ينظم متحف الفن المعاصر في "مركز بومبيدو الثقافي" احتفالاً تشكيلياً لمناسبة ذكرى مرور مئة عام على ميلاد الفنان جان دوبوفي. ويشتمل المعرض الاستعادي لهذه المناسبة على ما يقرب من أربعمئة عمل فني، جمعت من المتاحف وأصحاب المجموعات الخاصة. ويرافق المعرض عدد من التظاهرات الموازية، كما أعيد عرض النصب العملاق الذي صممه الفنان قبل وفاته. افتتح المعرض منتصف أيلول سبتمبر المنصرم وسيتوقف مع نهاية العام الجاري، ويرجع الفضل في اقامته الى مؤسسة استثمارية تعرف باسم: "ل.ف.م.ه"، وهي جزء من ظاهرة "عولمية" جديرة بالتوقف عندها، بخاصة ان المعرض السابق الخاص ب"البوب الأميركي" كانت اقامته مؤسسة "سان لوران"، والظاهرة لا يتجاوز عمرها العشر سنوات تراجع خلالها دور القطاع العام ممثلاً بوزارة الثقافة لتحل محله الشركات الكبرى في رعاية الفنون في مقابل مساحات اعلانية، وهذا ما يفسر الضجة الاعلامية والشهرة الكبيرة التي اكتسبها الفنان متأخراً بما يتجاوز حجم دوره في تاريخ الفن المعاصر، فضلاً عن ارتفاع اسعار لوحاته واهتمام التلفزيونات والمؤتمرات الجامعية بإحياء ذكراه، وهو ما لم يحظ به سوى بيكاسو. لكن ذلك لا يلغي أهمية الفنان في تاريخ الفن المعاصر وتحديداً منذ منتصف القرن العشرين. فهو الممثل الأول للتعبيرية الخاصة المسماة ب"الفن البكر"، والمتعارضة مع نخبوية الثقافة والمثاقفة، فقد استثمر في عقيدته ذخائر كانت مجهولة من ذاكرة "فريسكات" فن كهوف ما قبل التاريخ ورسوم الأطفال، وبخاصة العصابيين الذهانيين والهموديين والمتوحدين وغيرهم. ولا بد من الاشارة الى انه لم يبدأ الرسم فعلياً الا بعد سن الأربعين، فأغلق خانة الخمور التي كان يعتاش منها في مدينته الهافر، واستقر في باريس. وعلى رغم انه درس بصورة هامشية الفن في مدرسة الهافر ثم في "أكاديمية جوليان" الباريسية، كانت تتملكه قناعة بعدم جدوى التلقين الثقافي، بخاصة الأكاديمي منه في الفن، ولم يحتل موقعه من مخاطرات الفن المعاصر إلا بعد رفضه الانضواء تحت أية تعاليم أو تصنيفات مدرسية، مؤسساً لتشخيصية هذيانية وصفت بأنها معادية للثقافة، ولكنها تستمد تراكماتها الذاكراتية من "فريسكات" تصاوير جدران الكهوف التي ترجع الى "فناني" ما قبل التاريخ، وبذلك كان منقطعاً عن المعايير الجمالية التي سادت في المتاحف وصالات العرض في منتصف القرن الماضي. اكتشف جان دوبوفي بالنتيجة ما أهمله التثاقف التشكيلي النخبوي، وهو التعبير المباشر عن التجربة المعاشة، حيث مثلت الأفضلية العمودية لديه، بتفوقها على مقياس الأداء والصقل والكياسة التقنية، وهكذا توصّل الى تشخيص أصالة خامات ما دعاه ب"الفن البكر" أي المتبرئ من اللياقات والحياكة المدرسية وتطريبات العين المخمليّة. يؤسس الفنان ابتداء من عام 1945 مجموعته الشهيرة عن "الفن البكر"، نماذج مثيرة عصابية انتحارية توثق ذاكرة أقسى الحالات العاطفية البشرية وأشدها احتداماً، درجنا على مطالعتها في معارض مستقلة، خصص لها متحف في العاصمة، وتعرفنا في آخر هذه العروض على دراجة تقترب من هيئة حسناء عارية، صنعها طبيب وقع في هوى فتاة قبل ان ينتحر متيماً بها. كانت وصية وجودية وكينونة ابداعية استثنائية لا تنسى. أعادت عقيدة دوبوفي الاعتبار الى الفنون التي كانت تدعى بالبدائية واستبدل اسمها أخيراً بالأولى. ويعود اليه فضل اكتشاف الكثير من التجارب والفنانين الذين انخرطوا في مساحة حريات "الفن البكر"، كما يعود اليه فضل ترسيخ موهبة التونسي أحمد الحجري، واعتباره أحد أهم الممثلين ل"الفن البكر"، بل ولعل دوبوفي كان من أكثر الفنانين تأثيراً في التعبيرية العربية من باية الجزائرية الى فاتح المدرس ورشيد كمون. ومن اللافت في المعرض انه يكشف للمرة الأولى عن مجموعة غير معروفة صورت عبر رحلاته الى الصحراء الجزائرية ما بين عامي 1947 و1949 تفضح التقاليد العنصرية المتناسخة منذ عصر الاستشراق الاستعماري واختزال العرب الى حضارة بدو رحّل هائمين على وجوههم مع جمالهم بطريقة "كاريكاتورية". ومن المثير للعجب ان دوبوفي لا يصوّر حالات بدائية بقدر ما يستثمر انتاج "البدائيين" واشاراتهم في رصد بالغ السلبية لعالم يتناقض مع مفهومه عن الانسان الشمولي، لما تطفح به الصور من حقد عريق". لا تملك شخوصه عادة أية خصائص ثقافية أو حتى "انتروبولوجيّة" لأنها تقتصر على هيئة الإشارة البشرية المختزلة، تماماً كما يرسم الأطفال الدمى والعرائس، ولا شك في أن تحوله الى الرؤوس الكبيرة التي تحتل فراغ اللوحة ينبئ بخيبات ما بعد الحربين. لعل أبرز صفات سيرة الفنان الابداعية هو التنقل بين التشخيص والتجريد. حصل ذلك ثلاث مرات، وابتدأ باعادة رسم المجتمع الصناعي المدني من خلال مشاهد المترو والمقاهي والدراجات والحقول التي تحافي المدن والأبقار وسواها، مسقطاً رؤاه الأفريقية أو البدائية السحرية على همجيّة الرسم وهمجية الملمح. يبدو العالم عند دوبوفي كل مرة حشوداً آدمية ومسوخاً تتجمهر في قيامة المدينة، ولكن، وبمعاداته الأصيلة والرؤيوية للثقافة التشكيلية النخبوية أسس لثقافة موازية لهذه الدائرة المغلقة التي انسلخ تصويره عنها. ثم انتقل في نصبه العملاق من تقليد الفن العصابي الى الخوض ملياً في الاصابة الهمودية، فتعثر في تكرار مرضي لا قيمة له سوى ماضيه الرؤيوي، ولحسن الحظ انه لم يتوقف في سنواته الأخيرة عند هذه المحطة الفتيانيّة لأنه قفز منها بسرعة ليترك أشد اعماله البدائية نضجاً، وعندما توفي عام 1985، كان ميراثه من "الفن البكر" شريكاً أساسياً في اتجاهات "التشخيصية المحدثة" ضمن تيارات "ما بعد الحداثة".