يعرف الكثيرون منكم أنني قمت خلال الاسبوعين الأخيرين بجولة في أنحاء المنطقة. وأشكر كل أصدقائي، القديم منهم والجديد، على استضافتهم لي في بيوتهم وتزويدي آراءهم وكل ما أبدوه من لطف. تشترك الولاياتالمتحدة مع الشرق الأوسط بأكمله الآن في التعرض الى هجمات مدمرة من متطرفين ارهابيين. وتلقيت حيثما ذهبت تعاطفاً يفوق الوصف إزاء الكارثة الرهيبة في 11 ايلول سبتمبر. انها حقيقة أيام سود لكل العالم وليس للولايات المتحدة فقط. وقد شجعني ما لمسته في هذه التعابير المخلصة عن الحزن والألم من انسانية مشتركة وايمان مشترك بقدسية الحياة الانسانية. وقررت، قبل مواصلة الرحلة الى دمشقوجدة والرياض ثم انهائها في بيروت، ان أقضي وقتاً قصيراً في تأمل ما رأيت وسمعت. ووجدت في القدس المكان الأمثل للمراجعة والتمعن - القدس التي يسمونها "مدينة السلام"، على رغم المفارقة الواضحة في التسمية، حيث يجد المرء أمام عينه كل تلك الانقسامات الحادة التي تمزق بقية المنطقة. عليّ القول انني أشعر بقلق عميق من اليأس الذي يخيم على المنطقة. وسمعت من كل فئات المجتمع، من كبار المسؤولين الحكوميين الى شخصيات الاعمال الى الصحافيين المحليين، الدعوة المتلهفة الى مخرج من دوامة العنف. وإذا كان لكل دولة في المنطقة معركتها الخاصة مع قوى داخلية حاولت ولا تزال تحاول تدمير استقرارها، فقد وجدت اجماعاً عربياً على التركيز على خطر واحد مشترك على المنطقة، أي الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الذي لم يجد حلاً بعد. وما أخشاه ان هناك من بين مواطنيّ الاميركيين من يصرف هذا القلق السائد باعتباره من تأثير وسائل الاعلام الحكومية أو حتى تلفزيون "الجزيرة" الشهير الآن. لكن هذا بعيد عن الحقيقة. فالعرب - المسلم منهم والمسيحي، الثري والفقير - ملتزمون بعمق التوصل الى نهاية منصفة وعادلة ودائمة للصراع تتحقق فيها للشعب الفلسطيني مطامحه. ولم يكن بين كل الذين التقيتهم، من لم يعبر بقوة عن رأيه في هذا الموضوع. وقد طالب الكل تقريباً بعودة اميركا الى المشاركة في مساعي الحل، واستفسروا عن "مبادرة اميركية" مزمعة تحدث عنها بعض التقارير ولمح اليها الرئيس جورج بوش نفسه. وهناك شعور بأن اميركا توقفت عن المحاولة، متخلية عن دورها كوسيط مشارك في عملية السلام الطويلة والكثيرة المصاعب. من جهتي، كديبلوماسي عاصر مراحل مختلفة من "عملية السلام"، أود طرح طريق بديل للتقدم: ان للمنظمة الآن تجربة طويلة مع حفلات التوقيع التي لا تجدي في النهاية، وعانى الشرق الأوسط الكثير من خيبة الأمل تجاه اتفاقات تبقى على الورق ولا تحقق شيئاً لحياة الناس. بدل ذلك هناك حاجة الى التركيز ليس على الجانب الاجرائي العاجل، وصولاً الى اتفاقات سريعة آنية، بل على امكانات التعايش والتكامل على المدى البعيد بين الفلسطينيين والاسرائيليين، كل ضمن دولته المتمتعة بالتواصل الأرضي والقدرة على الاستمرار. نعم، على الولاياتالمتحدة ان تقوم بدور فاعل في دفع الطرفين الى مفاوضات مثمرة، والغريب ان علينا القيام بدور المساند للاسرائيليين والفلسطينيين سوية. لأن كلا من الطرفين يشعر بالحاجة الى دعم خارجي. وعلينا، مع حلفائنا الأوروبيين، ان نضمن لكل منهما عدم التخلي عنه في المسيرة الصعبة نحو الحل. لكننا نجد، حتى مع ضمان هذا التكافؤ التفاوضي، غياباً محيراً للمبادرة من واحد من الطرفين: الطرف الفلسطيني. فهناك كل يوم خطة اسرائيلية جديدة. واذا كان لنا ان ننتقد ما في الخطط من نواقص علينا على الأقل ان نعترف للاسرائيليين بتصميمهم على تقديم مواقف تحمي مصالحهم وتبقى، مهما كان ذلك الى الحد الأدنى، ضمن سياق السعي الى السلام. ويمكن القول، اذا طرحنا جانباً صعيد المبادئ، ان الملايين في انحاء العالم قد لا يرون تفاصيل ونواقص مبادرات اسرائيل المختلفة، لكنهم يلاحظون احتفاظ اسرائيل بالمبادرة، فيما يواصل الفلسطينيون انتظارهم السلبي لقوة خارجية تنقذهم. السنوات الطويلة من الاحتلال العسكري وخيبات الأمل تركت الفلسطينيين يصلون من اجل قوة منتقمة تؤمن لهم حقهم. لكن لنواجه الواقع في عالم السياسة الدولية القاسي: ان من النادر في تاريخ أي أمة ان يتاح لها منقذ خارجي، وعلى الفلسطينيين خصوصاً، الذين كثر في تاريخهم تدخل القوى - السلمي منها والتخريبي - ان يعتمدوا في سياستهم الخارجية على قوة خارجية. بل يمكن القول ان هذا الاعتماد أو الأمل البعيد لا يتجاوز ان يكون عارضاً من أعراض الاحباط الذي يصيب هذا الشعب الذي يستحق الانصاف وطالما تعرض للإنكار واللوم. لنقلها بصراحة: ليس لنا أو للأوروبيين أو أي طرف آخر اجتراح معجزة كهذه. هذا ما لن يحصل. واذا أراد السيد عرفات ان ينتظر خلاصاً خارجياً، وكأنه لا يزال على ساحل بيروت، فإن ذلك سيوصل شعبه الى حضيض اليأس. وسيقف عرفات جانباً فيما يستمر الفلسطينيون في تحمل مهانات الاحتلال ويدفعهم ألمهم وأساهم الى التطلع الى المجموعات الاسلامية الراديكالية. فلسطين لم توجد بعد. وعلى هذا بالضبط ان يدفع السلطة الفلسطينية الى تركيز طاقاتها الفكرية التي لا يستهان بها على صوغ رؤياها لدولتها الموعودة. هناك اسئلة عميقة يجب الجواب عليها عن الأسس السياسية والاخلاقية التي تقوم عليها تلك الدولة، وهل ستكون الغلبة فيها للديموقراطية أم للتعصب؟ وهل سيسودها القانون أم يحكمها الفرد؟ هل ستشهد الحرية الاقتصادية أم الاختناق البيروقراطي؟ هل تتحقق فيه حرية الأديان أم يسودها مفهوم ضيق لديانة واحدة تفرض نفسها على الآخرين؟ طرحت بعض هذه الأسئلة أثناء زيارتي مصر ولبنان والأردن والسلطة الفلسطينية. وسألت عدداً من كبار قادة اسرائيل اذا كانوا يعرفون الأجوبة. هناك ايضاً وجدت قاسماً مشتركاً: ليس هناك من يعرف كيف ستكون الأجوبة فيما يخص فلسطين الحديثة. غياب الأجوبة يترك المجال مفتوحاً لمعارضي قيام الدولة. ان باستطاعتهم استغلال الفراغ، وقد نجحوا فعلاً لحد كبير، خصوصاً انهم يعملون من دون تدخل يذكر من الجماهير الفلسطينية التي لا صوت لها. انهم يثيرون الشكوك في نيات الفلسطينيين، ويشيرون الى التفجيرات الانتحارية باعتبارها نموذجاً من الاعمال التي ستجيزها الدولة العتيدة، ويقدمون إزاء ذلك تصورهم ل"فلسطين" كعدد من الجزر المنعزلة المحاصرة بجيش اسرائيل. اسألكم: هل يصح هذا؟ هل هو ما يستحقه الشعب الفلسطيني؟ بالتأكيد كلا. * رئيس معهد دراسات الشرق الاوسط في واشنطن.