وزير الاتصالات: بدعم ولي العهد.. المملكة تقود أعظم قصة في القرن ال 21 في الشمولية وتمكين المرأة    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    البليهي: مشكلة الاتحاد انه واجه الهلال وكل المدافعين في اتم الجاهزية    للأسبوع الثاني.. النفط يواصل صعوده    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    غزة.. الاحتلال يبيد العائلات    أمريكا: نحذر من انهيار البنوك الفلسطينية    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    الهلال يكسب الاتحاد بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    خادم الحرمين لملك البحرين: نعزيكم في وفاة خالد آل خليفة    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    "طويق" تحصل على شهادة الآيزو في نظام الجودة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    أحلامنا مشروع وطن    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    لعبة الاستعمار الجديد.. !    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    فلكياً.. اليوم آخر أيام فصل الصيف    فأر يجبر طائرة على الهبوط    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    نسخة سينمائية من «يوتيوب» بأجهزة التلفزيون    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    مسيرة أمجاد التاريخ    الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل".. الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل"    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    بلادنا مضرب المثل في الريادة على مستوى العالم في مختلف المجالات    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتجار بأطفال من لبنان وعمليات التبني الغامضة ... "الحياة" تفتح ملفاً لم يقفله توقف القتال . أكثر من ثلاثة آلاف طفل لبناني متبنىن في أوروبا ... يطالبون بلقاء أهلهم وبالجنسية 1 من 3

يدفع الكائن البشري أحياناً ثمناً باهظاً لعمل لم تقترفه يداه، او يجد نفسه أسير تشريعات متضاربة ووعي غير قابل للتحقق وحداثة متطورة تعكس تطلباتها عليه وعلى النظم الاجتماعية في آن واحد بما يعمق مأزقه الشخصي.
الأطفال المتبنون افضل الامثلة على ذلك بل انهم ما يمكن ان نطلق عليه "الضحية النموذجية" لتلك التواطؤات النادرة ضد الشرط البشري. وتشير حالهم الى ان القوانين والشرائع حتى تلك التي اتسمت نصوصها بالفطنة والحكمة، قد تتحول الى عقبة امام تحقيق العدالة البشرية وتأمين الطمأنينة للنفوس التي تحتاج الى المساعدة ما لم تجر عملية مراجعة مستمرة لمتونها.
في هذا التحقيق نسلط اضواء على تطورات حياة 330 منهم ولدوا في لبنان وتبنتهم عائلات هولندية تفتقد الاطفال بين الاعوام 1976 و1986، ويشكل هؤلاء جزءاً من نحو اربعة آلاف طفل لبناني موزعين على بعض العواصم الاوروبية وعدد غير معروف انتقل الى اميركا اللاتينية وآسيا.
الآن وبعد اكثر من عقدين ونيف على عمليات التبني تعيش عائلات الاطفال مخاضاً جديداً، ولكنه مرير لاعادة هؤلاء الاطفال الى ارض الواقع ومنحهم الجزء المفتقد من هويتهم وشخصيتهم: الأم الحقيقية والعائلة الاولى الطبيعية. فمع الزمن تطورت شكاواهم وانتقلت من الشكوى المألوفة للطفل في اطوار تحوله ونموه الى اخرى يتطلبها وعيه ومعرفته بأنه ليس من صلب العائلة الوحيدة التي يعرفها ويعيش معها، بل جرى تبنيه ذات يوم في احد المستشفيات او دار ايتام او دير لبناني بعد تأمين جملة معروفة من الشروط والالتزامات من قبل العائلة الهولندية.
الجمعيات والاشخاص الذين نظموا عمليات التبني وساعدوا العائلات الهولندية في انجاز المتطلبات القانونية التي يشترطها القانون اللبناني قبل اقرار التبني والتي انقرض بعضها لوفاة القائمين عليها، او تفرقت الطرق بمؤسسيها، بدأت بالشعور بوطأة الأعباء التي تترتب عن الاسئلة الملحة لمئات منهم.
