أصاب الذهول والوجوم "الأسوياء" في العالم بعد احداث التفجيرات في نيويورك وواشنطن، تلك الأحداث التي اصطلح على تسميتها "الثلثاء العالمي الأسود"، مبعدين طبعاً عن هذا العالم العاقل المذهول، مدبري هذه الأعمال الإرهابية ومن شايعهم بالقول أو بالفعل أو حتى بالتواطؤ المعنوي، فهؤلاء لا يحسبون إلا على الجانب الذي تراه في كل التاريخ الإنساني عموماً، الجانب المتسربل بلباس الرغبات الدفينة بانهيار معبد البناء الاجتماعي الإنساني على من فيه، معتذرين مرة بأنهم سيعيدون بناء ما قد هُدم، لكن عبر سقوف من الجماجم وأعمدة من الأحشاء وأرضية من الدماء وطلاء من الدموع، ومرة بادعائهم أن لا داعي أصلاً لهذه الأبنية فالخلاء والوحشة والتصحر علامات صحة وقوة وسلامة للبشرية، وأن - النقيض السيئ!! - لكل ذلك ليس إلا التمدن والحضارة والبناء. ولعل اكثر المذهولين والمحبطين هم ابناء هذه البلاد الطيبة الملمكة العربية السعودية الأسوياء... لأن لهم تجارب مريرة من قبل مع الإرهاب ومع القلاقل والفتن، اصبحوا بعدها اكثر الناس كُرهاً وعزوفاً عن مجرد سماع أو رؤية ما له صلة ولو بعيدة بهذه الأعمال، باعثهم في هذا ما اختزلته نفوسهم وضمائرهم من رحلات الإسلام وقيمه التي لا ترى في العنف والإرهاب والفتن إلا نكوصاً لكل ما هو اخلاقي وسوي، ولأن أسوياء هذه البلاد يعرفون ان العالم يحتاج في بدايات قرن جديد، الى التكامل والتعاون والتفاهم والالتقاء بين حضاراته وثقافاته ومجتمعاته، وليس بحاجة الى نقائض هذه التطلعات، وأخيراً... لأن هذه البلاد ارتبطت تاريخياً بعلاقات المودة والمصالح المتبادلة والصداقة مع شعب الولاياتالمتحدة الصديق الذي تبادلنا معه الرغبات في تفاهم مثالي "ثمرته" الألوف المؤلفة من ابنائنا الطلبة من راغبي الاستزادة في التحصيل العلمي والذين يقطنون حالياً هناك، أو من سبق ان مرّ منهم على تلك البلاد البعيدة جغرافياً، "وثمرته" كذلك حجم تبادل تجاري ضخم وعلاقات نفطية متميزة، "وثمرته" كذلك استثمارات سعودية هائلة في الولاياتالمتحدة الأميركية، "وثمرته" كذلك دماء اليافعين الأميركيين التي سالت على شواطئ الخليج العربي معلنة ان ليس بالمنفعة التجارية ولا بالمصالح الاقتصادية تتعايش الأمم، بل ايضاً بالاندفاع الأخلاقي نحو نصرة قضية ما... مهما قيل عن هذه القضية وخالطها، وبعيداً من موقفنا الأخلاقي مما وقع لأصدقائنا الأميركيين، كان أشد ما آلمنا ان يكون الطرف الذي لحق به أذى ما وراء البحار، قد أتاه ضرر من بعض ابنائنا الذين غُرر بهم أو الذين سبق أن أطعمت هذه البلاد اسلافهم من جوع وأمنتهم من خوف... وعلى رغم تلك الحال المأسوية لاحت في الأفق بعد ايام من تردد اسماء بعض ابنائنا في لائحة ممن يفترض انهم من ارهابيي 11 ايلول سبتمبر، تباشير دراسات عن واقعنا أملاها سؤال عريض يقول: لماذا صنع عدد من ابنائنا ما قد صُنع؟ أين الخطأ؟ وأين الخلل؟ وكيف العلاج ومن يقدم هذا العلاج؟ أسئلة كانت سيتبعها بالتأكيد مناقشات وآراء ودراسات، سيقطف ثمارها وطننا العزيز في اوقات لاحقة من طريق تنقية التربة غير الصالحة، وكان يمكن ان تحدث نهضة الأبحاث العلاجية واقعاً جديداً، بدليل مقالات ومقابلات ما بعد احداث 11 ايلول بأيام... لولا الحملات التي تعرضت لها المملكة من الصحافة الأميركية خصوصاً ومن الصحافة الغربية عموماً المشككة في مواقفها واتجاهاتها وثوابتها، عندها أي عند بدايات اوقات الحملة الصحافية الغربية نسينا ما قد شرعنا به للتو، وأصبح همنا - ونحن ندافع - اطلاق مسميات جديدة مثل: "ردع الأقلام المسمومة" و"التصدي للحملات الظالمة" و"مناكفة الهجمة الصليبية اليهودية الحاقدة، لقد ظلمتنا حملات اميركا والغرب مرتين: مرة بابتعادها عن المناقشة العلمية النزهية في كثير من الأحيان، ومرة لأنها فوتت علينا فرصة عظيمة للمساءلة الذاتية ومناقشة الأخطاء واكتشاف بواطن عللنا... وعلى رغم هذا فإن المنصف المنزوي لا بد ألا يكرر مواقف وأخطاء الطرف الآخر عبر سؤاله الذي يطرحه على نفسه: هل كل ما قيل وذُكر وأُثير - من الأصدقاء - خاطئ في مجمله؟! الجواب - مع خوفنا من المحاذير - ان ليس كل ما ورد في هجمات "بلاد الإفرنج والكفار" خاطئ ومُغرض في مطلقه، وحتى إن كان هذا صحيحاً في رأي البعض فإن الإفادة مما يقوله الأعداء خير من مسايرة ما يبديه الأصدقاء غير العاقلين. تنحصر الاتهمات الغربية للمملكة بأنها لم تبد موقفاً صلباً نحو ظاهرة إرهاب 11 ايلول. هذا غير صحيح بالتأكيد لأن المملكة العربية السعودية اكثر الدول تضرراً من ظاهرة الإرهاب، إنما وللحقيقة فإن اكثر ما شوش على الموقف السعودي ذي المنطلقات القديمة الثابتة هو نوعية المنهج الذي عبرنا عنه نحو مصيبة اصدقائنا في اميركا. لقد فهم أصدقاؤنا الأميركيون لهجة الخطاب السعودي كأنها تقول: إن ما حدث لكم ايها الأصدقاء مؤسف ومؤلم "لكننا" نتفهم منطلقات صانعي الحدث "بسبب" هذه القضية أو تلك، تلك القضايا التي تشغلنا في منطقتنا، لقد كان هذه النوعية من "الرسائل" في اعتقادي "الخاص" غير مناسبة للحدث ووقعها شديد الإيلام على اصدقاء بادروا منذ اللحظة الأولى لأحداث 1990 الى مجابهة الأخطار المحدقة بأصدقائهم في الخليج والوقوف معهم من دون ان يسألوا عن وجاهة حجج الطرف الغازي، تلك الحجج التي تلاعبت في مشاعر الكثيرين ما عدا أناس قلائل كان منهم هؤلاء الأصدقاء المتألمون من احداث 11 ايلول والذي قال رئيسهم السابق: "إن عدوان آب/اغسطس 1990 لن يمر ولن ينتصر". الخطاب السعودي كان متعقلاً من ولاة الأمور لكنه أخطأ الهدف لدى صنّاع الرسالة الإعلامية السعودية وبعض الأعلام الناشطين في الحقل السياسي والأكاديمي والاقتصادي، والذين أساؤوا من حيث يحسبون انهم يحسنون صُنعاً! الهجمة الغربية على المملكة تقول: إن التهاون مع الإرهابيين ليس بالضرورة ان يكون امنياً، بل قد يكون مالياً واقتصادياً. في هذا القول تجنٍ كبير، لكنه لا يخلو من بعض الوجاهة. فإن نحن رجحنا في المملكة منطلق مثالية اهل المال ورجال الأعمال السعوديين الدائمة في تعاملاتهم المالية، وأنهم بعيدون عن بواطن الشبهات، فيجب ألا نركن الى هذه التطمينات النفسية دائماً، بل يجب ان نكون واعين ان المواطنة والانتماء والوازع الأخلاقي لم تمنع من قبل - ولن تمنع لاحقاً - ان يقوم هذا الشخص أو ذاك بهذا العمل المستهجن والخاطئ وغير المبرر، وإن كانت ثقتنا برجال اعمالنا والاقتصاديين "كبيرة" و"لا حدود لها" و"لا شك فيهم" فما الفائدة إذاً بتعليمات المؤسسات المالية المحلية وعملية المراقبة والندوات تلو الندوات التي تعقد في بلادنا عن غسيل الأموال وتبييضها، وعن المعلومات التي تُنشر كل يوم عن سقطات الفاعليات المالية والاقتصادية مع هذا النصاب الأسمر، أو مع هذه الشركة المالية الآسيوية الوهمية؟! الحذر في هذا الجانب "واجب" ونخشى إن ترددنا في تفعيل هذا الحذر، أن تتسع دائرة التشكك في مواقفنا كلها، ومن ثم ستكون الأزمة، أزمة امة واقتصاد مجتمع، بدل حصرها في شبهات يمكن دحضها... لا بالمساندة المطلقة ولكن بمبدأ "أعقلها وتوكل". الحملة الصحافية الغربية تقول: إن مؤسسات الإغاثة التي تتركز في المملكة غير مراقبة مالياً، وأن ترهلها المحاسبي قد يستفيد منه هذا الفصيل الإرهابي أو ذاك، ما يقولونه فيه تجنٍّ على الهدف وقد تكون في نقدهم رغبات ملحّة سيئة للقضاء على "منطلق" سعودي عربي إسلامي لا مفاصلة فيه، همه الدائم مساعدة الأشقاء والأخوان الذين تلمّ بهم الملمّات وتغرقهم احداث الساعة المفاجئة. وعلى رغم تشككنا في منطلقات الحملة الصحافية الغربية حول هذه المسألة، يجب ان نتوخى الحذر في ان نربط بين "الهدف" السعودي الخيّر من إنشاء هذه الهيئات، وبين "ادائها"، والتأكد من صحة مواقف بعض المنخرطين في إدارة اعمالها. ويجب ألا ننسى في هذا الشأن ان الشكوى من بعض توجهات هيئات الإغاثة لم تأت من الغرب فقط، بل أتت حتى من البلدان التي تعمل فيها هذه الهيئات... لقد سجن البوسنيون اثنين من العاملين فيها قبل سنتين بسبب قتلهم وسلبهم لأميركي هناك، ثم اطلق سراحهما لتتفجر فضيحة سياسية في ذاك البلد، لقد تذمر الألبانيون كذلك في اوقات كثيرة وتشككوا، اما الباكستانيون فلا يكاد يمر شهر حتى يعتقلوا عربياً من العاملين في هذه الهيئات، ولا ننسى أن أحد مخططي ومنفذي التفجير لسفارتي الولاياتالمتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998 كان من نشطاء تلك الهيئات العاملة في افريقيا. نقول ان الهدف والغاية من انشاء هذه الهيئات هو هدف لا يمكن ان تتنازل عن تفعيله المملكة العربية السعودية. وأما ما عدا هذا من اخطاء وتسيّب وانحرافات وسلوكيات خطيرة من هذا الإنسان العامل في هذه الهيئات أو ذاك فهو امر محتمل وقوعه، ولإزالة الشك باليقين لا بد من زيادة المراقبة على انشطة وفاعليات هذه الهيئات، حتى يكون هدفها العميم هو الأصل وليس شرها المستطير... لا سمح الله. بقيت ركيزة من ركائز الحملة الصحافية على المملكة تقول: إن مناهج التعليم والواقع الاجتماعي والخطاب الديني غير المتفقّه، تنتج مشاريع تطرف محتملة. ونحن نقول إن هذه البلاد المسالمة لا يمكن ان يكون مقصدها عند تنشئة الناشئة، جعلهم إرهابيين من خلال مراكز الضبط الاجتماعي الوطنية. هذا مخالف للتوجهات وحقيقة هذه البلاد، وأن الوهابية ليست ديناً يُتبع ولا مذهباً يعتنق، بل هي نهضة اصلاحية دينية ارجعت المجتمع في الجزيرة العربية الى الأصول الحقيقية الناصعة للإسلام وأهدافه، وأن الحديث في هذا الشأن هو مضيعة لوقت المطلعين على بواطن امور هذه الحركة الإصلاحية العظيمة، وعلى رغم هذا فإننا يجب ألا نكابر عندما نقول: "إن مناهجنا التعليمية قد انشأت أبناءنا على حب سماع وتقبل الرأي الآخر، والتنازل عن الرأي الشخصي الخاطئ في مقابل صحة الرأي المقابل. الواقع اننا ندرس ونُدرس اننا الأفضل والأصدق والأنفع، وماعدانا هو الخاطئ السيئ والذي لا يُرجى منه خير. والعالم من حولنا، في خطابنا التعليمي والاجتماعي والديني، يتآمر علينا وعلى إسلامنا وحضارتنا و ثقافتنا، وأن ما يشغل العالم ليس الإنتاج والأبحاث وتحسين مستوى شعوبهم، بل حياكة خطط التآمر ضدنا، منذ عبدالله بن سبأ مروراً بالصليبيين والاستعماريين وإلى يومنا هذا!! هذه المواقف الأولية والمناهج والرسائل الإعلامية لا يمكن إلا ان تكون شتلات مناسبة في حوض الغلو والتطرف ليرعاها كره انساني متمثل في موسوعة "جهاد" جاهلة تعلم التفخيخ والتفجير، ومتمثل في مضمون إعلامي يدعو لقطع العلائق مع الآخرين، ومتمثل في ما أسمعه من دعوات قنوت بعيدة، داعية الى نشر الطاعون في بلاد غير المسلمين وتيتم اطفالهم وترمّل نسائهم...!! يجب ان نقول للعالم عبر المختصين منا لا سواهم: إننا لسنا جميعاً مذنبين وأشراراً في مطلق الأحوال. ويجب ان نقول لأنفسنا كذلك اننا لسنا مظلومين ابرياء... في مطلق الأحوال. * كاتب سعودي.