ماذا يجري حين تتوافر للذكاء المتوسط والاقتناعات الشائعة والعادية، وسائل اتصال وإيصال حديثة ومتطورة؟ لن نقول إن ذلك يؤدي الى تعميم الجهل وتثبيته علامة في حياتنا وعيشنا، وانما على الأقل الى تكريس قيم سائدة ومعرفة متوسطة، والى مضاعفة تأثير ما هو شائع. وسيؤدي أيضاً الى جعل هذا الشائع أمراً في أصل تكويننا الذهني والثقافي... أليست وسيلة انتقاله هي نفسها تلك التي تنتقل عبرها القيم والثقافات والعلوم المختلفة؟! قناة "الجزيرة" الفضائية قد تعكس بعضاً من وجوه هذه المعادلة. فقد شكّل الحدث العالمي في 11 ايلول سبتمبر وما نتج عنه، اختباراً جديداً لتنازع هذه المحطة بين وظيفتين يشكل خوضها فيهما مفارقة. فهي، من جهة مستفيدة، أقصى الاستفادة مما تتيحه الثقافة الغربية من تقنيات اتصال وبثٍ وترقيم لكنها، من جهة اخرى، جعلت من هذه الطاقة قوة دفع باتجاه آخر. طردت حركة "طالبان" جميع مراسلي وسائل الاعلام وشبكات التلفزيون، ولم يبق في كابولوأفغانستان الا "الجزيرة". الثمن كان كبيراً، فقد تحولت المحطة الى صوت "طالبان" الوحيد، وفي احيان كثيرة صارت صوت ابن لادن الذي يتردد صداه بين اخبار المحطة غامضاً وملتبساً. مراسلو المحطة في كابول والولايات الأفغانية الأخرى صارت رسائلهم مدبّجة بصيغ غير واضحة. فتيسير علوني هو، في نظر كثيرين من المشاهدين، اشبه بناطق باسم حركة "طالبان" الى جانب كونه مراسلاً ل"الجزيرة". تحمل أخباره مضامين مختلفة وتوجه "طالبان" عبرها رسائل الى الجهات التي ترغب في ذلك. تارة يتحدث عن احتمال حصول "طالبان" على اسلحة كيماوية من المافيا الروسية، وتارة يتولى التخفيف من دلالات انشقاقات أصابت الحركة. انها وظيفة حربية تماماً، اذ غالباً ما تتولى أطراف الحرب مهمة التضليل وإشاعة اجواء من الريبة والشكوك. و"الجزيرة" اذ تفعل ذلك، انما تفعله على الهواء مباشرة، الأمر الذي لا يبدو انه متاح في أفغانستان. تتولى "الجزيرة" البث على ايقاع الحسابات "الطالبانية". فهذا تقرير لمراسلها من قندهار محمد خير البوريني، عن وصول المساعدات الغذائية الى مناطق المعارضة في الشمال، وحرمان وسط افغانستان منها. الامر قد يكون صحيحاً وسياسة الاغاثة الدولية ليست بمنأى عن التناول والانحياز. لكن خبر المحطة ترافق مع تزايد الحديث عن اقتران الحرب القادمة بإغارات للطائرات المحملة بالمساعدات. تقرير البوريني جاء ليؤكد نظرية "طالبان" بأن المساعدات لن تكون للأفغان في كابول وقندهار وإنما للأفغان في الشمال. ثم ان "الجزيرة" المتواجدة أصلاً في كابول منذ سنوات، لم يسبق ان جعلت من قضية فقر الافغان الدائم ووقوعهم على حافة المجاعة قضية من قضاياها. وفي غمرة الأخبار غير المسندة، والتي يوحي الكثير منها بأنها ثمرة خطط غير اعلامية، جاء الخبر عن الصحافية البريطانية التي اعتقلتها حركة "طالبان" بتهمة التجسس. فبغض النظر عن صحة الاتهام او عدمه، جاء خبر "الجزيرة" غريباً عن الكثير من التقاليد الاعلامية. فقد حملت اللغة التي كُتب فيها الخبر اتهاماً مباشراً للصحافية، وتعاطت "الجزيرة" مع القضية وكأنها جهة أمنية، اذ نصّ خبرها في احدى فقراته على ان "الجزيرة" تمكنت من تصوير هوية الصحافية. وبثت صورة لها مع زوجها السابق، وهو اسرائيلي، وصورة اخرى مع ابنها الذي من زوجها الأول وهو فلسطيني. هكذا استنتجت الفضائية القطرية احتمال ان تكون هذه الصحافية منتمية الى الاستخبارات الاسرائيلية، من دون ان تنسب هذا الاستنتاج الى اية جهة امنية او قضائية. ثم انها لم تكلّف نفسها عناء الاتصال بالصحيفة الانكليزية التي قالت الصحافية انها تعمل مراسلةً لها. ليس هذا الكلام الحقيقة كلها، ف"الجزيرة" أثبتت قدرة وحيوية غير مسبوقتين في اعلامنا العربي. لكنها قدرة بحاجة الى ترشيد. وقد يكون مبرر هذه المغالاة غياب التقاليد التي يمكن القياس عليها هنا. فالندوة التلفزيونية ليست عبارة عن فريقين يعلو الصراخ بينهما فوق صوت العقل، ويتمتع المشاهد بحضور جولة مصارعة بدل الفائدة المرجوة من طرح قضية خلافية بين وجهتي نظر. وماذا ننتظر من اعلام يلتحق بما يضج به الشارع من هذيان يدور على الكرامة والثأر والدماء الزكية، ويغذيه بصورٍ تضاعف من غلوائها!؟ طبعاً يبقى هذا التناول بعيداً من الوظيفة السياسية التي تؤديها محطة "الجزيرة"، في ظل كلام كثير عن شبكة مراسلين اسلاميين، وعن صراعات في مجلس ادارتها بين اطراف ممولة وقريبة من مجموعات اسلامية، وأخرى تميل الى "لبرلة" المحطة وابتعادها عن أن تكون صوت "طالبان" الوحيد.