} الشارع المصري والعربي يتفرع عند التقاطع الاميركي. لا يعرف الشارع المصري شعوراً واحداً موحداً تجاه أميركا. ثمة مراوحة هنا بين غضب على السياسة الأميركية وبين اعجاب بالحريات الاميركية وبالثروات الاميركية وبالحلم الاميركي. ما نجده في مصر نجده في معظم الدول العربية. ودليلنا الى حال المراوحة هذه بين اعجاب وغضب نرصده في شخصيات العالم الروائي لحامل نوبل الآداب 1988 نجيب محفوظ: أميركا في عالم نجيب محفوظ مصطفى بيومي. طبعة خاصة على نفقة المؤلف، 2001. يعيش مصطفى بيومي في مدينة المنيا في صعيد مصر. ويبدو مصرّاً على البقاء هناك. فأضواء القاهرة وسحرها الخفي لم تدفعه لإعادة النظر في قراره الصائب والسليم بالبقاء في صعيد مصر. ومشروع مصطفى بيومي يقوم على استقراء - وليس قراءة - النص الروائي واستخراج مكوناته الأولى. والخروج بنتائج ربما لم تخطر على بال المبدع وهو يكتب "أميركا في عالم نجيب محفوظ. هو كتابه الثامن عن نجيب محفوظ وحده. وكان كتابه الأول عنه هو: صورة الموظف في روايات نجيب محفوظ وصدر سنة 1990 عن مكتبة في المنيا أيضاً. وهو في هذا الكتاب الصغير. 70 صفحة فقط يدرس الدور السياسي للولايات المتحدة الأميركية في مصر كما يعبر عنها أدب نجيب محفوظ ابتداء من الزمن السابق على قيام ثورة تموز يوليو 1952 وحتى ما بعد سلام السادات مع إسرائيل والذي أبرم في كامب ديفيد. وذلك عبر محورين أساسيين هما: أميركا ومصر سياسياً. ثم أميركا ومصر اجتماعياً. وعلى رغم أن المبادئ الشهيرة للرئيس الأميركي ويلسون حول حق الأمم في تقرير مصيرها. كانت الدافع الأساسي لتشكيل الوفد المصري بزعامة سعد زغلول للسفر للاشتراك في مؤتمر السلام. وهي الرغبة التي أدى رفضها إلى نفي المطالبين بها إلى اشتعال ثورة 1919، إلا أن اسم الرئيس الأميركي وأميركا نفسها لا تذكر أبداً في ثلاثية "بين القصرين" بل هناك روايات أخرى تخلو من اسم الرئيس الأميركي مثل "حكايات حارتنا" و"صباح الورد" و"قشتمر". والروايات التي تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية. "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"السكرية"، لا وجود فيها لأميركا. لأن الاهتمام الأكبر فيها انصب على ألمانيا وإيطاليا واليابان في مواجهة إنكلترا التي نابت عن الحلفاء جميعاً. وهذا الغياب يعكس محدودية الدور الأميركي في الواقع التاريخي. يظهر اسم ويلسون في قصة "السماء السابعة" حيث يعمل مرشداً سياحياً. يقول الوافد الجديد عن ويلسون: "حسبته من القلة السعيدة التي صعدت إلى السماء الثانية". ولكن الإجابة تحسم الموقف الوسط منه: "أنت تشير بلا شك إلى مبادئه السامية ولكنك نسيت أنه لم يستغل قوة أميركا في تنفيذها. بل إنه اعترف بالحماية على مصر". وهذه إشارة إلى تناقض المبادئ التي بشرت بها أميركا مع السلوك العملي لها وهو تناقض تدينه - كما يقول أبطال نجيب محفوظ - قوانين السماء. كما ترفضه أحلام الأرض. ويستمر غياب أميركا في الثلاثية. إلى أن يتساءل البطل الإخواني شوكت عبد المنعم: "هل تقف أميركا متفرجة"؟ وإن كان القواد إبراهيم فرج يدافع عن اختياره لاسم تيتي بديلاً لحميدة في "زقاق المدق" قائلاً أن تيتي يسحر ألباب الإنكليز والأميركيين ويسهل النطق به على ألسنتهم المعوجة ويشرح: "إن الضابط الأميركي يدفع خمسين جنيهاً عن طيب خاطر ثمناً للعذراء". وهكذا فإن العسكريين الأميركيين يصبحون على هامش الحرب ولا يمارسونها. وعندما يلقي الأميركيون القنبلة الذرية فوق هيروشيما في نهاية الحرب. نجد أن عامر وجدي بطل "ميرامار" وهو ليبرالي عجوز ينفر من أميركا. ويقول لطلبة مرزوق: "أتحسب أن الطوفان قد أهلك من البشر أكثر ممن أهلكتهم قنبلة هيروشيما"؟ والنفور نفسه يعبر عنه جعفر خليل أحد أبطال "المرايا" الذي يعود من بعثته في أميركا ويعجب بالحياة والبشر فيها: "ولكني لم أستطع التخلص من أحساسي بالنفور والكآبة بسبب قنبلة هيروشيما". وفي أوائل الثلاثينات يقول سالم الأخشيدي لمحجوب عبدالدايم. وهو يعرض علىه أن يكون زوجاً رسمياً لعشيقة الوزير قاسم بك في القاهرة الجديدة يقول له: "الفرصة الجميلة كنز لمن يهتبلها وحسرة للمتردد. أتذكر كيف كان فيضان الميسيسيبي من سنوات بركة على قطن بلادنا البائر"؟ أما حسنين في "بداية ونهاية" فينطلق خياله نحو عالم بديل لا كبت فيه ولا حرمان: "في أوروبا وأميركا ينشأ الفتيان والفتيات معاً كما نرى في السينما هذه هي الحياة". وإن كان سالم جبر اليساري متقلب المزاج هو الوحيد في رحلة ما قبل 1952. الذي يعلن عن عدائه السافر والعنيف لأميركا فيقول عنها انها "روح الشر". بعد ثورة تموز يوليو 1952 يتزايد الاهتمام بأميركا في عالم محفوظ الروائي. حامد برهان الوفدي المتحمس يقول في "الباقي من الزمن ساعة". "ما الحركة إلا مؤامرة أميركية للقضاء على الوفد". وحمادة الحلواني يقول في "قشتمر" عن الضباط الأحرار: "ما هم إلا عملاء أميركا". وهناك خوف جماعي يسيطر على شلة "المرايا": ساورتنا مخاوف من ناحية أميركا. وخشينا أن تحل محل إنكلترا بطريقة أو بأخرى. بعد ما شعرنا بتأييدها للنظام الجديد. وإن كان قدري رزق وهو من الضباط الأحرار يرد علىهم: الأميركيون ذوو نفع كبير ولا خوف علىنا منهم بفضل وطنية زعمائنا الجدد. وبعد صفقة السلاح الشهيرة مع الكتلة الاشتراكية يقول لهم: أرأيتهم؟ نحن مصريون أولاً وأخيراً. لا أميركيون ولا روس. بعد عدوان 1956 يتساءل إبراهيم خيرت في "السمان والخريف": "أتحسبون أن إسرائيل تقدم على هذه الخطوة وحدها"؟ ويكمل: "وراء إسرائيل تقف فرنسا وإنكلترا وأميركا". وإن كان أبطال "الباقي من الزمن ساعة" يعتقدون أن إنهاء الحرب يعود الفضل فيه للروس والأميركيين معاً. إلا أن الدكتور سرور عبدالباقي في "المرايا" يرى: لولا الولاياتالمتحدة لقضي علىنا. وعندما تهل حرب 1967 وفي رواية "الكرنك" فإن الخوف يصبح من أميركا وليس من إسرائيل. - لا خوف علىنا إلا من تدخل أميركا. وفي "الباقي من الزمن ساعة". تكرر منيرة حامد برهان المخاوف مع ابنها علي: "ليست إسرائيل بمشكلة. ولكن إذا اخترقنا حدودها سنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع الولاياتالمتحدة. وبعد الهزيمة لا يكون هناك من تفسير سوى: ما هي إلا مكيدة أميركية". وفي رواية "أمام العرش". يقول جمال عبدالناصر، مبرراً هزيمة 1967: "تعذر عليّ النصر على جيش متفوق في التسليح ومؤيد بأقوى دولة على سطح الأرض". بعد 1967، وقبل تشرين الاول أكتوبر 1973، يقول زين العابدين عبدالله في "الكرنك": "الحل تملكه دولة واحدة هي أميركا". وإن كان الشبان فقط لا يأملون خيراً في أميركا. ثم يشرح خالد صفوان رجل الاستخبارات ويقول: "إن الاتجاهات الدينية واليمينية ترحب بالولاياتالمتحدة كراهية في الاتحاد السوفياتي. ولعلهم يفضلون حلاً سلمياً مشرفاً يتحقق بتدخل من أميركا وينهي علاقتنا بروسيا الشيوعية نهائياً". وعندما نصل إلى كامب ديفيد نكون قد وصلنا إلى أصدقاء أميركا في عالم نجيب محفوظ. في "المرايا" أول رواية يكتبها نجيب محفوظ بعد وفاة جمال عبدالناصر. يقول سرور عبدالباقي: "لا وطن بعد اليوم. إلا وطن