سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
جلسات المحاكمة في الدعوى على رئيس حكومة اسرائيل بمجزرة صبرا وشاتيلا تبدأ في 28 الشهر الجاري في بروكسل . شبلي الملاط : المعركة قضائية وشارون يحاول إيقاف الدعوى إجرائياً
بعد ثبوت شرعية التهم وقوة الحجج المسندة، قفزت مجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها ألوف المدنيين الفلسطينيينواللبنانيين من ذاكرة التاريخ لتصنع بعد تسعة عشر عاماً من ارتكابها، حدثاً قضائياً غير مسبوق في بلجيكا حين قدم فريق الادعاء المؤلف من البروفسور شبلي وجدي ملاط والمحامي البلجيكي مايكل فيرهاغي وزميله لوك والين بوكالتهم عن اكثر من 20 مدنياً من ضحايا المذبحة شكوى مستندة الى اتهامات في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية على رئيس وزراء اسرائيل الحالي آرييل شارون، لمقاضاته فيها. وسلكت الدعوى طريقها القانوني بعدما أعطى القضاء البلجيكي الضوء الأخضر للشروع في التحقيق القانوني بصدد مسؤولية شارون، الذي كان وزيراً للدفاع أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، وعن جرائم تضمنت مذبحة في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت تمهيداً لاجراء محاكمته وفقاً للقانون البلجيكي الذي صدر عام 1999 الذي يتيح للمحاكم صلاحية عالمية في شأن جرائم الحرب والابادة والجرائم ضد الانسانية التي حصلت ومهما كانت جنسية الضحايا والمتهمين أو أماكن اقامتهم. وعلى رغم الاقرار بصعوبة مثول شارون بنفسه امام المحكمة، إلا أن الدعوى بدأت تُقلق الجانب الاسرائيلي، إذ جعلت شارون يأخذ القضية على محمل الجد فاندفع مرغماً الى تعيين محام شخصي من بلجيكا للدفاع عنه. ودخلت محاكمة شارون الآن من الناحية القانونية المرحلة الثانية من أصل اربع مراحل يتعين انجازها، إذ كانت الأولى تقديم الدعوى ووثائقها، والثانية اقرار مشروعيتها وتطابقها مع نصوص القانون على أن تبدأ المرحلة الثالثة بفتح القاضي المعين تحقيقاً حول امكان اصدار مذكرة اتهام في حق شارون، أو اغلاق الملف إذا لم يتوافر أساس جنائي متين، تشكل المحاكمة المرحلة الرابعة والأخيرة. ويتولى الدفاع عن الدعوى التي ستبدأ الجلسة المقبلة فيها في 28 تشرين الثاني نوفمبر الجاري فريق المحامين بمساندة من منظمات دولية للدفاع عن حقوق الانسان في اوروبا عموماً والولايات المتحدة خصوصاً في ما يمكن تسميته اليوم بالشبكة العالمية التي نشأت في شكل تلقائي لمساندة هذه الدعوى في لبنان والعالم العربي وبلجيكا وبريطانياوفرنسا وأميركا. وفي حين يرى المحامي ملاط ان الدعوى فتحت سوابق كثيرة فإن مساندة طاقم من المحامين الاميركيين في أرفع كلية حقوقية هي جامعة ييل الاميركية للدعوى، تعد سابقة ضد مسؤول اسرائيلي وبهذا الحجم. فهل توقظ هذه القضية الضمير العالمي وتأخذ العدالة بأوجه الشبه بين جريمة قتل المدنيين في 11 أيلول سبتمبر من العام الجاري في الولايات المتحدة ووحشية شارون الذي قتل ألوف الأطفال والنساء المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا في 16-18 أيلول ايضاً من العام 1982. ومهما يكن القرار الذي سيصدر ونتيجة الحكم فإن القضية أصبحت حدثاً عالمياً وهزت الأوساط القانونية والرأي العام في اسرائيل على حد سواء وأدخلت شخصاً طالما أرهب المدنيين، في دائرة الخوف، إذ ان اصدار مذكرة اتهام في حقه سيجعل اعتقاله لازماً وفق القانون البلجيكي