} ما من حرب منذ فجر التاريخ إلا استنسلت لاجئين وسبايا وشهداء أحياء قلّما تسجلت اسماؤهم في الكتب السميكة، بل دأب المؤرخون على نعتهم بالجموع أو الفلول أو سقط المتاع، فيما تألقت على الدوام اسماء السفاحين والقادة الأشاوس الذين سببوا تلك الفجائع التي لا يبدو أنها ستنتهي... الجميع يعمل في ذاك المخيم الباكستاني الذي تُديره نساء جمعية "روى" الأفغانية، على رغم القلق والحِداد والدموع... الجميع، حتى الأطفال يعملون بعد الدوام المدرسي. على أرض غرفة مكسوة بورق البلاستيك الأزرق، تكوَّمت امرأة طويلة وممتلئة القامة فيما يداها القلقتان تعصران حجابها المطرز بورود بنية، اسمها "ذاكرة" في السابعة والأربعين من عمرها، عادت لتوها من كابول بعد تهجير مرير جعلها الآن بالكاد تصدق انها في أمان في أحد مخيمات اللاجئين. فمن بين آلاف الأشخاص الذين حاولوا الخروج من أفغانستان، كانت هي من القلائل الذين نجحوا، وهربت برفقة ابنها 20 عاماً وابنتها 18 عاماً وجارتها أنيسة وطفليها، بعدما تكدست هذه المجموعة الصغيرة في باص "تويوتا" صغير الى جانب 15 شخصاً آخرين على رغم ان مقاعده تتسع لعشرة اشخاص فقط. كان الباص يتقدم ببطء شديد وسط غيوم الغبار والحرارة الخانقة، محاولاً أن يشق طريقه بين جموع صامتة. وتروي "ذاكرة" بصوت مخنوق أنها رأت أطفالاً يموتون بين أذرع أمهاتهم، ونساء يضعن على قارعة الطريق، وأخريات من العجائز يطلبن الموت بعدما عجزن عن مواصلة المسير. ولم يكن يطلع صباح واحد من دون ان يموت ثلاثة أشخاص أو أربعة من الجوع والتعب. ولكي تتمكن من عبور الحدود اضطرت "ذاكرة" الى دفع 3 آلاف روبية مئة دولار اميركي لأحد الوسطاء، علماً أن الأجر الشهري الذي يتقاضاه موظف أفغاني لا يتعدى الدولارات الثلاثة. لكن "ذاكرة" تنتمي الى احدى العائلات البورجوازية الأفغانية واستعانت بمدخراتها لتنجو. أما أولئك الذين لا يملكون مبلغاً كهذا فبقوا في الجبال أو عادوا أدراجهم! و"ذاكرة" حالفها حظ آخر إذ جاءت احدى قريباتها اللاجئة من سنوات في باكستان لملاقاتها في مخيم "جالوزي" على مسافة خمسين كيلومتراً من الحدود. وتقاسمت عائلتا ذاكرة وأنيسة منزل القريبة الأفغانية الترابي المؤلف من غرفتين! قرب ذاكرة جلست أنيسة، ضئيلة صامتة وراحت تومئ بحركة خفيفة من رأسها مؤيدة ما تقوله صديقتها: "هربتا من كابول فراراً من القصف الاميركي وخوفاً، في البداية من أن تُجنّد حركة طالبان بالقوة ابناءهما، ومن أعمال انتقامية تنفذها قوى تحالف الشمال بعد سيطرتها على العاصمة، كما حصل بين أعوام 1992 و1996 عندما ترك هؤلاء ذكريات قاسية عن أعمال النهب والاغتصاب. خوف ذاكرة لم يكن أمامهما أي خلاص آخر. خافت "ذاكرة" على ابنتها ولم تعد قادرة على بيع الدجاج الذي تربيه، بعد وصول أسعار السلع الى مستويات خيالية جعلت معظم الناس بالكاد يأكلون الخبز. يتهدج صوتها، تطلب ان نعذرها، إذ حطمها ذلك الهروب، خصوصاً أن زوجها الذي بقي في كابول ليحرس المنزل