المصالح فإما أن تكون أميركياً وإما أن تكون سوفياتياً. أما أن تقبل الحرية والإرادة الخلاقة والإنسانية وأما أن تقبل النظم الميكانيكية". بل إن هناك بطلاً في "المرايا" هو عيد منصور يصبح حلمه الذهبي أن تسيطر أميركا على الشرق الأوسط. وأن تحدد له مداراً حضارياً في مجالها الحيوي يلعب فيه العرب واليهود دوراً متكاملاً. وإن كان هناك أبطال ينفرون من قنبلة هيروشيما الأميركية من قبل. فإن طلبة مرزوق في "ميرامار" يذهب إلى عكس ذلك تماماً: "إن أكبر خطأ في حق البشرية وقع لدى تردد أميركا في الاستيلاء على سلطان العالم عندما كانت تملك وحدها القنبلة الذرية". وإن كان سرحان البحيري في "ميرامار" يرى أن لا بديل للثورة إلا واحد من اثنين الشيوعيين أو الاخوان يقول له العجوز عامر وجدي إن هناك طريقاً ثالثاً هو أميركا التي يمكن أن تحكم مصر من طريق يمينيين معقولين. وفي "الحب تحت المطر" يقترح صفوت سرحان على صديقه صيغة إعلان زواج: ح. ح محام ناجح. غني. من أصل ارستقراطي في الأربعين من عمره. أميركي الهوى إسرائيلي الرؤية. يرغب في الزواج من فتاة في العشرين. مثقفة عصرية جميلة. ويرد علىه صديقه حسن: "سيجيئني الرد من وزير الداخلية". وفي قصة "صباح الورد" تنوعت أعمال سيد ضرغام وكثرت أرباحه فكان يقول: "يقولون إننا نرتمي باختيارنا في حضن الاستعمار الأميركي. فاللهم بارك خطانا". وفي رواية "أمام العرش"، يتواجه جمال عبدالناصر وأنور السادات. يقول عبدالناصر لخلفه: "واستبدلت بعملاق ساندنا عملاق طالما ناصبنا العداء". ويرد السادات مدافعاً عن اختياره ومتشبثاً به: "اتجهت إلى العملاق الذي بيده الحل وصدقت الحوادث ظنوني". يبقى الموقف الاجتماعي من أميركا، سواء بالهجرة إلىها، أو الجري وراء نموذجها بالنسبة الى من لم يهاجروا إلىها. والهجرة إلى أميركا، لا نجدها في أدب نجيب محفوظ، إلا بعد ثورة 1952. في قصة رجل يكتب صحافي عن جار له هاجر أبناؤه الثلاثة إلى أميركا. ويقول: من المحزن أن أفضلنا هم من يهاجرون إلى أميركا. ونجد أن روايتي "المرايا" و"الحب تحت المطر"، هما الأكثر تناولاً لظاهرة الهجرة إلى أميركا. والأكثر تعبيراً في الوقت نفسه عن هزيمة حزيران يونيو 1967. الدكتور بلال يقول إن في أميركا بيئة علمية صحية. هناك البيئة العلمية ويؤكد أن وطنه الأول هو العلم. يقول عن مصر: "توجد موانع وموانع". استعداد بدائي للبحث وجو خانق للفكر والعدالة والتقدير لذلك افكر بالهجرة وسأكون في أميركا أكثر فائدة لوطني مما لو بقيت فيه. فالعلم لجميع البشر. معظم أبطال الروايتين يتحدث عن الهجرة، مصر أصبحت مقرفة ولا تطاق. ولم يعد الوطن أرضاً وحدوداً وجغرافيا ولكنه وطن الفكر والروح. ويتساءل سالم جبر في "المرايا": لم يود الناس أن يهاجروا إلى أميركا؟ لأنهم يجدون هناك الخبز والحرية. هذا عن الذين يهاجرون إلى أميركا. أما الذين لم يهاجروا فهم يحبون التفاح الأميركي ولا يشاهدون سوى السينما الأميركية ولا يستمعون سوى إلى صوت أميركا. بل إنه في قصة "أهل القمة" يلوح النشال سمسون العفش بحافظة نقود فاخرة نشلها من زميله القديم زعتر النوري. وعندما يسألونه عن صاحب المحفظة، يقول للسفير الأميركي. هل رأيت الدرس الذي رأيته؟ لا يوجد رأي واحد في أميركا، أو الأميركين جاء على لسان نجيب محفوظ باعتباره الراوي. ولكن تناثرت الآراء على ألسنة أبطاله. مصطفى بيومي صاحب هذا الكتاب الصغير المختصر حجماً الكبير معناً. والذي اصدره في الوقت المناسب تماماً. ننام ونصحو على أميركا التي تفرض نظامها على الكون كله.