ثم محاكمته مجرم حرب. وللوقوف على حيثيات القضية التقت "الحياة" أحد أبرز وكلاء الادعاء البروفسور ملاط الذي تناول باسهاب دوافع رفع الدعوى وتداعياتها وكيف بدأت والى أين انتهت والمراحل التي مرت بها وما رافقها من عوائق وعراقيل ومصاعب. تحدث ملاط وهو استاذ في كلية الحقوق ومحام بالاستئناف عن جو مؤات لرفع الدعوى، وقال: "منذ اكثر من عام قامت مجموعة أميركية بحملة الكترونية تتناول فيها شارون تبعت حديثنا مع بعض الأصدقاء في موضوع الصلاحية الشاملة لتطورات الأمور بعد محاكمة الديكتاتور اغوستو بينوشيه، وتناول الحديث ضلوع شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا، بالنسبة الى حجم الجريمة. وطوّر بعض الأصدقاء في اميركا هذه الفكرة من طريق شبكة واسعة خصوصاً في العالم الغربي، وتحديداً في اميركا، تخلص الى انه، حتى تكون هناك عدالة عالمية، لا يمكن لأشخاص مثل شارون ان يفلتوا من القضاء الدولي. واكتشفت بعدما رفعنا الدعوى في بلجيكا وجود مجموعة مميزة جداً من المحامين في فرنسا ناقشت إمكان مقاضاة شارون في فرنسا، ونحن على علاقة اليوم مع هؤلاء ايضاً. كذلك اكتشفنا وجود مجموعة ثالثة في اسبانيا تبحث في هذا الموضوع. ولدعوانا على شارون اسباب ظرفية عدة منها قضية بينوشيه الذي رُفعت دعوى ضده في لندن وحسين حبري في تشاد والحملة على الحكومة العراقية لاستعمالها غاز الخردل ضد الأكراد، اضافة الى النقاشات في المحكمة الجنائية الدولية في روما عام 1998. والحديث في العالم في العقد الماضي بدأ يبتعد عن حقوق الإنسان كإدانة معنوية الى تفعيل حقوق الإنسان من طريق إدانة قضائية تترتب عليها مسؤولية جنائية تنتهي بالتوقيف والمحاكمة والحبس. وقبل الحديث عن تغيير الحكومة الإسرائيلية كانت لدينا قناعة ان الموضوع قابل للسير في الدعوى، وفي هذا الوقت زارني محاميان احدهما بريطاني اسمه اندرو الن واختصاصه القانون الجنائي في بريطانيا والآخر بلجيكي هو بيتر فان دير اوبريت ويُدرّس قانون حقوق الإنسان في الجامعة. وكانا معاونين لي عندما كنت مديراً لمركز الدراسات للقانون الإسلامي وقوانين الشرق الأوسط في لندن، وتداولنا في الموضوع. وصودف وجود زميلة باحثة لها دور مهم جداً في الدعوى وهي الدكتورة روز ماري صايغ وهي معروفة بشجاعتها وعلمها، وكانت عايشت الفلسطينيين عن كثب في لبنان وكتبت كتباً مهمة عن الموضوع. فاجتمعنا معها ومع اندرو وبيتر وتداولنا في الملف وربطنا الموضوعين اللذين من شأنهما ان يجعلا الدعوى قوية، لجهة العلم القانوني والناحية العملية، إذ ان الأمر يحتاج الى فكرة علمية مرتبطة بالقانون وتفاصيله، كما الإفادات والإثبات من اجل تكوين ملف قوي. وصودف ايضاً اننا في لبنان نقيم في محيط قريب من مخيمي صبرا وشاتيلا فتابعنا الموضوع من طريق الدكتورة صايغ ومن طريق باحثة مميزة تعيش في المخيمات هي سناء حسين. نظمت الإفادات من اجل ان تكون مفيدة للدعوى. وتوصلنا الى استنتاج ان البلد الأكثر قبولاً لدعوى جدية لهذا الملف هو بلجيكا، وإن كان ثمة امكان لذلك في بلدان اخرى كسويسرا وبريطانيا وحتى فرنسا والنمسا للنظر في بعض الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي. لكننا اخترنا بلجيكا بسبب القانون الذي أقر في العام 1993 وخصوصاً التغييرات التي حصلت في العام 1999، وهذا ما فتح الباب في شكل اسهل لقضية صبرا وشاتيلا، وبدا واضحاً ان المحفل البلجيكي سيكون من أقوى