانياهو حاملاً رؤية مختلفة كثيراً لعملية السلام ودخل في معركة "كسر عظم" مع السلطة الفلسطينية ورئيسها. نجح ياسر عرفات في الصمود أمام "إعصار" نتانياهو، ثم في وقفه وتعطيله عندما سقطت حكومته قبل موعدها، وصعد ايهودا باراك ليجرب حظه في مواجهة عرفات، ولكن في شأن تسوية نهائية وليست مرحلية هذه المرة. فكان ان اندلعت انتفاضة الاقصى التي اسقطت باراك ولم يكمل عامين في منصبه. وهكذا يجوز القول إن عرفات، الذي تعلم جيداً كيف يسبح في أشد الانواء، تمكن من اسقاط ثلاثة وزراء إسرائيليين وكان دوره حاسماً في إبعاد اثنين منهم نتانياهو وباراك فيما أدت تداعيات اتفاق اوسلو الى قتل رئيس وزراء رابع. وهكذا في اقل من عشر سنوات، كان عرفات خلالها ثابتاً في موقعه لا تطيح به الرياح، بدا في بعض الاحيان كما لو أنه صار متحكماً في مصائر رؤساء وزراء إسرائيل. ولذلك أثير جدل حول مصير آرييل شارون عندما تولى رئاسة الحكومة في أصعب ظروف واجهها رئيس وزراء إسرائيلي في مستهل عهده، ليس فقط لأنه تولى منصبه في أوج انتفاضة متصاعدة، ولكن ايضاً بسبب صورته المنفرة وسمعته السيئة. شاع الاعتقاد وقتها أن شارون، الخالي الوفاض من أي تصور لحل سياسي، سيبدأ رحلة السقوط سريعاً حين يعجز عن إخماد الانتفاضة في المئة يوم التي حددها لإنجاز تلك المهمة التي كانت محور برنامجه الانتخابي. واستند هذا الافتراض على سوابق متكررة في العقد الماضي تفيد خبرتها أن الرأي العام الإسرائيلي يتحول تدريجاً في منأى عن رئيس الوزراء الذي يتبين عجزه عن تحقيق الأمن اذا كان هذا هو وعده، أو عن جلب السلام اذا كان في صلب برنامجه. غير أن شارون تمكن من ايجاد وضع جديد يتجاوز استمرار رضى الرأي العام عنه على رغم فشله الذريع في تحقيق الأمن. فأهم ما فعله شارون ليس تعويم نفسه، إنما محاولة إغراق عرفات. وتوارى السؤال عن مصير شارون السياسي بعد فشله في تحقيق الأمن وراء علامة الاستفهام الكبيرة التي وضعها على مستقبل عرفات. انها المرة الاولى - منذ مؤتمر مدريد - التي يصير عرفات مهدداً في منصبه أو في حياته. فقد حول شارون مسار الإعصار الذي كان يهدده، بحيث صار عرفات هو الذي يقف في مهب الريح. ولا بد من الإقرار بأن نجاحه في ذلك ينم عن قدرات لم يرها كثر من العرب الذين استخفوا به في بداية عهده. مع ذلك، كان هناك متغيران، أحدهما إسرائيلي والآخر دولي، سهلا مهمة شارون، وينبغي اخذهما في الاعتبار اذا أردنا ان نُحسن إدارة الصراع معه في الفترة المقبلة. المتغير الإسرائيلي هو اقتناع فريق يعتدّ به في قيادة الجيش وأجهزة الامن بأن إبعاد عرفات يحقق مصلحة إسرائيل أكثر من استمراره. وتسرب أول تقرير بهذا المعنى في منتصف 2001 متضمناً مقارنة بين مزايا ومثالب استمرار عرفات واقصائه، ومرجحاً في النهاية خيار الإبعاد. وتنامى هذا الاتجاه الذي يمكن تلخيص جوهر أطروحته في نقطتين: الاولى ان ابعاد عرفات لن يحدث فوضى في الشارع الفلسطيني لأن مصلحة اركان السلطة في الحفاظ عليها ستفرض عليهم تنحية أي خلافات بينهم والاتفاق على أحدهم. والثانية أنه بافتراض تفكك السلطة وسيطرة المنظمات المعارضة لها، وعلى رأسها "حماس"، على الشارع فهذا وضع لا يفزع لأنه لم يعد هناك فارق جوهري بين الفريقين. في زعم أنصار هذا الاتجاه ان "عرفات مثل حماس" لكنه يختلف عنها