ضمن "مهرجان الخريف في باريس" تعرض حالياً مسرحية تحمل عنوان "مطبخ مالدن ماتيريك وبيتر هاندكه" على مسرح الباستيل الباريسي. مالدن ماتيريك هو المخرج المسرحي الصربي البوسني الذي أنشأ "مسرح تاتو" في بداية الثمانينات، وهو مسرح عرف الشهرة والنجاح من خلال عروضه التي جعلته يحوز جوائز عدة ويشارك في أهم أو أكبر المهرجانات المسرحية في أوروبا والولايات المتحدة. في العام 1992، على أثر الحرب اليوغوسلافية، ترك مالدن ماتيريك ساراييفو لينتقل الى فرنسا ويستقر وفرقته المسرحية في مدينة تولوز حيث قام بإخراج أربع مسرحيات حتى الآن. بيتر هاندكه هو الكاتب النمسوي المعروف الذي يحيا حالياً في إحدى الضواحي القريبة من باريس. إنه مؤلف عدد من الروايات المعروفة "البائع الجوال"، "البؤس غير المبالي"، "دراسة في التعب"، "دراسة في يوم ناجح"، "في ليلة معتمة، خرجت من بيتي الهادئ"، إلخ وهي جعلت منه أحد أكبر أو أهم الكتّاب باللغة الألمانية اليوم. لكن بيتر هاندكه هو أيضاً كاتب مسرحيات عدة من بينها "عبر القرى" و"الناس غير العقلاء في دربهم الى الاضمحلال"، ومخرج فيلم سينمائي اقتبسه عن إحدى رواياته وحمل عنوان "المرأة العسراء". وكما حدث حين تعاون بيتر هاندكه مع المخرج السينمائي المعروف فيم فيندرز على تأليف سيناريو فيلم "أجنحة الرغبة" الشهير، يتعاون الكاتب النمسوي اليوم مع المخرج اليوغوسلافي على كتابة مسرحية شبه خالية من النص! ذلك أن مسرح مالدن ماتيريك مسرح صامت في الدرجة الأولى، وهو وإن أدخل النص إلى عالمه في مسرحيته الأخيرة، فلكي يقوم بتطويعه واضعاً إياه في المستوى نفسه الذي تتميّز به أي أداة مسرحية أخرى من نوع الموسيقى، عناصر الديكور أو الضوء. هكذا تبدو الجمل القليلة التي يتلفّظ بها الممثلون من حين إلى حين، عنصراً مضافاً، طارئاً، لا يقوم في أساس العمل المسرحي بمقدار ما يشبه نافذة تضاء فجأة كي تطل على منظر خارجي بعيد. المطبخ هو الديكور وهو فضاء الخشبة الوحيد. مطبخ من الذاكرة كذاك الذي كان لنا جميعاً. مطبخ فسيح لا تحتل مساحته سوى أدوات ضرورية، كافية: ثلاجة وخزانة مؤونة وفرن غاز وطاولة، فيما الأرضية مغطاة ببلاطات سود وبيض تحدّها أبواب ونوافذ تفضي إلى الشرفة أو إلى غرف البيت الأخرى. ولكن لماذا المطبخ بالذات كفضاء مسرحي؟ يجيب بيتر هاندكه: "غالباً عندما أكون في المطبخ، أنتبه الى أنني دخلته بحثاً عن شيء، لكنني لا أعرف ما هو... في القرن السادس قبل المسيح، قال الفيلسوف الإغريقي هيراقليط للغرباء الذين كانوا دخلوا منزله فيما هو يقودهم الى حيث بيت النار الفرن: تفضلوا، أدخلوا، هنا أيضاً تسكن الآلهة الاغريقية!... لحظات المطبخ الكبرى حين يكون خالياً، حين لا توجد فيه سوى الأغراض، الفاكهة، الخضار، الضوء الذي يعبر، الألوان التي تتبدّل، صراخ العصافير الزائرة، الطائرات التي تقصف...". ومن يحضر مسرحية "المطبخ" يفهم المعنى الرئيس الذي يلتقي حوله هذان المبدعان، ألا وهو ميلهما المشترك الى الحديث عن الأشياء اليومية. فالموضوعات المطروقة في أعمال الكاتب كما في أعمال المسرحي تنحاز الى التعبيرات البسيطة للحياة أكثر منها الى الأحداث الاجتماعية أو التاريخية. ربما لأنهما يريان أن هناك قاسماً مشتركاً خلف علامات التقدم والتطورات الثقافية، هو نوع من الطقس الذي يقرّب الناس في ما بينهم أكثر مما تفعله فكرة الأمة، الدين أو الإيديولوجيات. ولكن لماذا المطبخ تحديداً؟ يطرح هذا السؤال خلال العرض المسرحي على شكل جملة مكتوبة نقرأها على جدار في الديكور يتحول إلى شاشة تتوالى عليها جمل عدة وصور هي أشبه بنقاط استفهام أو بإضاءات إضافية تشكل محاولات متكررة، متنوعة، للرد على هذا السؤال. المطبخ بالنسبة الى المخرج ماتيريك فضاء إنساني بامتياز، لذلك ربما تبدو المسرحية وكأنها تصميم لعرض راقص بطله الأول هو اليومي الذي يحدد إيقاع أقدارنا جميعاً. إيقاع نابض وسريع يجري على أنغام شخصيات نساء ورجال وأولاد وأعمار مختلفة تدخل الى المطبخ، تقوم بحركة ما، ثم تخرج لتعود وتظهر في ملامح أخرى. أبواب ونوافذ تفتح وتغلق، رواح ومجيء لا يتوقفان، حركات بسيطة وساذجة كإعداد القهوة لدى الاستيقاظ من النوم، تناول الفطور، الاستماع الى الراديو أو تحضير زاد الأطفال. شابة تحيا وحدها وتقوم بتمارينها الرياضية، أو زوجان مع أطفال أو من دون أطفال. امرأة مكتملة السن تشعر ببرد الصباح، أو امرأة مسرعة مستغرقة في التوضيب وإفراغ سلة المهملات قبل الذهاب الى عملها. رجل يطالع الصحيفة وهو يأكل، فيما تقف زوجته على رأسها أو تمشي على يديها كي تشد انتباهه فيوجه إليها الكلام. ناس، هم نحن في حركاتنا اليومية الصغيرة التي تفضح عجزنا وهشاشتنا وقبحنا، كما تكشف عن رقتنا وحساسيتنا وجمالنا. هكذا، ضمن هذا الباليه الراقص اليومي المغزول من أفعال بسيطة، تنبني القصة، قصة التفاهات اليومية التي تتكرر على مدى حياة بأسرها، وقصة اللحظات الغنية كما حين نحتفل بالأعياد، بزواج الابن أو الأخت أو الصديق أو الجار أو نجتمع لرحيل أحدنا ولشيء من العزاء. قصة اللحظات التي ترافقها موسيقى الخارج المضجرة، زعيق الأزواج أو صراخ الأطفال، وتلك التي تضج بموسيقى الفرح والحب وغناء الاحتفالات. ولكن المطبخ هو أيضاً فضاء اللحظات الكبرى الحاسمة التي تقلب حيواتنا رأساً على عقب. تلك التي تشبه الكوارث والزلازل والأعاصير حين يقتحم المسلحون بيوتنا فيسرقون أموالنا ويدمرون أرواحنا ويقتلون أحباءنا ثم يغادرون بعدما عاثوا في المكان خراباً. ذلك أن المطبخ مكان حميمي يستباح حين تشتعل الحروب كتلك التي عرفها المسرحي الصربي البوسني في بلاده وعرفها من عرفها من المشاهدين. والمطبخ مكان يفرغ من صفته الأصلية حين يجتاحه الغرباء، لكي يتحوّل إلى ساحة خراب سائبة ككل ساحات الحروب، يهجرها أهلها وتتساقط أشياؤها كالطاولة التي تنهار على الخشبة، خزانة المؤونة التي تفارق الحائط أو الغزلان التي تفر هاربة بعيداً في اللوحة المرتسمة على الجدار - الشاشة... هو الوقت الذي يمر على مدى ساعة ونصف الساعة خلال العرض المسرحي، لكنه وقت يجعلنا نستعيد أزمنة كاملة هي أزمنة أعمارنا الماضية. ففي هذا المطبخ المسرحي وأمام أعيننا تدور طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وشيخوختنا، أياً كانت جنسياتنا ولغاتنا وانتماءاتنا. يمر الوقت في مسرحية "مطبخ مالدن ماتيريك وبيتر هاندكه" سريعاً، خفيفاً، كالنسمة جميلاً ومحزناً ومشبعاً وجارحاً لأنه زمن مسرحي بامتياز، زمن يسوده الصمت لكي تأتيه الذكرى، تزوره الكلمات سهواً كي يزداد صمتاً وتعبيراً، وزمن يتأرجح فيه المشاهدون فوق مساحات أعمارهم الهاربة. La Cuisine de Malden Materic et Peter Handke.