المحافل لاستمرار الدعوى. ووجدنا انه إذا رفعت دعوى مثلاً في فرنسا ضد شارون فلا نجد إمكاناً للسير فيها لأن القانون الفرنسي ينص على حصانة رئيس الدولة. وقد بدأنا في تحضير الملف منذ أكثر من سنة وتوسعنا في القضية وتمكنت سناء حسين ومن خلال خبرتها في المخيمات من الحصول على ثلاثين افادة لأشخاص متضررين مباشرة من المجزرة ويمثلون عدداً من العائلات الفلسطينيةواللبنانية الذين فقدوا افراداً كثراً من اسرهم، وهنا علمنا ان شارون سيقوم بزيارة الى لندن وبلجيكا فكان الوقت مناسباً لأن نتحرك واتصل بنا السناتور فينسان فان كويكنبورن وأرسل الى الدكتورة صايغ رسالة مع دراسة قانونية اعدها المحامي البلجيكي مايكل فرهاغي، ووجدت ان الدراسة رفيعة الشأن واتصلت به مباشرة وتبين من الحديث على الهاتف وجود تكامل، وهم من المحامين الضالعين في القانون الجنائي وكانوا توكلوا في قضايا متعلقة بأفريقيا وأميركا اللاتينية بمثل هذا الموضوع، واتفقنا ان نمشي بالموضوع وكان الملف لديّ شبه جاهز وعملنا كثيراً عليه. وقلنا انه يجب ان نبدأ بالترتيبات إذ ان العملية اصبحت جدية، علماً ان وضع الفلسطينيين في المخيمات صعب خصوصاً ان القضية مغمورة، ولكن في النهاية قرر 28 شخصاً من اصل 30 المضي في تقديم الدعوى، وهنا اكتملت القضية بين اجتماع علم قانوني وملف بالوقائع جاهز فعلياً. وجمعنا كل الوثائق المطلوبة وهيأنا الشكوى. وتناول ملاط أوجه الإفادة من القرارات الأوروبية لجهة حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية فأشار الى أن القضية تختلف بحسب قانون كل بلد، ومن هنا ليس في الإمكان تناول مثل هذه القضايا ما لم يكن المحامون ملمين بتفاصيل على نحو من التعقيد لأن القضايا القانونية لها منطقها ولغتها، مثلاً، هناك قوانين ومعاهدات مختلفة لمعاقبة مرتكبي الجرائم الكبرى في العالم، وهناك المحافل القضائية الدولية والمحافل الوطنية. فالمحافل الدولية محصورة بمحكمتين، والمشكلة انهما محددتان جغرافياً في يوغوسلافيا ورواندا. وطبعاً هناك المحكمة الجنائية الدولية التي أقرت في روما سنة 1998 لكن هذه المحكمة لم تلتئم بعد لأن المعاهدة التي تؤسسها يجب ان توقع عليها 60 دولة. وأقرّها الى الآن أقل من 40 دولة، وحتى لو وجدت فثمة صعوبة إذ ان صلاحية المحكمة هذه ليس لها مفعول رجعي، بمعنى انه إذا حصلت جرائم قبل ان تؤسس هذه المحكمة فإن احكامها لا تسمح لها نظرياً بالعودة الى هذا الموضوع. اما محكمة العدل الدولية في لاهاي فلها خصوصيتها، إذ من اجل ان تتبنى قضية او تنظر إليها فإن على الطرفين ان يكونا موافقين على صلاحياتها، والمشكلة فيها ان الدعاوى التي تقدم إليها محصورة بالدول إذ لا يحق لأشخاص ان يتقاضوا امام هذه المحكمة. وساق ملاط مثالاً على ذلك، وهو أنه إذا أرادت دولة مثل لبنان او سورية ان ترفع دعوى على اسرائيل امام محكمة العدل الدولية فهذا الأمر ممكن نظرياً، لكن المشكلة ان الصلاحية لا تثبت إلا اذا قبلت اسرائيل صلاحية المحكمة، وإسرائيل ترفض هذه الصلاحية منذ 40 عاماً. هذه هي إذاً المحافل الأربعة الدولية الأساسية المؤهلة نظرياً للبحث في قضايا دولية لكنها غير مؤهلة للبحث في قضايا محددة كالجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها مسؤولون اسرائيليون كل يوم في مناطق الاحتلال. ويتابع "بقي هنا المحافل الوطنية فكان المثل الأوفى للمحافل الوطنية هي قضية "بينوشيه". إذ في العام 