ومع ان الوقائع تشير الى ان الاوان قد يكون فات لمساعدتهم في العثور على مبتغاهم، بسبب اوضاع المجتمع اللبناني وبسبب الظروف المعقدة التي احاطت بسلوك تلك المنظمات والاشخاص والشروط العسيرة التي رافقت العملية من جهة اخرى، بما في ذلك اتلاف الوثائق التي تسجل معلومات عن امهاتهم، الا ان ظمأهم لم يرو بعد، وهم لا يزالون يتمسكون بالأمل في لقاء اهلهم الطبيعيين. وعكست تطلعاتهم نفسها على البعض خصوصاً ذوي الحساسية المفرطة وولدت لهم مشكلات تأقلم متأخرة مع المجتمع الهولندي. وتطلب الأمر ان يخضع بعضهم لعلاج نفسي. ويبحث آخرون عن مستحيل أخير عبر صحيفة "الحياة"، في ان تتعثر والدته بصورته وتتعرف عليه، ويعود ربط الاواصر.
البدايات
تشير تحقيقاتنا الى ان انطلاقة عمليات التبني جاءت على يد سيدة بلجيكية حوالى العام 1976 او قبلها بقليل كانت تعمل راهبة في احدى الكنائس الانجيلية اللبنانية وهدفت الى تأمين مستقبل معقول للأطفال وتأمين ظروف انسانية افضل لهم في رعاية عائلات حرمت سعادة البنوة كما حرموا هم سعادة الامومة. وسعت تلك السيدة الى جمع كل ما يقع تحت ايديها من فاعلي الخير في مسعى لتخفيف الضغط عن دور الايتام والكنائس والمستشفيات التي تضيق بالأطفال الذين تخلت امهاتهم عن حضانتهم. ووفقاً للمعلومات التي تجمعت لدينا فإن محاولة السيدة البلجيكية في هولندا لم تكن المبادرة الوحيدة لمساعدة هؤلاء الاطفال، كما نشطت في هذا المجال مجموعات اخرى بدوافع غير خيرية يطرح سلوكها ودوافعها اكثر من سؤال.
يقول السيد ويليمسون والد كريستيان وهانيكا، اثنين من الاطفال المتبنين: "كنت اوائل الثمانينات في لبنان في ثالث زيارة عمل لي عندما اتصلت بي راهبة بلجيكية وسألتني المساعدة في عمل شيء لأطفال جرى التخلي عنهم لأنهم لم يكونوا ثمرة زواج شرعي. قالت: لدينا عدد كبير منهم وظروف الحرب لا تبشر بخير عميم للأطفال وأريدك ان تسعى الى المساعدة في هولندا". عندها اقدم ويليمسون على تبني ولده الاول الذي دعاه كريستيان على يد الوسيط الاساسي في عمليات التبني ابراهيم الشميل احد العاملين في الكنيسة الانجيلية. ولكن ويليمسون مع تواصل علاقته بلبنان وسع دوره ليؤسس جمعية خيرية هي "هولندا - لبنان" عمل من خلالها مع محسنين هولنديين على تأمين دعم مالي منتظم لمدرسة تربي الاطفال غير الشرعيين في منطقة الجديدة في بيروت، ومركز لتأهيل المعوقين في مسكا قرب برمانا. كما عاد ويليمسون لاحقاً الى تبني طفلة اخرى دعاها هانيكا ولكنه قام بالعمل هذه المرة من دون وساطة الشميل ومن خلال الاتصال المباشر بالسلطات اللبنانية.
ويروي ويليمسون في حديث ل"الحياة" بدايات العملية التي جاءت بأكثر من ثلاثمئة طفل الى هولندا بقوله: "كانت عملية انسانية بحتة اول الأمر. ولم يكن ابراهيم الشميل يبحث عن مكسب مالي من العائلات الهولندية. وهذا ما اتضح لي عندما قمت لاحقاً بترتيب اجراءات تبني ابنتنا هانيكا بنفسي. وتأكد لي ان المبالغ التي كان الشميل يطلبها كانت تغطية لمستحقات المحامي المختص ومبالغ تذاكر الطائرة والفنادق والرسوم اللازمة للتسجيل الرسمي في السجلات اللبنانية والمستشفى". ولكنه يلاحظ "ان الأمر تغير لاحقاً بعد انتهاء دور ابراهيم الشميل وانتقاله من لبنان الى المانيا إثر خلافات مع زوجته السيدة عدلا الشميل المقيمة في هولندا، وزواجه من سيدة المانية".
