يدار الصراع السياسي العربي - الاسرائيلي منذ فترة، والصراع الفلسطيني - الاسرائيلي على وجه الخصوص، في ملعب السياسة الداخلية الاسرائيلية. وقد ازدادت الأهمية الكبرى لهذا المسرح السياسي خلال السنوات الثلاث الأخيرة بعد قدوم نتانياهو الى السلطة، ولا تزال أهميته في ازدياد حتى بعد فوز باراك، بل ربما تحديداً بسبب فوزه في الظرف الحالي. وبمعزل عن وجود أو عدم وجود "إجماع قومي" في اسرائيل على الخطوط العريضة للحل مع الفلسطينيين، إلا أن الفلسطينيين والعرب والولاياتالمتحدة وأوروبا ودولاً أخرى في العالم، تجد أن سياستها تجاه هذا الموضوع مرهونة بمقدار ما بمجرى الأمور وتقلباتها في الملعب الداخلي الاسرائيلي. وهذا بالطبع يفسر الاهتمام بالانتخابات الأخيرة في اسرائيل بين الفلسطينيين والعرب وفي أوروبا والولاياتالمتحدة. ولم تستطع حتى الحرب المشتعلة في كوسوفو والقصف اليومي للمناطق الصربية أن تصرف نظر أوروبا والولاياتالمتحدة، ناهيك بالعرب والفلسطينيين، عن المتابعة التفصيلية والمثابرة للانتخابات ونتائجها. ومن هذا المنظور لا حاجة الى السؤال عما إذا كانت الانتخابات في اسرائيل شأناً داخلياً أم لا، لأن الاجابة واضحة وجلية: ان الانتخابات الاسرائيلية والحياة السياسية في اسرائيل برمتها شأن فلسطيني وعربي وأميركي وأوروبي. فنحن نشهد الآن "عولمة" السياسة الداخلية في اسرائيل، وهو وضع فريد لدولة بهذا الحجم والتاريخ. أما السؤال عن السبب في ذلك فلا يُسأل، إما لأن الاجابة معروفة للجميع فلا حاجة لها، أو لأن في السؤال ما يثير الحرج فلا داعي له. وعلى ما يظهر، فإن الولاياتالمتحدةوالفلسطينيين هما الطرفان الأكثر تحرجاً من هذا السؤال لأنه يثير قضايا داخلية لديهما من المفضل عدم الحديث عنها. ويأتي العرب في المقام الثاني، لأن في امكانهم رفع بعض الحرج بالقول إن سياسة الولاياتالمتحدة تجاه الصراع مرهونة بيد اسرائيل لما لها من قوة داخلية في الولاياتالمتحدة. أما ما سيتكوّن عنه فهو عدم تضرر مصالح الولاياتالمتحدة لدى الدول العربية الأمر الذي لا يوفر لها حافزاً قوياً للسعي للتغلب على الضغوط الداخلية لمناصري اسرائيل. وتأتي أوروبا في المكان الثالث. ففي امكانها أن تطالب العرب باتخاذ مواقف أكثر حزماً وتصلباً وتؤازرهم في ذلك، وبامكانها أيضاً ان تذكر العرب أن فلسطين ما زالت أرضاً محتلة كما فعلت ذلك اخيراً، وإبقاء سفاراتها في تل أبيب. أما ما ستسكت عنه أوروبا فهو أن سياستها تجاه الصراع لا تزال مرهونة بقدر كبير بسياسة الولاياتالمتحدة تجاه الموضوع، ومن ثم اسرائيل بشكل غير مباشر. وما يساعد في استمرار هذا الوضع هو أن مصالح أوروبا لدى العرب بما في ذلك بريطانيا الحليف الأول للولايات المتحدة غير متضررة من هذه السياسة. إذن، إذا كانت قواعد اللعبة هكذا، ماذا يمكن التوقع منها؟ بعد بدء الحملة الانتخابية الأخيرة في اسرائيل، تمنى الجميع من البعض أن لا يحصل أمر يعيد نتانياهو الى السلطة كما حصل في الانتخابات السابقة، وبُذلت جهود كبيرة في هذا المجال، ولكنها جهود دفاعية لمتفرجين وليس للاعبين فاعلين، فالملعب الأساسي داخلي ولا يوجد دور حقيقي ل"العولمة" هنا. وعندما حاول نتانياهو في اللحظة الأخيرة افتعال مشكلة في بيت الشرق في القدس لعلها تؤدي الى صراع يربح منه أصواتاً من اليمين، لم تحل المشكلة بأي ضغط خارجي أو عالمي، بل بمبادرة من مجموعة "يسارية" اسرائيلية من خلال محكمة العدل العليا، أي بآلية داخلية. ولم يكن في وسع المهتمين على نطاق عربي وعالمي سوى التضرع والتأمل لأن يأتي الخلاص بأيد اسرائيلية "محبة للسلام". الآن، وفي سياق مسعى باراك لتشكيل ائتلاف حكومي يطالب البعض بعدم الضغط عليه كثيراً حول موضوع الاستيطان بما في ذلك في القدس وتوسيع حدود البلدية الى مستوطنة معاليه أدوميم، وذلك حتى لا تحدث أزمة تعيق تشكيل الائتلاف. ولنا أن نتوقع بموجب قواعد اللعبة هذه انه اذا نشأ وضع فيه بداية انسحاب من الجولان أو من لبنان، سيطلب من الفلسطينيين عدم اللالحاح أو الضغط حول أية قضايا عالقة مع اسرائيل لأن باراك لا يمكنه "التنازل" على أكثر من محور لئلا يتفسخ الائتلاف الذي شكله. وعليه، فقد أدخل العرب والفلسطينيون قضاياهم الأساسية في نفق السياسة الداخلية الاسرائيلية. وإذا كان الصراع في جنوبلبنان ورقة الضغط السورية على السياسة الداخلية في اسرائيل، فما هي ورقة الضغط الفلسطينية؟ مع اخذنا في الاعتبار الوضع الراهن وتوازن القوى فيه، ما هو متاح قد يبان متواضعاً وجذرياً في آن واحد. فلنتساءل: هل يمكن للسياسة الداخلية الفلسطينية أن تصبح عنصراً مقيداً وبقدر ما على السياسة الداخلية في اسرائيل، ورادعاً أمام الضغوطات الخارجية خاصة من قبل الولاياتالمتحدة "لتفهم" وضع باراك والحكومة الجديدة؟ إن كانت هناك قيود داخلية اسرائيلية على ما يمكن لأي حكومة أن تفعل، لماذا لا توجد قيود داخلية فلسطينية يُطلب تفهمها من قبل الولاياتالمتحدة ودول أخرى؟ أما الاعتقاد بأن ميازين القوى الحالية لا تسمح بهذا لأن الجانب الفلسطيني هو الأضعف فهو قول مردود، فالعبرة الأساسية من الانتفاضة هي ان الضغط المستمر على الطرف الأضعف قد يولد انفجاراً يؤثر على المنطقة بأكملها بما في ذلك مصالح جميع الأطراف المعنية عربية كانت أم غربية. ان الوضع السياسي الحالي في فلسطين يتسم بغياب حياة سياسية مرادفة للحياة السياسية في اسرائيل. فلا توجد أحزاب سياسية فاعلة، ولا يوجد دور خاص للمجلس التشريعي، ومعظم أطر منظمة التحرير الفلسطينية ذات العلاقة لا دور لها. وبالتالي لا يوجد ملعب للسياسة الداخلية الفلسطينية ومن النوع الذي يصلح لهذه الأغراض. إن دمقرطة الحياة السياسية الفلسطينية، بما يعني ذلك من انتخابات دورية وتعددية حزبية ومشاركة في القرار وتحسس للرأي العام، هو أحد عناصر القوة الداخلية الممكنة. أما إذا كان هذا غير ممكن لأي سبب من الأسباب، فسيبقى الفلسطينيون داخل نفق السياسة الداخلية الاسرائيلية بانتظار النور والأمل الواعد ليأتي من اسرائيل. * عميد الدراسات العليا، جامعة بيرزيت، فلسطين.