1998 علم قاضٍ شجاع في إسبانيا ان بينوشيه موجود في بريطانيا للاستشفاء وكان قد تلقى شكوى من مواطنين اسبان لهم اقارب وأبناء قتلوا أو فقدوا في عهد بينوشيه، واقتنع هذا القاضي بالمعلومات التي تقدمت بها عائلات هؤلاء، فطلب من المحكمة البريطانية استرداد بينوشيه لمحاكمته في إسبانيا، ومعلوم ان عملية الاسترداد تحدث في حال وجود معاهدة استرداد بين دولة ودولة ثانية، ويتم ذلك من طريق قاض يرفع الى زميله في الدولة الثانية الموجود فيها المتهم طلب استرداد هذا المتهم. لكن السؤال الكبير الذي يطرح هنا هل الجرم المطلوب به المتهم من طريق الاسترداد هو جرم يعاقب عليه في الدولة الموجود فيها والتي يطلب إليها استرداده؟ ولهذا دخلت قضية بينوشيه في دوامة وحصل لغط كبير، وكانت النتيجة ان أرفع محكمة في بريطانيا وهي مجلس اللوردات قررت ان بينوشيه يمكن ان يحاكم في جرائم حصلت في التشيلي ايام حكمه حسب القانون البريطاني. وبهذا رفضت المحكمة حجة الحصانة التي كانت عائقاً كبيراً وأيضاً الحجة بأن الجرم حدث في تشيلي وليس في بريطانيا، كذلك ليس ضد رعايا بريطانيين، فقرر القضاة البريطانيون ان ثمة جريمة يمكن ان يحاسب عليها بينوشيه واستندوا الى المعاهدة ضد التعذيب التي أقرتها بريطانيا عام 1988، فاستنتجت المحكمة العليا انه باعتبار ان عمليات تعذيب حدثت اثناء حكم بينوشيه ما بين 1988 و1990 يعود لها ان تنظر في هذه القضية بما ان بريطانيا طرف في المعاهدة، لكن هذه القضية تعثرت عندما أطلق بينوشيه، وقد حصل هذا الأمر حين استند وزير الداخلية البريطاني الى فقرة مغمورة في قانون الاسترداد البريطاني يقول فيها "أنا لديّ صلاحية كوزير داخلية لأسباب متصلة في صحة المتهم ان اخلي سبيله". وهكذا كان وعاد بينوشيه الى تشيلي حيث بدأت محاكمته ولا تزال حتى الآن قائمة. هذا الموضوع المتعلق بما يعرف بالصلاحية الشاملة مهم جداً وخصوصاً للقضايا المتصلة بالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان. ويشير البروفسور ملاط الى الإمكانات في هذا الإطار في حال لجأ إليها مواطنون تعرضوا للتعذيب ويقول: "في إمكان المتضررين من تعذيب حصل في فلسطين أو في لبنان رفع دعوى ضد اسرائيليين خلال مرورهم مثلاً في لندن للاستشفاء او للتسوق. ويقول رافع الدعوى امام القاضي البريطاني "انا عُذبت من شخص إسرائيلي اسمه كذا وهو موجود الآن في بريطانيا أطلب توقيفه والتحقيق معه ومحاكمته على اساس سابقة بينوشيه". إلا ان هذا الأمر يتطلب تحضير ملف دقيق وجدّي. فمن الأمور التي حصلت جراء الدعوى التي تقدمنا بها في بلجيكا ان الإسرائيليين بدأوا يخشون وقع الصلاحية الشاملة لأنهم يعلمون اهميتها فنبهوا المسؤولين الذين من الممكن ان تثبت التهمة عليهم بالنسبة الى سجلهم العنيف. لكن هذا الإنجاز لا يفعّل من دون مجموعة كبيرة من اهل القانون الضالعين لمتابعتها، وتكوين ملف جدي كالذي حاولنا جمعه في قضية صبرا وشاتيلا. لذا فإن رفع دعوى جدية في بريطانيا، مثلاً، يحتاج الى تحضير ملف قوي". وتحدث ملاط عن الحدث الذي تزامن مع تقديم الدعوى وتعاطي الصحافة الأوروبية معها. فقال: "عندما رفعنا الشكوى، حصلت ظروف ساعدت في الدعوى. الظرف الأول إلقاء القبض على الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش، ما يعني امكان محاكمة مسؤول عن جرائم ضد الإنسانية بشكل فعلي. والقضية الثانية كانت برنامج "المتهم" الذي عرض على محطة "بي