الذي تغير بحسب السيد ويليمسون هو انه "لم يجر الاحتفاظ بسجلات عن الاطفال المتبنين بالطريقة التي كان يتبعها المرحوم ابراهيم الشميل". ويؤكد: "كان يحتفظ بسجلات دقيقة للغاية عن العائلات اللبنانية والهولندية واسم الوالدة والروابط المتصلة بالأبناء. وكان هذا مهماً للغاية لحال الاطفال اللبنانيين في هولندا، لا سيما ان شروط التبني التي تفرضها المحاكم الروحية في لبنان تؤسس على حجب المعلومات بصدد الوالدة من جهة وتمنع الوالدة من السؤال عن طفلها مستقبلاً او المطالبة باسترجاعه. وتضع ذلك ضمن اتفاق التخلي عن حضانة الطفل الى الطبيب او الدير للعائلة الجديدة". وعن مصير تلك الملفات يقول ويليمسون: "علمنا ان الشميل نقل معه جميع تلك الملفات الى المانيا، ولكن قيل لنا انها اتلفت قبيل وفاته".
ويضيف السيد ويليمسون الذي لعب ادواراً مميزة في مجال متابعة الاطفال اللبنانيين ومساعدتهم: "ان اشياء كثيرة طرأت منذ نهاية السبعينات على قضية الاطفال ومتطلباتهم. وبرزت حاجات جديدة عندهم لم تكن العائلات الهولندية توليها اهمية كبيرة في البداية، وفي مقدمها هوية العائلة التي يتحدرون منها وأهمية الاحتفاظ بمعلومات او اتصالات مع الوالدة او العائلة الطبيعية للطفل". وأقر ان عائلته وعائلات كثيرة اخرى "بدأت تشعر بالندم لأنها اهملت هذا الجانب في السنوات الاولى واستمعت الى النصيحة التي تقول ان من الافضل الا يذكر شيء للطفل عن هذا الجانب".
ويستطرد: "عائلات كثيرة غيرت موقفها لاحقاً بل حاولت تتبع الجذور التي تحدر منها الطفل عبر زيارات متكررة الى لبنان. ولكن وفاة الشميل اضرت بشدة بالمساعي التي بذلناها في هذا السياق". وقال: "ان الشيء الوحيد الذي حصلنا عليه هو عنوان المستشفى الذي ولد فيه ابنانا اللذان اصطحبناهما الى لبنان لرؤية الاشياء الوحيدة المتبقية التي لها صلة بهما ولنعطيهما فكرة عن البلاد التي جاءا منها والمكان الذي ولدا فيه". ويشير الى انه يعتبر نفسه محظوظاً لأن واحداً من ثلاثين شخصية سياسية وكنسية ورسمية وصحافية رد على رسائله وتجاوب معها ما مكنه من الحصول على بعض المعلومات المتناثرة التي لم تشف غليل الاطفال، حتى ان ذلك الشخص لم يكن لبنانياً بل كان بلجيكياً عمل في الكنائس اللبنانية مدة 40 عاماً".
