} عقد في عمان أخيراً مهرجان أغنية الطفل العربي الذي يضمَّ أعمالاً غنائية من أربع عشرة دولة عربية، وشارك الشاعر حسن عبدالله في اللجنة التحكيمية لجوائز المهرجان التي تقاسم الأولى منها العراق وفلسطين، وحصلت سورية على الجائزة الثانية، وكانت الثالثة من نصيب مصر. وجرت على هامش المهرجان ندوة نقدية عن أغنية الطفل، شارك فيها حسن عبدالله بإسهام يلخص جانباً من تجربته في كتابة الشعر للأطفال، هذا نصُّها: كنت لا أزال في المدرسة الابتدائية عندما بدأت كتابة الشعر الموزون المقفّى على الطريقة التي طالعتها في سيرة عنترة وسيرة سيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة وتغريبة بني هلال. ولعلّ حفظي لبعض أشعار هذه السير وانجذابي للحظات الحماسية والوجدانية فيها هما اللذان مكناني من اكتساب مهارة النظم على أكثر من بحر شعري. ولم أكن لأكتسب هذه المهارة وبهذه السرعة لو لم أكن طفلاً آنذاك. وهذا يعني ان الطفل مهيأ أكثر من الشخص الراشد للتفاعل مع الايقاع في الكلام الموزون كما انه أكثر استعداداً للتفاعل مع المعنى لأنه ببساطة يصدّق ما يسمعه تصديقاً حرفياً. ولأنني كنت أمتلك في تلك الفترة المبكرة موهبة أدبية فقد كان تأثري بما أسمعه من شعر شديداً وقوياً وغامضاً لدرجة أعجز الآن عن وصفه. وكل ما أذكره ان القصائد التي كنت أسمعها أو أقرأها في المدرسة وخارجها كانت تبعث في نفسي مزيجاً محيراً من الغبطة والكآبة، وتصلني بعالم غامض وشديد الاختلاف عن العالم الواقعي الذي أعيش فيه. كان معلّمنا في الصف الخامس ابتدائي يحضّر لامتحان الشهادة الثانوية فرع أدبي، وكان يتلو علينا في الصف كل ما يدرسه من شعر. وكنت أميّز بوضوح شعر المتنبي عن شعر غيره من الشعراء، وأميل اليه أكثر من غيره. وأستطيع ان أقول الآن انني التقطت في ذلك الحين السر الايقاعي لشعر المتنبي، فما ان يقرأ المعلم بيت شعر له حتى أعرف فوراً أنه له. أظن أنني في ذلك كنت أفهم الشعر وأستمتع بجوهره الايقاعي أكثر من المعلم نفسه. فالشعر في نظري، كل شعر كتب في الماضي ويكتب الآن، هو كلام موجه الى البشر باعتبارهم أطفالاً على الدوام سواء أكانوا في العاشرة أو في الثمانين من العمر. هل كان التلاميذ الآخرون في صفّي يتلقّون قصائد المتنبي وابن الرومي التي تجاوز عددها العشرين قصيدة بالطريقة التي تلقيتها بها، والتي تشبه تلقّي الأرض العطشى للمطر؟ لا بد انه كان هناك تفاوت في الاستيعاب والاستمتاع لكنني متأكد من أن جميع التلامذة كانوا مسرورين لسماع الشعر أكثر من سرورهم بأيّ مادة أخرى. كان المعلم يطلب منا ان نحفظ هذه الأشعار في درس المحفوظات، وكنا نحفظها بسهولة. ولا أزال أذكر الى الآن الوقفة المهيبة والشامخة للتلاميذ الذين كان يطلب منهم انشاد هذه القصائد بصوتٍ عالٍ أمام زملائهم. كانوا ينشدون في شكل رائع وآسر. كانوا يغنون... وكان ذلك كلّه غناء. وعندما كانوا يدرّسوننا في كتاب القراءة العربية مثل هذا الشعر: أبي امتحنّي يا أبي في أحرف الهجاءِ فإنني أعرفها من ألف لياءِ كنا نشعر أنهم يضحكون علينا... لكننا كنا نتأثر في الوقت ذاته بقصائد أخرى مثل: الطائر الصغيرُ مسكنه في العشِّ وأمه تطيرُ تأتي له بالقشِّ. فان فيها حركة وتمثيلاً لشيء طالما لاحظناه في بيئتنا الطبيعية ويدهشنا ان نجده وقد تحوّل الى لغة وموسيقى. استنتج مما ذكرته ان الطفل قد يكون ممتلكاً لحساسية نقدية تجاه الشعر والموسيقى