بي سي" وصودف ان البرنامج عرض في 17 حزيران يونيو ليلاً وكنا قد تهيأنا لتسليم الشكوى الساعة التاسعة والنصف صباحاً في الثامن عشر الى القاضي فلاقت الدعوى اهتماماً كبيراً من جانب الصحافة الغربية، وخصوصاً الأوروبية. وفي اعتقادي ان هذا الاندفاع من الصحافة مرتبط ايضاً باطلاع اهل القانون والصحافيين الجديين على الشكوى وما تضمنته من دراسة قانونية مفصلة. وفي غضون ايام بدأت الأخبار ترد من إسرائيل وعبر صحفها ان الأوساط القانونية في وزارة الخارجية الإسرائيلية باشرت بدراسة الشكوى، وأنها قلقة منها، خصوصاً ان الإسرائيليين وجدوا مخاطر كبيرة في القضية لجهة المراجع القانونية الموجودة في الشكوى والوقائع التي اعتمدت عليها. وقد اخذت القضية زخماً كبيراً عندما تبين ان القضاء البلجيكي قبل الدعوى وعيّن قاضي تحقيق بصورة سريعة فأصبحت الشكوى قضية عالمية بعدما عدل رئيس الوزراء الإسرائيلي عن زيارة بلجيكا. وكانت ردة الفعل الأولى للحكومة البلجيكية مؤسفة إذ ان بعض الأوساط الحكومية دعت الى تغيير القانون البلجيكي، لكن مع الوقت تم العدول عن هذه الفكرة بينما عاد رئيس الوزراء البلجيكي ليتحدث عن "افتخاره بالقانون البلجيكي"، وقد تكون الدعوى ساعدت البلجيكيين خصوصاً أن بلجيكا تترأس المجموعة الأوروبية بعدما ثبت استمرار شارون بارتكاب جرائم كبيرة كل يوم. قد تُشكل هذه الدعوى أيضاً سابقة بالنسبة الى الدعم الذي جاء من منظمات دولية في الغرب تهتم بشؤون حقوق الانسان. ولم تمض بضعة أيام على رفع الدعوى حتى صدر بيان من أهم منظمة لحقوق الانسان في الولايات المتحدة وهي "هيومن رايتس ووتش" مطالبة بمحاكمة شارون لمسؤوليته في مذبحة صبرا وشاتيلا، وتبع هذا الدعم اهتمام من القيمين على الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان FIDH وهي أهم منظمة لحقوق الانسان في فرنسا، إضافة الى مكانة زميلنا لوك والين الرئيس السابق لمنظمة "محامون بلا حدود" في بلجيكا، ولهذه المنظمة تاريخ واسع أيام رئاسته في الدفاع عن ضرورة محاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى. وتوج هذا الدعم العالمي من جانب منظمات متنفذة في الغرب البيان الذي صدر منذ نحو شهر عن منظمة العفو الدولية في لندن بخصوص ضرورة محاكمة شارون ومتابعة المحاكمة في بلجيكا بما يأتي ببعض العدالة الى ضحايا صبرا وشاتيلا. وفي حين أشار الى أن هذه المواقف المؤيدة كانت انجازاً عرضياً للدعوى قال: "انما من الناحية الأخلاقية والدفع العالمي لها أثبتت الدعوى الحاجة الى عدم السماح لما حدث في صبرا وشاتيلا أن يبقى أسير النسيان، وضرورة معاقبة المسؤولين عن هذه المجزرة في محفل قضائي دولي". ولفت ملاط، وهو أستاذ جان موني في القانون الأوروبي، الى أنه إضافة الى موقف المدعي العام في بلجيكا المساند للدعوى فإن التعتيم الذي يرافق عادة القضايا المرفوعة من ضحايا أشخاص متصلين بالغرب كسرت طوقه هذه الدعوى من خلال مواقف هذه المؤسسات العالمية التي لها تراث فريد من نوعه في الدفاع عن حقوق الانسان. ومن الأمور اللافتة التي ساعدتنا كثيراً في متابعتنا الصعبة لهذه القضية يومياً في العمل القضائي في بلجيكا، ما جاء عرضاً أيضاً بمساندة من أكثر من 150 محامياً اتصلوا بنا ليقدموا استشاراتهم وخبراتهم، علماً أنه من الصعوبة بمكان الإفادة من كل هذه الطاقات لأن ادارة الملف القضائي تحتاج الى نوعية خاصة متصلة بثلاثة أمور تجعلها تتألق