تناول الأستاذ عهد فاضل في "الحياة" 21 رمضان 1422ه بالنقد كتاب الشاعرة السورية الشابة غادا السمان، "اسرائيليات بأقلام عربية"، الصادر عن "دار الهادي" البيروتية، وما حمله الكتاب من تعريض واتهام للشعراء محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان، والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، بالعمالة للفكر الصهيوني الكريه. قد يكون موضوع الكتاب مثار استغراب واستنكار من كثيرين، كما انه سيكون موضوع تبجيل وتطبيل من كثيرين، خصوصاً من أصحاب الفكر المؤدلج والمهووسين بالمؤامرة. سيعتبر بعضهم الكتاب "كابوساً"، كما سماه الأستاذ عهد فاضل، وسيصنفه بعضهم كمحضر تفتيش يحيلنا للقرون الوسطى ومحاكمها القمعية. كما سيعتبره بعض ثالث جهداً مشكوراً وعملاً استقصائياً لفضح الخطابات المدجنة والمزيفة المختفية خلف قناع الوطن والوطنية. وكلا الموقفين السابقين لا يعنيان الباحث الموضوعي بشيء، بقدر ما يعنيه ان يقف على متن الكتاب ليقرأه بنوع من الحيادية - الصعبة - من دون الوقوع تحت سطوة الأسماء أو في فخ الأدلجات، ليقف بنفسه على سقم أو صحة الكتاب، مستوضحاً الأدلة والبراهين بغية استجلاء صحتها. ان الأستاذ الفاضل عهد فاضل قد وقع للأسف، في فخ القراءة المتشنجة، وتحت سطوة الحماسة، وتحت وطأة الحضور اللاشعوري للأسماء التي تناولتها غادا السمان في كتابها، ما أفقد قراءته للكتاب قيمتها ومعياريتها، وصيرها أشبه ما يكون بالبيان الخطابي الاستنكاري الاقصائي، واقعاً في المطب الذي ينتقد فيه غادا السمان. لقد كان بإمكان الأستاذ عهد فاضل ان يتناول الكتاب بعيداً عن العصابية، مستعرضاً مطبات الكتاب بهدوء وروية، وواضعاً يده على سقم الأدلة فاضحاً التباساتها. أما أن يأتي ليواجه البوليسية - بحسب تعبيره - ببوليسية متبادلة، والهجوم العاطفي، بهجوم مثله، فإن ذلك من شأنه ان يغيب الحقيقة ويوقع القارئ في الالتباس والتشوش المعرفي. ان الأستاذ عهد فاضل يبدأ عرضه النقدي للكتاب بلغة تهكمية ساخرة لا تنفع الا للخطابات المؤدلجة، ويستعرض عبارات للمؤلفة واضح انها انتقيت من قبله، ما يجعل عرضه انتقائياً وغير علمي. وهذا مطب يقع فيه كثير ممن يمارسون عملية القراءة والعروض النقدية للكتب. لا شك ان ما ساقته غادا السمان في كتابها أمر كبير وخطير للغاية، وجدير بأن يتوقف الإنسان عنده ملياً، ليكتشف السبب الذي دفع الكاتبة لسوق هكذا تهم، ويقف عند أدلتها، فربما يكون لديها شيء من الحق أو الصحة، وربما هناك التباس وقعت فيه ويمكن من خلال المناقشة الموضوعية رفع هذا اللبس. لنقف مثلاً عند محمود دروش، الشاعر الفلسطيني الكبير، والذي شخصياً أنزهه عن تهمة العمالة لإسرائيل. هذا الشاعر لو قرأنا نتاجه الشعري، منذ كان يعرف بشعر المقاومة الفلسطينية ودواوينه الأولى ذات الصوت العالي الكفاحي، وصولاً الى دواوينه: "لماذا تركت الحصان وحيداً"، و"سرير الغريبة"، و"جدارية"، سنجد ان هناك تحولات واضحة على صعيد اللغة والمجاز والرؤية والنظرة والموقف. هذا التغير طاول بنية الخطاب ورؤيته، بل طال عمق الرؤية الوجودية لدرويش. وهو أمر غير خاف، وصرح به محمود درويش أكثر من مرة. هذا التبدل في بنية الخطاب له مسبباته النفسية والسياسية والاجتماعية، ولم يكن وليد فراغ. والذي قرأ درويش من دون ملاحظة صيرورة خطابه يقع في فخ القراءة الناقصة. وربما اعتقد ان درويش صار في مصف المستسلمين والخائنين، فيما هو درويش يعيش مأزقاً وجودياً أكبر من كل ذلك. هذا مثال بسيط - والأمثلة كثيرة، وتقود الى كثير من الالتباسات - لبعض الاشكالات التي من الممكن ان يواجه بها قارئ خطاب محمود درويش الشعري. وسميح القاسم ليس ببعيد عن ذلك. إذاً هناك التباس في الخطاب وفي الرؤية، سيقود حتماً لالتباس في التلقي والقراءة. خصوصاً أن القارئ معبأ ايديولوجياً وسياسياً وعاطفياً ولا يمكن عزله عن سياقه الاجتماعي. لذا كان من الأفضل، بدلاً من نبرة مواجهة الصوت المرتفع بصوت مرتفع مثله، ان نقرأ الكتاب والخطابات الشعرية والروائية للكتاب الذي تناولتهم غادا السمان في كتابها بتروٍ أكثر، لأن الصراخ لا ينتج إلا صراخاً مثله. وتبقى المعرفة مغيبة في هكذا جو، يخلو من العلمية والهدوء.