هيهات تتوافر للشخص الكبير الذي تحولت ذاكرته منذ وقت بعيد الى مكبّ للأفكار والوساوس والمعلومات التي تفسد المقدرة على التلقي البريء. بعد مرحلة الدراسة الابتدائية ذهبت مع رهط من أصحابي الى التعامل مع الشعر والشعراء من دون مساعدة أحد، فقرأنا الشعر المهجري وتأثرنا به تأثراً عميقاً وحفظناه وأنشدناه أمام بعضنا البعض وأمام غيرنا. كان كلّه شعراً غنائياً كنّا بالفعل ننشده كأننا نغنيه. وهذا لم يكن يصرفنا عن الطرب لعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب ونجاة الصغيرة وفيروز وصباح... أما أم كلثوم فلم نكن نفهم أبداً كيف يستمتع الكبار بصوتها الذي بدا لنا رهيباً في تلك اللحظة من العمر. وقد كنا نظنّ أن محمد عبدالمطلب يغني ليضحك الناس لا ليطربهم. لم يكن يوجد في عالمنا كما يوجد في عالم الأطفال اليوم مئات الأشرطة الغنائية الموجهة للطفل. فهل كان ذلك حسناً أم سيئاً؟ ينبغي لجيلنا ان يحمد الله على أن أغاني الأطفال كمعظم ما نجده في هذه الأيام لم تكن موجودة في أيامنا. فقد كان ذلك ومن دون شكّ، سيكون على حساب قراءتنا للشعر العربي الحقيقي والأصيل، وعلى حساب سماعنا لعبدالحليم حافظ وفيروز اللذين أنصح الآباء والأمهات بإلقاء بعض أشرطة الأغاني التي اشتروها لأطفالهم من نوافذ البيوت، ودعوة هؤلاء الأطفال الى سماع منتخبات من الأغاني القديمة. كنت بدأت بكتابة الشعر أثناء بداية قراءتي له، ومضيت في الحياة على أنني شاعر، ثم ما لبثت ان اكتشفت اني كاتب قصة بعد قراءتي لعشرات القصص والروايات. وهكذا بدأت بكتابة القصة القصيرة الى جانب الشعر، ثم بدأت بنشر ما أكتبه في الجرائد والمجلات العربية. وحتى أواسط السبعينات لم أكن فكرت بكتابة أي شيء للأطفال شعراً أو نثراً. الى ان اتصلت بي دار الفتى العربي المتخصصة بالنشر للأطفال وكانت في أول نشأتها آنذاك. وطلبت مني كما طلبت من جميع الشعراء والكتاب العرب المقيمين في بيروت، أن يحاولوا كتابة قصص للأطفال، فشرعت بتلبية طلبهم وكتبت خلال شهرين سبع قصص استولت عليها دار الفارابي ونشرتها قبل ان تصل الى دار الفتى العربي. ولاقت هذه القصص نجاحاً لم أكن أتوقعه وترجم بعضها الى لغات أجنبية. وهكذا تورطت في كتابة القصة للطفل التي قضت نهائياً على نشاطي ككاتب قصة للكبار. أما كتابتي الشعر والأغنية للطفل فبدأت مع كتاب "أنا الألف" الذي وضع ألحانه الدكتور وليد غلمية ورسمه الفنان حلمي التوني، ولاقى نجاحاً كبيراً. وظل على مدى خمسة عشر سنة الكتاب الأكثر مبيعاً بين كتب الأطفال في معرض الكتاب العربي في بيروت فما هذا الكتاب؟ وما الطريقة التي اعتمدتها في كتابته؟ انه التجربة الأولى لي في كتابة أغنية للطفل، أما موضوعه فهو أحرف اللغة العربية. وكانت فكرتي من البداية وضع نصّ شعري قصصي لكل حرف مع قصد مسبق أن يتكرر كل حرف من حروف اللغة في النص الشعري أكثر ما يمكن من المرات وفي أحوال الرفع والجر والنصب والسكون. بدا لي هذا المنهج الذي وضعته لنفسي وكأنه ورطة ورّطت نفسي بها ولم أكن أفكر أبداً بأن أحرف اللغة العربية قادرة على أن تكتب نفسها بنفسها، كان حرف الألف بالطبع، هو افتتاحية الكتاب. وهذه قصيدته: أنا الألفُ أنا الألفُُ إذا ما اصطفَّتِ الأحرفْ أجيء بهمزتي وأقفْ أمام الكلّ أنا الأوّلْ أنا الأجملْ أنا الألفُ أنا الألفُ وفي يوم من الأيام كنت أسير في الغابة أنا "أَ" أقبل الأرنبْ أنا "أُ" أمه نامت