قانونياً في بلجيكا: الأمر الأول مرتبط بالقانون البلجيكي الصرف الجنائي الإجرائي. وهنا حظيت الدعوى بدفع الاختصاص الكبير للزميلين البلجيكيين فرهاغي ووالين. الأمر الثاني هو الدعم الذي يرافق الدعوى من قبل معهد حقوق الانسان في كلية الحقوق في جامعة ييل في أميركا، وهذه الكلية كما هو معروف أهم وأرفع جامعة حقوقية في الولايات المتحدة على الاطلاق، ونوعية الدراسات القانونية في المواضيع المتصلة في الشق الدولي من هذه الدعوى أفادتنا كثيراً، ولا يزال طاقم من عشرة قانونيين في معهد "كلينيك" ييل لحقوق الانسان يساعدوننا في ترهيف تجميع الحجج وإثباتها ودعمها بالغزارة الموجودة في متون القانون الدولي. والأمر الثالث وهو على المستوى الوطني إذ كان مفيداً الاهتمام الذي رأيناه في الأوساط القانونية في العالم العربي، في لجنة المساندة اللبنانية التي يتصدرها رفعت النمر، وفي المدة الأخيرة المواقف المشجعة من جانب اتحاد المحامين العرب، مع الأمل بأن يتطور هذا الاتصال مع الزملاء العرب لتقدّم هذه القضايا وقضايا أخرى تتناول المسؤوليات الجنائية المتصلة بمجرمي الحرب في اسرائيل كما في سائر العالم. فالاهتمام الذي رأته الدعوى لدى أهل الاختصاص قد لا يكون مسبوقاً في ما يسمى بالعدالة العالمية أو الصلاحية الشاملة منذ قضية بينوشيه، بل ان محاكمة آرييل شارون كفيلة بكسر نمط الازدواجية في المعايير القانونية كما السياسية في العالم اذا كتب لها النجاح. أما التفاف أهل القانون في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي لمساندة القانونيين وعلى رأسهم الزميلة دينا هورويتز في جامعة ييل التي يتردد اليها أهارون باراك، وهو رئيس المحكمة العليا في اسرائيل حالياً وأحد الأعضاء الثلاثة في لجنة كاهان التي حققت في المجزرة آنذاك ووجدت آرييل شارون "مسؤولاً شخصياً" عن المجزرة، مثل هذه الصدفة يظهر المدى العالمي الذي توصلت اليه الدعوى في بلجيكا. وفي وقت لاقت الدعوى رواجاً اعلامياً لافتاً، هل يتوقع المحامي ملاط نجاح الدعوى؟ وماذا يمكن أن يحدث إذا جرّم شارون؟ يقول: "ان وضع شارون صعب الآن، وقد أجبر على تعيين محام في بلجيكا. وبذلك انتفت الحاجة الى تبليغه في اسرائيل، علماً أن اصول التبليغ في المحافل الدولية صعبة جداً... لسنا بحاجة الى تبليغه في اسرائيل اذ بات سهلاً تبليغه اليوم في بروكسيل على عنوان محاميه، ولذلك هذا تقدم طبعاً، ولكنه ليس كافياً، انما قناعتي أنه حتى إذا لم ننجح في بروكسيل فتكون الأسباب اجرائية أي امتناع القضاء البلجيكي من النظر فيها لأسباب تختص بالصلاحية وليس لجهة مسؤولية شارون الثابتة. ومن المفيد النظر في شكل جديد الى الامكانات الأخرى المتاحة في مواضيع مشابهة يتم فيها انتهاك واسع لحقوق الانسان من قبل المسؤولين الاسرائيليين. ومن النجاحات البارزة التي توصلنا اليها هي الخشية في الأوساط البارزة المعروفة بالتعذيب وبالقمع، والتنبيه الذي صدر عن الأوساط القانونية في اسرائيل للزعماء السياسيين الضالعين في انتهاكات صارخة لحقوق الانسان من تعذيب أو قتل، وقد أعلموا بتوخي الحذر عند السفر من الادعاء عليهم من ضحاياهم وتوقيفهم في البلدان التي يسافرون اليها. القضاء مفتوح إذاً لدعاوى أخرى مختلفة غير هذه الدعوى، من الممكن النظر في أمور أقرب الينا من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان لا سيما في الضفة الغربية اليوم، لكن هذا يحتاج