انقطعت أخباره منذ وصولها الى باكستان. مخيم جالوزي وسط صحراء من الصخور، ترتفع فيها كما الأشباح رؤوس من المداخن القرميدية. وقد بُني قبل عشرين عاماً بعد وصول أول اللاجئين الأفغان الى باكستان هرباً من الممارسات السوفياتية آنذاك. فالحرب لم تتوقف أبداً في أفغانستان من يومها، وبالتالي لم يتوقف تدفق اللاجئين الأفغان في موجات متتالية. والمخيم اليوم يشبه قرية أفغانية تقليدية بمنازله المنخفضة السقوف، المختبئة خلف جدران ترابية مظللة بأشجار تنمو كأنما... بأعجوبة. في الأيام الأخيرة وصلت عائلات جديدة من كل أنحاء أفغانستان ومن كل الاثنيات. "ذاكرة" بشتونية وأنيسة طاجيكية لكنهما متضامنتان متآزرتان، كغيرهما في المخيم حيث يتعايش البشتون والطاجيك والهازارا والنوريستاني والأوزبيك من دون مشكلات لأنهم يعرفون انهم أفغان قبل أي شيء آخر. في قاعة كانت تستخدم صالة للألعاب، تعيش اليوم عائلة أوزبكية وصلت من ريف مزار الشريف حيث دارت معارك دموية. لكن سيدات منظمة "روى" المشرفة على المخيم اضطررن الى اسكانها في القاعة لضيق المكان. وهن يقدمن الى الملجأ، مهنة بسيطة تساعد النساء في تدبير حياتهن قدر الامكان. المشرفات على "روى" أنشأن أيضاً في المخيم مدرسة تتهافت عليها 200 فتاة اعمارهن بين الخامسة والعشرين، إضافة الى دروس لمحو الأمية للنساء الأكبر سناً. كما استحدثت "روى" عيادة طبية يعاين فيها أطباء من الجنسين. وتشرح احدى القيمات على المنظمة ان "روى" هي الجمعية الثورية لنساء أفغانستان سُميت كذلك لأنها تطمح الى "إقامة دولة ديموقراطية وعلمانية" في أفغانستان من دون أن يعني ذلك تحجيماً لدور الأعراف والتقاليد. فالمدرسة تقفل كما العيادة يوم الجمعة، في وقت تعتمد باكستان الأحد يوم عطلة. أما فاطمة فهي أوزبكية اعتادت أن تعلق شادورها على مسمار في الحائط، فلا تلبسه إلا حين تخرج من المخيم، تماماً كعدد كبير من اللاجئات. لكن هذا الاحترام للعادات الأفغانية العميقة التجذر، لم يحل دون محاولة بعض مناصري طالبان الموجودين في مخيم مجاور للاجئين، منع الفتيات من الذهاب الى المدرسة، فراحوا يُرابطون مسلحين عند زوايا شوارع مخيم "جالوزي"، ما جعل آباء وأشقاء التلميذات يطردونهم بعيداً. جيران التماثيل ونجحت جمعية "روى" في اقامة شبكة سرية من المتعاونين في قلب افغانستان، ساعدت جهودها الأفغاني أحمد 60 عاماً وزوجته تاغار وابناءه العشرة وأحفاده على اللجوء الى باكستان. كانوا يقطنون في مدينة "ياكاولنغ" وسط أفغانستان غير بعيدين من تماثيل باميان البوذية، وقد شهد أحمد مقتل 16 رجلاً من عائلته على يد "طالبان" في شهر آذار مارس المنصرم، لا لشيء إلا لأنهم كانوا من اثنية "الهازارا" التي يتميز شعبها بالعيون الآسيوية الدعجاء والوجنات العالية. حدث ذلك بعد تدمير التماثيل البوذية المحفورة في الجبال الذي تبعته عمليات اعدام نفذتها طالبان في مئات رجال الهازارا، في عملية تطهير إثني وديني. في ذلك اليوم المشؤوم، تظاهر "أحمد" استاذ التاريخ والجغرافيا بالموت تحت وقع رفسات رجال طالبان، وهرب بعد المجزرة مع عائلته الى الجبال، وهناك ساروا لمدة شهر قبل أن ينجحوا في الاتصال بأحد العاملين في جمعية "روى" الذي مدّهم بالمال ليتمكنوا من اجتياز الحدود الأفغانية الى باكستان. الجمعية التي تساعد اللاجئين المتعبين واليائسين عند وصولهم الى المخيم، لا تتولى اعالتهم، لذلك يبدأون جميعاً، رجالاً ونساء وأطفالاً بالعمل فور التقاطهم أنفاسهم. وهذه حال مليونين ونصف المليون من الأفغان اللاجئين في باكستان. وقد أفاد أصحاب الورش الباكستانيون كثيراً من هذه اليد العاملة المحتاجة والرخيصة وأقاموا الكثير من المعامل والمؤسسات قريباً من نقاط تمركز اللاجئين. ففي محيط مخيم "جالوزي" مثلاً بُنيت عشرات معامل القرميد حيث يعمل موظفون وأساتذة مدارس أفغان في مقابل أجور هي الأدنى في باكستان. ولا يكفي دخل الأفغان الراشدين للبقاء على قيد الحياة، لذلك تجدهم يحتاجون الى أجور أطفالهم أيضاً. ففي أحد أحياء روالبندي الفقيرة تعيش مريم 13 عاماً. تذهب الى أحد مدارس الجمعية نهاراً وتعمل في خياطة القمصان ليلاً تماماً كوالدتها. ويعمل شقيقاها في الدهان والخياطة. لقد مات والدهم في كابول وهم يحتاجون الى بعض الروبيات الاضافية للعيش. في غرفة أخرى من المخيم يعيش زكريا ابن الأعوام الثمانية. حين يصل الى المدرسة في الصباح يكون قد أمضى ساعة ونصف الساعة في التنقيب عن الورق داخل أكوام القمامة، ويستأنف عمله بعد الظهر حاملاً كيس البلاستيك الكبير في كتفه، ليتقاضى خمس روبيات في اليوم. أبو زكريا كان خياطاً معروفاً في كابول قبل أن يتحول بائعاً للخُضر. والعائلة المؤلفة من سبعة أفراد تعيش في غرفة واحدة بالكاد يدخلها النور. كل يوم بعد المدرسة، يمارس أطفال مخيم "جالوزي" حياكة السجاد كأنه طقس من الطقوس العائلية. المهمة ذاتها تستأنف عند الرابعة فجراً في الغرف المعتمة، وتتراءى على جدران المنازل أطياف العاملين الكبار والصغار محنية فوق سجادة، فيما العيون ترصد خيوط الصوف بلا تعب. السماسرة الباكستانيون يدفعون 1200 روبية لكل متر مربع من السجاد، أي ما يعادل دولارين اميركيين و... شهراً كاملاً من العمل الشاق. ووضع الأطفال العاملين في مصانع القرميد ليس أقل اجحافاً وقسوة. إذ تروي فاطمة الآتية من مدينة فرح جنوب غربي افغانستان، كيف ان بناتها الثلاثة يعملن في الخياطة بعد المدرسة ولا يجرؤن على المجاهرة بتعبهن. أما ولديها العاملان في معمل القرميد فيتقاضيان 95 روبية عن كل ألف قرميدة. وغالباً ما يعود الصغير ابن السنوات السبع جريح اليدين من كثرة العمل. أما الأكبر سناً فلا يعود قبل الثامنة مساء ولو بدأ يومه عند الرابعة فجراً! أحلام اللاجئين الأفغان تُختصر بواحد: العودة الى بلادهم. أما الصغار فيحلمون بحدائق يلعبون فيها... وعندما يروي لهم الأكبر سناً حكايات عن أفغانستان ما قبل الحرب، تضيء الوجوه المهمومة الصغيرة بخيط أمل نحيل.