وجاء الذئبْ أنا "إِ" إنني أغضبْ أصير عصا وأهوي فوق رأس الذئبْ فرّ الذئبُ فرّ الذئبُ فرّ الذئبْ. كانت هذه هي البداية. ولم أكد أمضي في كتابة قصائد الأحرف التالية حتى بدأت أشعر بدهشة متزايدة وأنا أرى الى أحرف اللغة تستدعي بسهولة الصور والايقاعات المناسبة لها، فحول الحرف كان يتألف الكلام كما يلتف الخيط حول المغزل، فإضماري لنيّة الكتابة حول حرف السّين كان يجعل القصيدة التي ينبغي ان يتكرر فيها حرف السّين تتألف بسهولة. أغنية حرف السّين: خمسةُ أولاد مجتهدينْ درسوا حرف السّينْ درسوا درسوا حتى نعِسوا لما نعسوا ناموا ونسوا حرفَ السّينْ غضب السّينْ قال السّينْ: لن أحيا مع أولاد كسلانين ومضى يسهر في ساقية لا تنعسْ ساقية تجري ليل نهارْ وهكذا حتى أنجزت أغاني أحرف اللّغة العربية التسعة والعشرين التي صدرت عن دار الروّاد في كتاب "أنا الألف" الذي يحتوي على شريطي تسجيل. قصائد "أنا الألف" ذهبت الى الكتابة بالعدة الشعرية التي توافرت لي من خلال كتابة الشعر للكبار. ولم أتنازل عن أي من التقنيات الفنيّة التي حصلتها. وعملت بحرية كبيرة. وكتبت لنفسي أكثر مما كتبت للطفل. اعتمدت عروض التفعيلة ولم أسرف في استخدام القافية إلا حيث تدعو الضرورة. ولجأت الى الصور الحسيّة والصور المجرّدة، وبالغت أحياناً في التجريد ومع ذلك ظلّت الأغنية أغنية يحسها الطفل ويستمتع بها. كانت هذه التجربة من أنجح تجاربي في كتابة الشعر والأغنية للطفل، بحسب رأي غالبية النّقاد وغالبية الناس، أما أنا فأعتبر ان ما كتبته في ما بعد أقوى من ذلك. خصوصاً عندما بدأت أنظم القصائد القصائد الموجهة للطفل على أبحر الشعر العربي التقليدية. وهذا أيضاً لم يكن بمبادرة شخصية مني. بل أن الباحث والشاعر اللبناني طلال الحسيني هو الذي استدعاني مع الشاعرين جودت فخر الدين وهيثم الأمين للعمل في مركز الأبحاث اللغوية والتربوية الذي يملكه ويديره، بعدما قرر ان يضع منهجاً لتعليم الشعر في المدارس، وكان طلال الحسيني استنتج شخصياً، بأن اعتماد أوزان الشعر العربي القديم، أكثر مناسبة للطفل من وزن التفعيلة، خصوصاً مجزوءات البحور ومشطوراتها ومنهوكاتها، ولم يكن أسهل من اقناعي واقناع صاحبيَّ بهذا الأمر. فشرعنا بالفعل بكتابة قصائد تنطلق من تفعيلات البحور التي انتقيناها. وهنا لاحظت بدهشة ان تفاعيل البحور تساعد في شكل أساسي في استدعاء الصور والمعاني، فعندما أنوي الكتابة مثلاً على منهوك الرجز: مستفعلن مستفعلن فإنّ ايقاع هذه التفعيلة التي تشكل مكررة صدر البيت وعجزه هو الذي يملي عليّ ما سأقول. فلو لم أعتمد هذه التفعيلة ما كنت لأتمكن من انشاء هذه القصيدة: في صفحة في دفتري كلبٌ جميل المنظرِ لوّنته بالأحمرِ فعضّني في خنصري! ولو لم أعتمد منهوك المنسرح الذي يقوم على "مستفعلن،. فعولن" في صدر البيت وعجزه ما كانت لتتألف هذه القصيدة: على رمال الشطِّ شاهدت فرخ البطِّ يلاحظ الأمواجا تعدو ببحر هاجا مع مَدِّها يفرُّ مع جَزْرِها يكرُّ لم يألفِ البحارا فحار ثم حارا وبعد ذاك اختارا وآثر الفرارا! وفي تقديري ان الذين ينظمون على أوزان البحور كاملة، أو على عروض التفعيلة فإن عملهم أسهل من عمل أولئك الذين يكتبون قصيدة النثر. انطلاقاً من تفعيلات البحور التقليدية وتأسيسها عليها، وضعنا أكثر من مئة قصيدة موجهة للطفل، وكانت تجربة نادرة وناجحة، وستصدر حصيلة عملنا في كتاب في نهاية السنة الحالية. بلى... حدث ان كلّفت من بعض المؤسسات ودور النشر بكتابة قصائد تعليمية. وهنا، كنت أحاول قدر الإمكان ألا يتوقف الشعر عن التعليم بل كنت أسعى الى تقديم ما هو مطلوب بلغة تجعله يبدو شعراً أكثر مما هو تعليم. وأبرز ما أنجزت في هذا المجال "كتاب الشعر" لمركز الدراسات اللغوية والتربوية نفسه. الذي عالجت فيه مفاهيم "الأشكال" و"الألوان" و"الملامس" و"الأبعاد" و"الخطوط" والأدوات" في اطار مشروع كتاب للتربية الفنية. وأذكر من قصيدة الألوان هذين المقطعين: ألوان... ألوان... ألوانْ تزهو في كل مكانْ يخضرُّ الأخضر في الشجرة يصفرُّ الأصفر في الجزرة يسودُّ الأسود في البقرة والأحمر ذو السّحر الفتّانْ يتألق في زهر الرّمان * * * ألوان... ألوان... ألوانْ ألوان تتمازجْ ألوان تتزاوجْ وكما تلد الفئرانُ الفئرانْ تلد الألوان... الألوان. ولا بدّ لي من الإشارة الى تجربة أخرى كانت مهمة جداً بالنسبة إليّ، وهو أنني نشرت في جريدة "الحياة"، وعلى مدى عام واحد، مادة أسبوعية للأطفال كانت تتضمن قصة وقصيدة في كل أسبوع مع لقطة شريط مصور، وقد لاقت هذه التجربة نجاحاً ملموساً فعمدت كثرة من العائلات التي أعرفها الى اقتطاع هذه المادة من الجريدة وتقديمها أسبوعياً للأطفال. كما عمدت بعض المدارس الى استخدام هذه المادة في تدريس تلامذة الصفوف الابتدائية، خصوصاً مادة الشعر التي بدأت تُدرَج حديثاً في المناهج المدرسية. والنصوص العربية المتوافرة في هذا المجال، لا تزال عاجزة كمّاً ونوعاً، عن تلبية هذا الاحتياج المتزايد لدى أطفالنا. فلولا نصوص أحمد شوقي وكامل كيلاني، وبعض الشعراء الآخرين لكانت المكتبة العربية من أفقر المكتبات في العالم في مادة الشعر الموجه للأطفال ان لم تكن أفقرها على الإطلاق. والمؤسف ان عدداً كبيراً من الشعراء الذين هبّوا في الربع الأخير من القرن الفائت وشرعوا في كتابة القصيدة للطفل، راحوا يفعلون ذلك بأقل ما يمكن من التكاليف الفنية، فهم يعمدون الى فكرة بسيطة شائعة ويقدمونها في كلام موزون مقفّى وكثيرون منهم يحملون الى قصيدة الطفل هواجس الكبار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. فتراكمت مئات النصوص الغريبة عن عالم الطفل والمتنافرة مع مزاجه وذوقه. وأخيراً، فإذا كان لا بد لي من الحديث عن خطة في كتابتي الشعر للأطفال فهي التالية: انني أعطي الجانب الجمالي في القصيدة القيمة الأولى والأساسية، وأذهب الى قصيدة الطفل بالجدية نفسها التي أذهب بها الى القصيدة التي أكتبها للكبار. وقصائدي للطفل تجنح دائماً نحو القصة. فأنا لا أستطيع ان أتصوّر نصاً شعرياً موجهاً للطفل لا يشفُّ عن قصة. كما أنني لا أستطيع ان اتصور هذا النص خالياً من المرح والطرافة وعنصر الإدهاش. ان الضحكة هي المدخل الى قلب الطفل. وأحاول بقدر ما أستطيع ان أجعل الأمور تحدث في مناخ مضحك. ولأن الطفل أقرب الى اللحظة الشعرية السريعة منه الى القصيدة الطويلة المتعددة الأحوال واللحظات، فإن القصائد التي أكتبها تكون موجزة بوجه عام وتتمحور حول حادثة واحدة أو مشهد واحد أو حالة واحدة. وأحياناً لا يتجاوز حجم القصيدة البيتين أو الأربعة أبيات إلا إذا كانت القصيدة تشتمل على قصة تستدعي الاسترسال في عرضها. مع الحرص الدائم على أن يكون النص واضحاً وبسيطاً وذلك من دون أي تنازل فني، من نواحي المعنى الشعري، والصورة الموحية، والبناء الجيد والمتماسك، والايقاع الجذاب. * شاعر وقاص لبناني.