الى حشد ممّيز للطاقات القانونية العربية والدولية. وقد أبرزت هذه الدعوى أن المجال مفتوح أكثر مما كنا نتصور لجر المسؤولين الاسرائيليين الى بعض المحاسبة الدولية، وهذا يتطلب أمرين أساسيين لنجاح أي دعوى: الأول العلم، أي المعرفة الدقيقة بالقوانين ومجالاتها، والإمكانات المتاحة فعلياً وخصوصاً في العواصم الغربية. وقد تكون هناك إمكانات في اسرائيل نفسها لم تطرح بعد، لكن هذا يحتاج الى عمل قانوني معمّق لا سيما من جانب المواطنين العرب في اسرائيل والمواطنين اليهود الذين يريدون المساواة لمن ليسوا يهوداً. والأمر الثاني هو جمع ملف وافٍ عن الحدث وهذا يحتاج الى عمل دؤوب على المستوى الميداني لجميع الاثباتات والافادات. وقد حاولنا أن نظهر جدية في الافادات الثلاثين التي تقدمنا بها والتي هي صلب هذه الدعوى، كما في المراجع البحثية العديدة المدرجة في الشكوى. وتأكيداً على أن الدعوى يأخذها الاسرائيليون على محمل الجد، يشير ملاّط الى مقالة صدرت أخيراً في "الانترناشيونال هيرالد تريبيون" كتبها اسرائيلي يهودي اسمه يوري افيناري يقول فيها: "أنا كشخص مناهض للصهيونية ولما حدث في صبرا وشاتيلا والذي أعتبره جريمة كبيرة، لست معنياً في الدعوى في بلجيكا، فبأي حق يعود لرئيس وزراء اسرائيل أن يورطنا مع القضاء في بلجيكا"، ما اضطر شارون الى تعيين محام شخصي له في هذه الدعوى وأجبر على ذلك لأنه منع من الدفاع عن نفسه إذا اقتصر الدفاع على دولة اسرائيل. وهذا لا يعني انتفاء المسؤولية عن اسرائيل في هذا الموضوع، لكن القانون في بلجيكا يسمح بإقامة الدعوى على أشخاص، لا على منظمات أو دول. وإن كان وجوده كوزير للدفاع آنذاك يحتم حيزاً من المسؤولية المرتبطة بحكومة اسرائيلية عموماً، لكن شارون لا يستطيع أن يختبئ خلف مجموعات لينزع عنه مسؤولية محددة ترتبط به في شكل واضح على المستوى الشخصي". وعن الازدواجية الاميركية في التعامل الدولي وخصوصاً في ظل الحملة التي تقودها بعد أحداث مانهاتن وما نتج عنها من قتل مدنيين وطريقة تعاطيها مع قضية صبرا وشاتيلا التي طاولت أيضاً مدنيين لا يعوّل ملاّط كثيراً على الحكومة الاميركية التي لا تزال رهينة ازدواجية معاييرها. ويضيف: "إن الموقف الوحيد على المستوى الرسمي في الولايات المتحدة جاء عندما زار شارون واشنطن منذ أربعة أشهر وحدثت تظاهرات أمام البيت الأبيض تذكّر بدوره في صبرا وشاتيلا، ولدى طرح هذا السؤال على آري فلايشر الناطق الرسمي في البيت الأبيض كان جوابه "إن شارون هو رئيس وزراء منتخب في اسرائيل". ويرى ملاّط في ذلك عبارة عن اتجاهين: الأول إشارة من جانبهم بأنهم لا يتدخلون في القضايا القضائية، وإن كانوا غير مرتاحين لها كحكومة، فلا يزالون على رأيهم بالنسبة الى شارون بعد كل ما ظهر من تصرفاته الوحشية في التعاطي مع الانسان العربي الى اليوم، والاتجاه الثاني من الناحية القانونية ان هذه الحجة التي استندوا اليها بأن شارون انتخب هي حجة باهتة جداً في النظام الأميركي نفسه، إذ أن الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون جرت محاكمته وكان رئيساً للجمهورية ومنتخباً بأكثرية كبيرة. لذلك ان الحجة بأنه انتخب لا تنفي مسؤولية شارون الجزائية في جرم مثل صبرا وشاتيلا. أما تجاهل الحكومة الأميركية لهذه الدعوى والانزعاج منها، فهذا من صلب السؤال الذي يرتكز اليه مستقبل اميركا في العالم، لا سيما لأوجه التشابه القانوني بين جريمة ضد الانسانية حصلت في أيلول سبتمبر عام 1982 مجزرة صبرا وشاتيلا وجريمة ضد الانسانية حصلت في أيلول الهجوم على مركز التجارة العالمي في مانهاتن في العام الجاري 2001. يبقى أن ثمة امكانية واسعة لتحرك مواز في أميركا، إذ هناك اوساط قانونية وشعبية فيها من الممكن أن ترتكز الى هذه الدعوى للبدء في فرض نظرة مختلفة للإجرام في الشرق الأوسط". والى أين وصلت الدعوى؟ يوضح ملاّط "أنها مرت في مراحل مختلفة، كما كل دعوى صعبة في مثل هذا المستوى، هناك تقدم وتراجع، الدعوى في الوضع الحالي مندفعة لأن النيابة العامة على أعلى مستوى في نظام الهيكلية القضائية البلجيكية انضمت الينا في دعوانا ضد شارون، بعدما كان قاضي التحقيق قد أخذ بحجتين من طرفنا وبحجتين من الطرف الاسرائيلي، إنما الادعاء العام اليوم أخذ بالحجج كلها التي تقدمنا بها ورفض كل الحجج التي تقدمت بها دولة اسرائيل وشارون تحديداً، ولفصل هذا التباين حددت جلسة في 28 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، سنترافع خلالها وسنقدم الحجج تقرر على أثرها المحكمة في بداية العام المقبل موضوع الصلاحية، إنما القضية قد تكون طويلة، فإذا جاءت النتيجة لمصلحتنا سيكون ذلك انتصاراً كبيراً لقضيتنا، وهذا ما سيحتم لجوء شارون الى محكمة التمييز. أما إذا أخفقنا فلا بد من أن نميز بدورنا، كلنا يترقب، وكل محام يعلم في قضايا بهذه الأهمية أن هناك أموراً لا يمكن التحسب لها بطريقة رياضية". ولدى سؤاله: ألا تشعر بالخطر من جراء تولي مثل هذه القضية الحساسة، وخصوصاً أنها تتعلق برجل دموي هو شارون؟ يجيب ملاّط "تخطينا هذه المرحلة، كان ثمة قرار صعب في البداية هل نسير في هذه الدعوى أم لا، وعندما أخذنا القرار بات علينا تحمل التحدي حتى النهاية، ونحن نحاول أن نبقي هذه الدعوى محصورة في مسألة انسانية بحت، ولا نُدخل فيها الشق السياسي، ولو كنّا نعرف أن الدوامة العالمية مع الأسف لا تسمح بهذا التأني القضائي الصرف في مواضيع بهذه الضخامة". وللتدليل على تأثير الدعوى على شارون عرض ملاّط لواقعة حصلت مع أحد محامي الدعوى وهو بلجيكي وقال: "انتابنا قلق في إحدى المناسبات على أحد الزميلين البلجيكيين لوك والين وهو تميّز بشجاعة فائقة عندما ذهب الى القدس وعقد مؤتمراً صحافياً بعد اسبوعين من رفع الدعوى، مع محامين فلسطينيين ومحامين اسرائيليين - عرب ويهود - داعمين لهذه الدعوى. وعلمنا من الصحافة الاسرائيلية حينها أن شارون بحث في توقيفه وطرده من اسرائيل، إنما لأسباب متصلة بالمفاجأة وبشجاعته، رأت الحكومة الاسرائيلية أن توقيفه يشكل اساءة اليها أكثر من ترك الأمور تأخذ مجراها بصورة طبيعية فتراجع شارون عن فكرة توقيف لوك وطرده. صحيح انه تبقى اسباب القلق لمعرفتنا بالنمط الاسرائيلي في طريقة التعاطي مع الأمور، لكن هذه الدعوى دخلت طوراً عالمياً يتخطى أي إنسان، والدعوى لن تتوقف وهي مستمرة بنا أو بغيرنا". ويشير ملاّط الى أن المعركة في النهاية هي معركة قضائية وشارون يحاول إيقاف الدعوى إجرائياً إذ انه يعرف انه في وضع صعب جداً. فهل سينجح إجرائياً؟ يتساءل ملاط الذي يشغل أيضاً منصب مدير مركز دراسات الاتحاد الأوروبي في جامعة القديس يوسف ويقول: "نحن في صدد معركة كبيرة وما يحصل حتى الآن هو لمصلحتنا، خصوصاً أن المدعي العام يقول: إن المحاكم البلجيكية بحسب القانون البلجيكي هي صالحة وهذه حجة أساسية الى جانب الضحايا في بحث لن يتوقف عن الحق".