مع كل هذا السيل الهائل من الإصدارات الروائية العالمية اليوم، يبقى لعدد من الروايات القديمة نضارته، وقيمته "المعاصرة"، إذا جاز القول. ورواية "كبرياء وهوى" للبريطانية جين أوستن 1775- 1817 من بين هذه الروايات التي تقاوم الزمن وتتأبى على النسيان. أولم تكن إحدى أهم عشر روايات عالمية رشحها سومرست موم في كتابه الذي يحمل عنوان "أعظم عشر روايات عالمية". قرأتها قبل ايام، قراءة ثانية، بعد زهاء ربع قرن على القراءة الأولى، بدافع الحنين الى زمن البراءة، فشدتني إليها كما لو انني أقرأها للمرة الأولى. ونأتْ بي ثلاثة ايام - هي المدة التي استغرقتني قراءتها - عن صخب عصرنا وعنفه. تنتمي "كبرياء وهوى" الى عالم الروايات الرومانسية التي شاعت كتابتها في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. فبطلها دارسي خير مثال على الشخصية الرومانسية: عند ظهوره للمرة الأولى في مجتمع ميريتون، جذب الانتباه إليه فوراً برشاقته، وطول قامته، ووسامته، وسيمائه النبيلة، الى جانب الثروة التي يملكها. لكنه كان معقداً، ومتغطرساً، لا يكاد يلين لأحد. اما البطلة اليزابيث، فهي الأخرى، تنتمي الى عالم الفتيات الرومانسيات اللائي يعرفن كيف يروضن السجايا المتعالية عند رجل مثل دارسي. وبقدر ما توصف هذه الرواية بأنها تنتمي - ايديولوجياً - الى الفكر ما بعد الثوري ما بعد الثورة الفرنسية، اي الفكر الذي يمثل رد فعل تجاه الثورة الفرنسية، فهي تنطوي - في جوهرها - على موقف اجتماعي ثوري يلتقي في آخر المطاف مع افكار الثورة الفرنسية التقدمية وفلسفتها، لا سيما في موقفها من المرأة، وبذلك سجلت هذه الرواية بادرة تمرد على الصورة التقليدية الرومانسية. فهنا، في "كبرياء وهوى"، تطرح العلاقة بين الجنسين بصورة اكثر تعقيداً وتطوراً مما هو متعارف عليه في مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية. وإذا كانت هذه الرواية تبدأ وتنتهي مثل سائر الروايات الرومانسية: غموض في مشاعر كل من البطلين الرومانسيين تجاه الآخر، ثم نهاية سعيدة بالزواج، فإن تفاصيلها تعكس اشياء أخرى تتجاوز هذا الإطار الظاهري. ويتجسد ذلك بصورة اساسية في شخصية البطلة اليزابيث بنيت القوية ونزعتها الاستقلالية. وما يحبب هذه البطلة الى القراء المعاصرين هو هذه الخصال التي تميز اليزابيث على البطلات التقليديات الأخريات من بنات جيلها وعصرها. فإليزابيث بنيت تمثل في هذه الرواية نموذجاً مختلفاً جداً عن النموذج النسوي للبطلة الرومانسية التقليدية التي تتسم في سلبيتها وطفوليتها ورهافتها المفرطة. وهي بحق، وبفضل فطنتها وبراعتها وجرأتها في الحديث، اكثر بطلات جين اوستن حيوية وقرباً الى مزاجية القارئ المعاصر، من دون ان يعني هذا انها كانت نبتة في غير محيطها. كتبت هذه الرواية بعد الثورة الفرنسية ببضع سنوات، اي في فترة اتسمت بالحركة الاجتماعية والأزمة السياسية في أوروبا كلها، من دون استثناء بريطانيا، التي لم تقف موقف المتفرج من الثورة الفرنسية. لهذا قال الكاتب المعروف جورج شتاينر: "في ذروة الثورة السياسة والصناعية، في عقد من السنين حافل بالنشاط الفلسفي الهائل، كتبت الآنسة اوستن روايات تبدو خارج تخوم التأريخ تقريباً". لكن فيفيان جونز، ترد على ذلك مؤكدة ان قراء ونقاداً قليلين جداً يشاطرون قِصر نظر جورج شتاينر، الذي يبدو انه يفهم التأريخ فهماً مسطحاً أو مباشراً. فرواية "كبرياء وهوى" تتحدث عن بضع عوائل بريطانية من الطبقة الوسطى الريفية وما فوقها، بما لا يبدو انه خارج حدود او تخوم التأريخ. فليس قليلاً انها قدمت بطلة نسوية جريئة ليست نمطية أو تقليدية، وأنها كتبت عن المرأة الجديدة حتى في المجتمع الريفي. وبهذا لم تكن روايتها بعيدة من السياسة، بل في صلبها، إذا أدركنا ان "الشخصي ينطوي على بعد سياسي"، كما تقول احدى الكاتبات النسويات في ستينات القرن العشرين. وأن التطور التأريخي يمر عبر التفاعلات الاجتماعية المتحركة، وليس فقط من خلال الثورات والحروب والتكنولوجيا. هذا لا يعني ان روايات جين اوستن تبشر بأفكار ثورية. إن تناولها قطاعاً من الطبقة الريفية الحاكمة، واهتمامها بالعلاقات الاجتماعية القائمة على عنصر الانسجام والتقاليد الارستقراطية، ينطوي على تكريس للنظام الاجتماعي القائم بقدر ما يومئ الى تجديده، لكنه لا يدعو الى الثورة عليه. مع ذلك كله، اين هو موقع جين اوستن من الثورة الفرنسية، هي التي شهدت احداث هذه الثورة وعاشت في عصرها وفترة ما بعد هذه الثورة؟ رداً على احتمالات تصنفها ضمن قائمة المعادين للثورة، تفضل الكاتبة النسوية المعاصرة فيفيان جونز وصف جين اوستن بأنها من رعيل ما بعد الثورة، بدلاً من مناوئيها: أي انها كانت ممن هضموا ومثلوا الأفكار استراتيجياً بدلاً من معارضة الأفكار الداعية الى التغيير في صورة عمياء. فرغت جين اوستن من كتابة "كبرياء وهوى" بين 1796- 1797، أي عقب الثورة الفرنسية التي لم يهدأ بعد اوارها. ويومذاك بذلت الحكومة البريطانية قصارى جهدها لقمع الأفكار الثورية على الضفة البريطانية من القناة، وقد أفلحت ضمن حدود. كانت هذه الفترة عاصفة إيديولوجياً، حيث كان حتى الشخصي يحمل بعداً سياسياً. وفي هذه الفترة اصدر ادموند بورك سنة 1790 كتاباً مناوئاً للثورة تحت عنوان تأملات في ثورة فرنسا، دافع فيه بحرارة عن التقاليد الإقطاعية وعن الملكية والارستقراطية والمجتمع الذكوري، مركزاً على العادات الجنسية والعائلة. وتفجع على زوال "عصر الفروسية"، وأكد على "الولاء التام للنظام الطبقي"، وعلى أن "مبادئنا الأساسية تتجلى في ان نظهر عواطفنا الاجتماعية في محيط عوائلنا"، وأن "نحب عصبتنا التي ننتمي إليها في المجتمع". لكن هذه الأفكار المحافظة لم تسلم من النقد والطعن. وكانت ماري وولستون كرافت من بين ابرز من تصدوا لهذه الآراء. وتعتبر اليوم من رواد الحركة النسوية في بريطانيا. دافعت هذه الكاتبة عن الأفكار الثورية، وأكدت ان تقليدية بورك تعبر عن "مخيلة مريضة"، وذكورية استحواذية تختزل النساء الى كائنات جنسية. وعندها ان فكرة بورك عن العائلة تنطوي على لا مساواة في الجنس. وانتقدت وجهة النظر التي تنسب العقل الى الرجل والعاطفة الى المرأة. لكن العناصر الراديكالية البريطانية فقدت ثقتها في نفسها وخفَتَ صوتها في اواخر تسعينات القرن الثامن عشر، مع تراجع القيم الثورية في فرنسا، وممارسة الاضطهاد في بريطانيا. وازدادت هستيريا الرجعية في بريطانيا اثناء الحروب النابليونية، في منعطف القرن. وتعرضت الأفكار النسوية التي بشرت بها وولستون كرافت وأمثالها الى أبشع ضروب الطعن والإساءة، وقيل في الناشطات النسويات ما يقال في العواهر، واعتبر نضالهن دعوة الى الفجور والدعارة. وسادت افكار اكثر محافظة ورجعية، حتى بأقلام بعض النساء، من امثال هنّاه مور Hannah More. في مثل هذه الأجواء الخانقة كانت رواية "كبرياء وهوى" عملاً أدبياً ايجابياً حتى في إطاره السياسي. وبالتالي لم تكن خارج تخوم التأريخ، كما وصفها جورج شتاينر. بل يمكن اعتبارها بياناً معارضاً لكل الأفكار والتيارات الانهزامية التي سادت تلك الفترة، والتي كانت هنّاه مور من أبرز ممثليها، تلك الأفكار التي كانت تؤكد على ان سعادة النساء تتحقق في الاستسلام والخنوع، اي في ممارسة دور سلبي في المجتمع .... كانت اليزابيث، بطلة الرواية الرئيسة، نموذجاً ايجابياً للمرأة بكل معنى الكلمة. ففي اطار ما ينشده دارسي من المرأة، قالت له اليزابيث: "اذاً فأنت تنشد الكثير من المرأة". "نعم، انني انشد الكثير منها". هنا علق زميله مؤكداً: "... على المرأة ان تتمتع بمعرفة ضافية في الموسيقى، والغناء، والرسم، والرقص، واللغات الحديثة... وإلى جانب ذلك ينبغي ان تمتلك شيئاً خاصاً يتعلق بسلوكها وطريقة مشيها، وبنبرة صوتها، ومخاطبتها الآخرين، ولغتها...". لكن قارئ الرواية يخلص الى أن دارسي لم يكن يبحث عن هذه المواصفات بقدر ما وجد نفسه مأخوذاً بروح التحدي لدى اليزابيث، امرأة لها شخصيتها القوية، الى جانب مؤهلاتها الثقافية، إنها، إذاً، ندّ للرجل بحق، وهذا ما كانت المؤلفة تريد التوكيد عليه في روايتها، مع اعجابها الشديد بالبطل دارسي، الذي كان مثال الرجل النجومي في عين المرأة والمجتمع. وبالمناسبة، يرى معظم النقاد ان المؤلفة نفسها كانت تكن الود كله لبطلها دارسي، وتتعامل معه بكل دواعي الاحترام، وحاولت ان ترسم شخصيته بمزيد من العناية والحب، كما اكدت في رسائلها. مع ذلك، نجد في رواية "كبرياء وهوى" ان الحافز على التغيير، على الصعيدين الشخصي والاجتماعي، تنهض به المرأة. في رواية "كبرياء وهوى" نرى أيضاً ان مهمة البطلة ترويض البطل دارسي، الذي سيتخلى عن تقاليد طبقته الأرستقراطية القاضية بتكريس القيم الطبقية الصارمة. وهذا لم يتم إلا بعد ان أفلحت البطلة - اليزابيث - في فرض شخصيتها عليه، وإقناعه - في تصرفها - بأن المؤهلات المكتسبة خير من الموروثة كالثروة والمحتد.