في انه مقبول دولياً، فاذا صارت "حماس" هي التي في الصورة "يمكن ضرب الفلسطينيين من دون ضوابط وبلا توقف، اذ ستكون هوية الطرف الذي نتعامل معه واضحة للعالم". وهكذا فمثلما يرى بعضنا أنه لا فارق بين "ليكود" و"العمل" او بين صقور وحمائم في إسرائيل، صار هؤلاء ينظرون الى عرفات و"حماس" باعتبارهما وجهين للعملة نفسها. ويعني ذلك أن القيد الذاتي الإسرائيلي الذي كان يضبط الموقف إزاء عرفات، وهو الخوف من ان تكون "حماس" بديلاً عنه، لم يعد قائماً في أوساط فريق ذي نفوذ قوي في أوساط صنع القرار. أما المتغير الدولي، أو بالأحرى الأميركي حيث لا فارق كبيراً، فقد جاءت به أحداث 11 ايلول سبتمبر والحرب التي اطلقتها ضد الارهاب. فقد صار لزاماً علينا ان نبذل جهوداً أكبر من ذي قبل لمنع الخلط بين الارهاب والمقاومة الوطنية المشروعة، وان نتوقع نجاحاً أقل لهذه الجهود التي تعمل إسرائيل وأنصارها في أميركا واوروبا على تخريبها بشكل منظم. وتوالت الأدلة على ذلك في مطلع كانون الاول ديسمبر الجاري، فجمدت الولاياتالمتحدة ارصدة جمعيات لمجرد الاشتباه في أن لها صلة بحركة "حماس". ورد الفعل الاميركي على عمليات القدس وحيفا صار اكثر انحيازاً لإسرائيل، واختفى منه النصح بضبط النفس، وأعطى شارون ضوءاً أخضر للرد بدعوى "الدفاع عن النفس" على رغم أن القانون الدولي يعطي هذا الحق للشعوب الخاضعة للاحتلال وليس لمن يحتلون ارض غيرهم. ويعني ذلك ان شارون سيكون مطلق اليد أكثر من ذي قبل ليس فقط في الهجوم العسكري، ولكن ايضاً في التصعيد السياسي الذي صار إبعاد عرفات الى خارج فلسطين مجدداً مطروحاً ضمنه او في ذروته. لذلك فالسؤال الذي ينبغي ان تجيب عليه الفصائل الفلسطينية كافة اليوم قبل غد هو: هل مهم الحفاظ على عرفات بخبرته الطويلة وعلاقاته الدولية المتراكمة ومركزه في الشارع الفلسطيني؟ وعلى من يعطي اجابة سلبية أن يجيب على هذا السؤال الثاني: هل يمكن ضمان استمرار السلطة الفلسطينية وبالتالي الابقاء على المناطق "أ" المحررة اذا تحقق احتمال حدوث ارتباك واضطراب عقب ابعاد عرفات؟ وهل في مصلحة القضية ان تفقد قيادتها وأرضها المحررة وتخسر دولياً عندما يتم تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن إفشال التحرك الأميركي الذي سيفشل من تلقاء نفسه بعد فترة قصيرة؟ هنا، لا بد من التفكير ملياً قبل إعطاء اجابة انطباعية أو انفعالية أو ربما انتحارية. والمهم هو تجنب التناقض الذي ستحمله مثل هذه الاجابات بين تقليل أهمية تحرير جزء من الارض على أساس ان الصراع ما زال طويلاً، وبين نفاد الصبر الذي يظهر في تفضيل التضحية بهذا الجزء بدلاً من قبول هدنة محدودة لتفويت الفرصة على شارون وأمثاله المتوحشين في قيادة جيشه. فالصراع طويل فعلاً. ولأنه كذلك لا يمكن خوضه في نفس واحد وعبر انتفاضة متواصلة. وكلما كان الصراع طويلاً، لزم التمييز بين الاستراتيجية والتكتيك، بما يعنيه من إمكان قبول هدنات موقتة لا يلقى فيها السلاح بل يُصان ويُزاد، وتعالج جراح المواجهات ويجري الإعداد لصمود أطول مدى حين يأتي أوان الانتفاضة أو المواجهة التالية. وهذا هو ما فعلته حركات التحرر الوطني المختلفة. فهل حركة التحرر الفلسطيني استثناء منها أو بدع بينها؟ * كاتب مصري. رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي"