منذ "نهاية رجل شجاع" و"أخوة التراب" صار لاسم نجدت اسماعيل أنزور وقع مختلف كاختلاف نظرته الاخراجية عن الآخرين، وتأكيده على "دراما الصورة" بالدرجة الاولى... اعمال كثيرة قدمها في السنوات القليلة الماضية احدثت جدلاً واسعاً بين معجب ومنتقد هو في كلا الحالين كانت المغالاة هي العنوان الابرز، ولعل الاعمال التي اطلق عليها تعبير "الفانتازيا التاريخية" كانت سبباً رئيساً في هذه الحال من الاصطفافات النقدية. الآن يعمل نجدت أنزور على موضوعة تاريخية مهمة من تاريخ المنطقة، وفي ظرف عربي في منتهى الدقة، انه يبحث "عن صلاح الدين الأيوبي"، واضعاً تصورات وقراءات "معاصرة"، ستثير جدلاً، اشتغل عليها المخرج مع الكاتبين محمود عبدالكريم وحسن م. يوسف. التقينا نجدت أنزور وهو في غمرة بحثه... وكان هذا الحوار: هل يمكن اعتبار بحثك عن صلاح الدين بحثاً عن اسلوبية جديدة تختلف عمّا تطرح وتعمل عليه في الدراما التلفزيونية؟ - البحث عن صلاح الدين جاء نتيجة ظروف الواقع الذي يعيشه العالم العربي. وجدت ان الوقت مناسب ونحن في بدايات قرن جديد ما زلنا نتخبط ولا نعرف ما هو مستقبلنا كأمة، فهناك احساس بأنه يمكننا ان نضيف الى سيرة صلاح الدين الايوبي - التي انتجت عنها اعمال كثيرة في التلفزيون وفي السينما - اضافة جديدة ونربطها بالواقع الراهن في شكل فني راقٍ وليس بطريقة مباشرة. هذا الشيء يمكن ان اتفق معك على انه اضافة الى شيء جديد، اما ما يخص اسلوبية العمل فهي خاضعة لشرط التعامل مع المادة التاريخية الموثقة، وبالتالي فإن كل "الشطحات" الفنية ستكون محسوبة بدقة كي لا تؤدي الى التغريب لأنه من غير الممكن اللعب بموضوعة التاريخ. وماذ عن ربط التاريخ بوجهات نظر معاصرة؟ - تبقى وجهة النظر الخاصة في اعمال كهذه ممكنة من خلال اعادة قراءة التاريخ في شكل معاصر وهذا حق مشروع للكاتب والمخرج. وهل هناك جديد على مستوى التقنيات المستخدمة في هذا العمل؟ - نعم، هناك اضافات نوعية جديدة على المستوى التقني ولكن لا يمكن اعتبارها اسلوبية جديدة، انما هي تكريس لأسلوبيتي القديمة مع مزية اضافية تتعلق بالانتاج. فالجهة المنتجة لهذا العمل لديها غاية في جني ارباح مالية، بمقدار ما تسعى الى تسجيل موقف يتزامن مع الاحداث التي تجرى في فلسطين والعالم العربي، لذلك اتفق على توزيع المسلسل على المحطات الفضائية العربية مجاناً شريطة تقديمها دعماً للانتفاضة. ما هو أثر وجود مسلسل آخر عن صلاح الدين في وقت واحد؟ - ليست هناك مشكلة، فقديماً كان هناك صلاح الدين وبعد زمن سيكون، هم عندهم صلاح الدين لكن نحن ما زلنا نبحث عنه. مرحلة هناك من اعتبر "نهاية رجل شجاع" بداية مرحلة جديدة في الدراما، بعد هذه السنوات، هل يكون عملك الجديد هذا نقطة تحول نحو مرحلة جديدة؟ - لا استطيع ان اسمّي مسلسل "البحث عن صلاح الدين" بداية لمرحلة جديدة كما كان الحال في "نهاية رجل شجاع". لكن البداية الجديدة كانت في مسلسل "آخر الفرسان" لأن اسلوبيته اتت مختلفة، وفيه اضافات جديدة على اسلوب عملي، سافرنا وصوّرنا في بلدان كثيرة، وهو عمل عالمي وموزع عالمياً ونفّذ بامكانات انتاجية ضخمة. "آخر الفرسان" يمكن اعتباره نقلة نوعية. بينما "البحث عن صلاح الدين" مختلف تماماً. هو عمل فكري والطرح الفكري هو طرحي الخاص، وهنا تكمن خصوصيته. ان في المادة التاريخية الموثقة التي عمل عليها محمود عبدالكريم او في المادة المعاصرة التي يكتبها حسن م. يوسف. لا اعتقد ان هناك عملاً عربياً، حتى الآن، استطاع ان يحدث هذا الانسجام من حيث الارتكاز الى التاريخ والبحث في الواقع الراهن. تعاملت مع الرواية فقدمت "نهاية رجل شجاع" للروائي حنا مينه والآن تتعامل مع مادة تاريخية موثقة، بين هذين العملين سنوات وأعمال كثيرة اطلقت خلالها "الفانتازيا التاريخية" كيف تنظر الى هذه التجارب؟ - بصراحة، انا لا احب التاريخ ولا احب الرواية، انا احب ال"فانتازيا". لكن احياناً انت فنان ويجب ان تكون مشاركاً في ما يحدث حولك، وان تطرح رأياً وموقفاً من هذه الاحداث. فكرة البحث عن صلاح الدين فكرتي وأنا كلفت الكاتب بالعمل على الفكرة التي اريدها. ولو احسست ان واقع المجتمع العربي يحتمل او يتقبل ان اقدم "صلاح الدين الايوبي" في شكل فانتازي لما توانيت لحظة واحدة، لأنه بذلك يقدّم في شكل امتع وأهم، كي لا يقدّم مادة جافة. وهل ما ستقدمه سيكون مادة تاريخية جافة؟ - لا. ولكن المجتمع العربي لم يصل الى مرحلة يتقبل فيها اللعب بالتاريخ على مستوى الصورة وتغير الشخصيات. لذلك لجأنا الى اسلوب كلاسيكي ولكن متطور ومختلف عن الكلاسيكيات العربية المعروفة، المصرية على سبيل المثال، حيث ترى فيها جموداً ورتابة قاسية. ليست المسألة هنا مسألة حشود ومجاميع، هناك معادلة مونتاجية جديدة طرحتها في هذا العمل. وهناك علاقات انسانية وخطوط درامية كثيرة. فالمادة مرنة ونستطيع التكيّف معها من خلال اظهار النسيج المجتمعي العربي بكل اطيافه، من ديانات وأقليات وهو ما يميز بلاد الشام، ونحن نعيش ضمن هذا النسيج الجميل ونريد ان نعكسه في هذا العمل. هناك اعمال تركز كثيراً على الجانب الديني وأنا ابتعدت قدر المستطاع عن ذلك لأنه في امكان اي واحد ان يجد مراجعه ومرجعياته التي تلبي بحثه. لذلك فإن عملنا ليس فيه تطرف، اظهرنا العدو جباراً وقوياً جداً كي يكون للانتصار عليه قيمة اكبر. نحن حالياً في الذكرى السنوية للانتفاضة الفلسطينية. - مقاطعاً. ستمر سنة اخرى ونلتقي ونقول لبعضنا: "مرت سنة على انتفاضة كذا يمكن ان يكون اسم آخر غير "انتفاضة الاقصى". القيادات العربية هي المسؤولة عن كل ما يحدث، الشعوب العربية تمتلك الارادة ولكنها اسيرة القرارات السياسية لحكوماتها. دور الفنان "البحث عن صلاح الدين الايوبي" هل هو إسهام او حجر تقدمونه لأطفال الانتفاضة؟ - هو إسهام في كل شيء، الفنان جزء من هذا المجتمع ويعبر عنه، وهذا ال"تابلوه" الذي نرسمه الآن يعبر عن رأينا، ويمكن لفنان آخر التعبير بوسائل مختلفة، ويبقى ان كل هذه الاعمال تصب في خدمة المجتمع على اختلاف الجهات المنتجة. المهم ألاّ تقدم بطريقة سطحية تافهة، انما بعمق ودراية. الفنان لا يمكنه تحرير فلسطين، انما باستطاعته تسليط الضوء على قضايا معينة، ويحرّض من خلال معالجتها. وأهم شيء ان التاريخ يكرر نفسه، ونحن لا نلاحظ هذا وسأعطيك مثالاً صغيراً، من خلال قراءة تاريخ صلاح الدين نكتشف ان قلعة ال"شقيف" في لبنان حررها اهل لبنان، والتاريخ اعاد نفسه مرة اخرى خلال الغزو الاسرائىلي للبنان. انا اقول ان الكبار انتهى موضوعهم، فلنتكلم عن الصغار، هذا الجيل يجب ان يخاطب من خلال الاعمال التاريخية الموثقة بحذر شديد واهتمام شديد، وان تكون المعلومة بغاية الدقة، وتقدم بطريقة لطيفة لهم. في الاعمال الاخرى الفانتازيا يمكن ان نعمل "الشطحات" التي نريد، ولكن في التاريخ ليس هناك مجال للعب لأنه في حاجة الى عمق والى ثقافة ورصيد معرفي حيث يكون المشتغل على الموضوع قادراً على قراءة ما بين السطور، ويستطيع تجسيده والتعبير عنه، لهذا فهو حمل ثقيل والغوص فيه يحتاج الى تضافر مجموعة كبيرة من الجهود والى اختيارات دقيقة لكل شيء ولكل تفصيل.