حلم مستحيل
وواقع متاح
"الحياة" تابعت في هولندا ملف الاطفال اللبنانيين واخبار الوسطاء الذي ساعدوا على قدومهم. وأظهر التدقيق في ظروف مجيء الاطفال اللبنانيين الى هولندا وبقية العواصم الاوروبية ان هنالك اكثر من جمعية ومجموعة تعاطت شأنهم عبر بيروت او عبر عواصم اخرى عربية وغربية. ولا يشكل الاطفال الذين قدموا بمساعدة الشميل الا جزءاً منهم. كما مكنت خبرة بعض العائلات الهولندية عائلات اخرى من الحصول على اطفال من لبنان في شكل مباشر ومن دون وسطاء كما هي حال السيد ويليمسون. على العموم يمكننا القول ان علاقة السيدة الشميل مع الذين جاؤوا من طريقها وطريق زوجها الى هولندا كانت قوية الى الحد الذي يطلقون فيه عليها اسم "الجدة"، بل ان المنظمة التي جمعتهم دعيت "ابناء الأرز" كانت تنظم لقاء سنوياً في يوم ميلادها حتى نهاية الثمانينات ولم يتوقف الاحتفال الا بعد تعرض علاقتها مع احد الاطفال المتبنين الى اشكالات عزاها بعض المتبنين الذين التقتهم "الحياة" في لاهاي الى القائه اللوم على السيدة عدلا بسبب فشله في الحياة وتعرضه للمتاعب نتيجة ادمانه المخدرات، وتهديده لها ما دفعها الى الغاء اللقاء السنوي.
في العاصمة الهولندية تحدثت "الحياة" الى عدد من الاطفال اللبنانيين الذي اصبحوا في منتصف العشرينات من اعمارهم ينشطون كمواطنين هولنديين، تخرج بعضهم في الجامعات والمعاهد ويعمل الآخر في وظائف مختلفة. وكان هؤلاء الشباب بادروا في 15 ايار مايو الماضي الى ترتيب اجتماع للمجموعة حضره اكثر من ستين لبنانياً وشكلوا على اثره منظمة خاصة بهم باسم "لبنانيون متبنون" تسعى الى دفع قضيتهم المشتركة: البحث عن هوية الوالدين، والعمل على تشكيل قوة ضغط على الحكومة اللبنانية من اجل الحصول على المعلومات التي يرغبون فيها. وشجعهم النجاح في الاجتماع الاول على الاتفاق على عقد اجتماع آخر قبل نهاية العام يتوج بزيارة الى البلاد.
في اللقاء الاول مع "الحياة" وضم اثنين من نشطاء المجموعة هما ساندرز فايز مارتمان وانيميك ديهان وعدد من زملائهم، بدوا سعداء للغاية، وكأنهم يسبرون شيئاً فريداً ضمن ثنايا شخصيتهم يشير ويؤكد على حقيقة تمايزهم عن اقرانهم الهولنديين. ولم يكن هناك ما يقلقهم، وبعد وقت قصير اتضح كم هو استعدادهم لامتصاص مناخ المناسبة وتمثلها كحدث خاص ومثير. فقبل ان تنتهي الساعة الاولى من اللقاء كان كل واحد منهم يتسابق للحديث عن نفسه وعن عمق لبنانيته التي بالكاد تزيد عن الدلالات التي تتيحها ورقة او ورقتان كشهادة الولادة وتصديق المحكمة على عملية التبني.
ثلاثة من الخمسة زاروا لبنان في اوقات متفاوتة وبعضهم لأكثر من مرة. وبعضهم الآخر يخطط للزيارة القادمة التي يراد لها ان تكون زيارة جماعية قبل نهاية العام الجاري. وسرت حمى الحديث الى الذين لم يزوروا البلد، فأعلنوا انهم سيكونون سعداء بالانضمام الى الرحلة القادمة.
بدأ ساندرز، او فايز كما هو مسجل في شهادة ولادته اللبنانية، الصادرة عن مستشفى الجامعة الاميركية في 2 تشرين الاول اكتوبر 1976، حديثه عن معنى اسمه ودلالته من الناحية الاجتماعية وما اذا كان الاسم يوحي بشيء عن سبب التسمية او ديانة العائلة التي تحدر منها. ومن سؤاله انطلقنا لنرى كيف ينظر وأقرانه الى حقيقة انهم "متبنون" وليسوا من صلب هولندي. عن هذا قال فايز الذي يعمل مسؤولاً عن برمجة الكومبيوتر في اكبر شركة للهاتف في هولندا: "مع انني اشعر في بعض الاحيان ان للتبني قيمة ايجابية بالنسبة لي واضافة لأبعاد شخصيتي، الا ان الأمر برمته لا يوصف بالمشكلة ولا يسبب لي القلق او الانفعال، لأن العائلة التي تربيت في كنفها اعدتني بعناية لتقبل هذا الجانب في شخصيتي".
نينكا نوتاه التي تعمل متخصصة في شؤون الاسكان الشعبي والمولودة على يد الدكتور شفيق كرم، لها روايتها عن هذا البعد الاستثنائي. تقول نينكا: "مع انني لا اعرف لبنان معرفة كافية الا ان وعيي بأنني متبناة من اصل لبناني له انعكاس مثير على سلوكي، فمع الزمن تعمق احساسي في انني عندما اكون في هولندا ابدو مختلفة عن بقية الهولنديين، اما عندما اكون في لبنان فأبدو انسانة عادية".
ولكن نينكا ذاتها تعطينا صورة اخرى عندما تتعمق في رسم تفاصيل البعد الشخصي لمعاناتها. ففي حالها ادركت انها متبناة عندما كان عمرها سنتين فقط، او هكذا تتخيل، ولكن المهم انها تعايشت مع سرها الخاص في وقت مبكر للغاية. وتضيف: "غيرني الوعي بهذه الحقيقة وعمق طبيعتي الانطوائية. كانوا يدعونني، على سبيلة التدليل فأرنا الصغيرة وهو اسم ينطبق على شخصيتي الخجولة والمسالمة. ولكن وعيي الجديد عمق تلك الروحية حيث انها طبعت حياتي بها". تقول نينكا: "كنت على الدوام افكر في انني قد اكون مسؤولة لسبب ما عن تخلي والدي عني، لذا علي ان اكون منتبهة وحريصة حتى لا تتخلى عني عائلتي الجديدة".
على صعيد سلوكها تقول نينكا انها تعلمت ان لا تنفتح على الخارج وان تبقى في الدائرة الأمينة التي تحيط بها: "البيت والعائلة". ولكنها تعترف: "منذ ان تعمق وعيي بأنني من ام وأب لبنانيين لم استطع اغماض عيني عن المشكلة وان اتصرف كأن كل شيء على ما يرام. وبدأت اتطلع الى معرفة جذوري والاحساس الحقيقي بالبيت والعائلة". وتشدد نينكا على انها لم تعد تهتم بالأسلوب الذي دفع امها الى التخلي عن حضانتها "ولكنني اريد ان اعرف والدي على الاقل وأريد ان اعرف اين هو وكيف حاله". ومع ذلك فإن نينكا لا تخشى من خيبة الأمل ولا ترى في عدم حصولها على الاجوبة التي تنتظرها مشكلة كبيرة وتقول: "استطيع الآن الاستمرار في حياتي وبناء عائلتي الخاصة".
ماذا تعلمين عن نفسك يا نينكا؟ تقول: "اعلم انني ولدت على يد الدكتور شفيق كرم باسم دوريتا في السادسة من بعد ظهر اليوم الثاني من تشرين الثاني عام 1972 في مستشفى في بيروت وعائلتي تسكن رأس بيروت. شهد على ولادتي القس ابراهيم شميل وشاهين ميلان ومهنته حلاق. اعطتني عائلتي وثيقة ولادة بهذا المعنى وقعها ايضاً المختار جرجي ربيز وختمتها وزارة الداخلية في 11/10/1978 كما اعطيت وثيقة هوية بالمعلومات".
اما انيميك دوهان فقصتها مختلفة. عائلتها الهولندية التي لم يكن في وسعها الحصول على اطفال تعرفت على فرصة لتبني طفل لبناني عندما كانت العائلة في المملكة العربية السعودية حيث عمل والدها في شركات النفط. وقام والداها الجديدان بالسفر الى بيروت لانجاز المهمة. وتقول انيميك: "كنت طفلة عندما عرفت للمرة الاولى انني متبناة. عندها قفزت من الفرح وعدوت الى الشارع لأبلغ صديقاتي وأصدقائي بالخبر الغريب والمثير. لم اكن اعرف ماذا يعني ذلك. كل ما كنت افكر به انني مختلفة وامتلك شيئاً لا يحوزه الاطفال الآخرون".
وتضيف: "ولكنني عندما ادركت معنى ذلك بدأت اشعر ان ثمة عنصراً نفسياً اساسياً يفتقده بيتنا، ومع الاهتمام الكبير الذي اولتني اياه عائلتي تزايدت رغبتي في ملامسة عائلات اخرى ومجاورتها لها اطفال من صلبها ألعب معهم وابقي نفسي بينهم لأنني كنت اظنها عائلات اكثر حقيقية من عائلتي الشخصية. لم يكن ذلك وعياً متكاملاً من قبلي، بل انني اراه الآن بالأحرى على هذه الصورة، وأفسره من خلال استعادة ما حصل". ما لا تذكره انيميك هو معاناتها اللاحقة بعد نضوجها وبلوغها السادسة عشرة والمشكلات التي بدأت تواجهها في التأقلم مع محيطها والتي اعاقتها في الدراسة والعمل والتحاقها ببرنامج تأهيل نفسي خاص.
معارك الآمال الاخيرة...
على رغم الاخفاقات الكثيرة يبدي هؤلاء الرجال والنساء شجاعة فائقة، ويرتفع لديهم امل كبير، في ان تتكامل حياتهم بحصولهم على معلومة عن امهاتهم وآبائهم. ونراهم في هذا الصدد يعتنون بأية بارقة امل ويهتمون بكل الاحتمالات مهما كانت ضئيلة ما يضفي على حياة اي واحد منهم بعداً تراجيدياً وسط ظروف مستحيلة ومعوقات لا يمكن تجاوزها.
ويجمع هؤلاء على ان العقبة الاكبر تتجسد في فقدان مفتاح "الحلقة السحرية" التي يحصلون بتجاوزها على المعلومات الاساسية عن العائلات التي تحدروا منها. ومرد ذلك الى ان التشريع اللبناني لا يلزم المحاكم الروحية الاحتفاظ بسجلات تضم تلك المعلومات التي تعتبر في ظروفنا بمثابة الحاجات والحقوق الاساسية للطفل المتبنى.
ولكن ذلك وحده لا ىفسر ذلك القصور لا سيما ان العائلات الهولندية التي تبنتهم لم تنتبه الى هذه النقطة في البداية. فالتقدم الاجتماعي والحضاري الذي شهده العالم خلال العقدين الماضيين اعطى ثقلاً كبيراً للحقوق الاساسية للانسان وغدت القوانين والتشريعات اكثر تلبية وتفصيلاً في نصوصها. لذلك يمكن القول ان ثمة هوة تفصل بين الوعي الشخصي لهؤلاء الاطفال الذين تربوا في مجتمع متقدم التشريعات كهولندا، والوعي الشخصي والقانوني السائد في لبنان. من هنا فإن جمعية "اللبنانيين المتبنين" ترى ان مهمتها الاولى بعد العمل على مساعدة الاطفال المتروكين والترفيه عنهم، هي محاولة اقناع الحكومة اللبنانية بسن تشريعات تتناسب والحاجات المستجدة لابناء من امثالهم وبما ينسجم والوضع البشري المعاصر.
الدافع الاول وراء ذلك الهدف بالنسبة اليهم "ليس بالضرورة العودة الى حضن الأم الطبيعية، فهذا اصبح متأخراً، بل في اتاحة الفرصة للطرفين الأم والابن ان يلتقيا اذا تحسنت الظروف او تغيرت اوضاعهما" كما يقول لبناني آخر هو البيرت هارينغ. ويضيف اليه فايز: "من يدري لعل الأم هي التي تبحث الآن، وفي اللحظة ذاتها عن وليدها السيئ الحظ فلماذا نجهض هذا الأمل؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.