ثمة جملة من القضايا الملحة طرحت بشدة على الفكر السياسي العربي، اثر الاعتداءات الارهابية التي استهدفت نيويوركوواشنطن في الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي. فالفكر العربي والممارسة السياسية العربية هما المعنيان - ربما قبل غيرهما - بما حدث وبما ينجم عنه من تداعيات ومضاعفات، خصوصاً ان المنفذين لهذه الاعتداءات هم من العرب، كما ان المتهمين الرئيسيين بالوقوف خلف هذه الاعمال هم من العرب ايضاً، وفوق ذلك فإن القضايا التي طرحها هؤلاء المحرضون على تلك الفعلة المنكرة انما هي قضايا عربية، جملة وتفصيلا، منها الفلسطينية والعراقية وكذلك قضية الوجود الاجنبي على اراض عربية. وكل هذا يشي بأن الاحداث الحالية التي تجري في افغانستان، انما تمثل - فحسب - المشهد المسرحي الظاهر، وبينما تقع خشبة المسرح الأراضي الافغانية في دائرة الضوء حالياً، فإن الذين سيدفعون ثمناً باهظاً من جراء كل هذا الذي يجري، هم العرب ايضا، وقد أخذ بعضهم علماً بأبعاد هذا الثمن كماً وكيفاً !. وما دام الامر كذلك فلا مفر من ان يواجه العرب الاحداث الراهنة بأعين يقظة وعقول واعية، حتى لا تختلط عليهم الاوراق، او يخلطوها هم بأنفسهم، فالخلط في هذه المرحلة الدقيقة، ليس فقط سيغيب الفهم الصحيح للظاهرة التي تتسع امام انظارنا، بل ايضاً - وفوق ذلك - سيؤخر العلاج الموضوعي الذي هو في العادة الابن الشرعي للفهم الصحيح. ولذا فلا بد من النظر في مجموعة من القضايا التي لها علاقة وثيقة ومباشرة بمجمل هذه الظاهرة. اولا: الاموال التي اعتمدت عليها المجموعات المنفذة للاعمال الارهابية في تمويل التخطيط والتنفيذ، انما هي اموال عربية "بيضاء" بذلها البسطاء من الناس تبرعاً في سبيل الخير، او ما يظنون انه خير للمجتمع الاسلامي الكبير تحقيقاً للتكافل بين ميسوري المسلمين وفقرائهم. وكل متبرع يعرف ان امواله تنفق في حفر بئر او طبع مصحف او فتح مدرسة او بناء مسجد... الى آخر وجوه الخير، التي يدعو اليها الاسلام، فإذا بهذه الاموال تتحول - او بعضها على الاقل - الى اموال "سوداء" تستخدم لتمويل الارهاب وتنفيذ خططه، وهو ما جر على العمل الخيري الاسلامي الكثير من الشر، بعدما صارت اموال الخير في موضع الشبهة امام اجهزة التحقيقات والسلطات السياسية العالمية. وجعلت من كل ما يخرج من الدول العربية من مال محطاً للمتابعة والتدقيق، ان لم يكن موضعاً للشبهة التي ستبقى معلقة برقاب العاملين على جمع هذه الاموال، ولن تنفك قبل مضي فترة طويلة من الزمن، بل ان الشك تسرب حتى الى عقل وقلب المواطن العادي، الذي كان يرى حتى "الأمس" ان قضية التبرع للخير، هي قضية انسانية، فإذا بالانساني يختلط بالسياسي ثم يلتبس بالارهابي، وهو ما يمثل ضربة في الصميم لاعمال الخير على وجه العموم. ثانيا: لقد تعبت الاقلام العربية من الاشارة الى حقيقة اضحت بارزة في تاريخنا، وهي توظيف "الديني" لمصلحة "السياسي". فربما، بدءا من المناظرة الشهيرة بين أبي موسى الاشعري وعمرو بن العاص، في نهاية الثلث الاول من القرن الاول الهجري، ومحاولة كل منهما الانتصار لصاحبه ولتياره السياسي، عن طريق تأويل النصوص والشواهد الدينية لمصلحته، ودحض حجج الفريق السياسي الآخر، منذ هذه الحادثة انزلق تاريخنا العربي والاسلامي في اشكالية توظيف النصوص لاغراض سياسية. والذي يمر امامنا اليوم من تسويق للاعتداء على اكبر مدن الولاياتالمتحدة، ما هو الا سياسة، مورست في اكثر اشكالها تشويهاً وانحرافاً، وهو أمر ليس من الدين في شيء، ولا علاقة له بالاسلام من قريب أو بعيد، حتى وان اجتهد "البعض" في إلباسه ثوب الدين !. والشواهد التي يمكن أن نسوقها في هذا المجال أكثر من أن تعد، فقد حاول هؤلاء "البعض" الإيهام بأن ما يحدث بين التحالف الماثل الآن بقيادة واشنطن، وجماعة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" هو حرب بين "الكفار" و"المسلمين"، والأمر، كما يعرفه الآن كل العقلاء، ليس على هذا النحو، لأنه من ناحية، ليس لهذه الحرب من هدف إلا اجتثاث جذور الارهاب من هذه الأراضي الأفغانية التي احتضنته طويلا، نتيجة الفراغ السياسي وغياب الدولة. ومن ناحية ثانية، لأن مفهوم الحرب بين "المسلمين" و"الكفار" مفهوم قديم أفرغه من دلالته التطور الكبير الذي طرأ على العلاقات السياسية بين الدول في التاريخ الحديث، بما لم يدع مجالا لحروب تقوم على أسس دينية. ومن ناحية ثالثة، انه قبل أن تندلع الحرب ضد الارهاب منذ أيام باتجاه افغانستان، لم تكن الحرب الافغانية - الافغانية قد وضعت أوزارها بعد، وهي حرب يخوضها الفرقاء الافغانيون انفسهم في ما بينهم، بعدما نجحوا بالأمس متحالفين في مواجهة الغزو السوفياتي طوال عقد الثمانينات. ولا يستطيع عاقل ان يتهم أي فريق من هذه الفرق الافغانية المتحاربة بأنه خارج على ملة الاسلام، أو ان أحد هذه الفرق مسلم والآخر غير ذلك. وما دام الكل مسلماً، اذن فالحرب بينهم هي سياسية، وليست اسلامية في شيء، بيد أن هؤلاء جميعاً يسعون الى خلط الأوراق لتحقيق مصالح سياسية، وتغييب القضية الاساسية وهي الطمع في السلطة. ومن ناحية رابعة، ان هذا المعسكر الغربي، غير المسلم، والذي تقوده الولاياتالمتحدة ضد الارهاب الآن - بينما يتهمه "البعض" بأنه يهاجم الاسلام - هذا المعسكر هو الذي دافع عن المسلمين في مناطق كثيرة من العالم وحماهم من الاضطهاد السياسي والهزيمة العسكرية، مستخدماً الضغط الديبلوماسي والعسكري من اجل تحقيق هذا الهدف، وليس مثالا البوسنة، وكوسوفو... ببعيدين عنا! واذن فالجميع الآن يعرف ان الذي يجري من قبل معسكر الحلفاء انما هو مقاومة وحرب ضد شكل من اشكال التعبير السياسي العبثي استفاد من الفراغ السياسي في افغانستان، معتمداً على فهم متخلف للصراع السياسي، متسلحاً بمنهج "شمشوني" مدمر للجميع، من دون ان يحمل مشروعاً فكرياً وسياسياً واضحاً يقنع العقل ويحقق المصلحة لجموع المسلمين، بل لا يحمل إلا اشتاتاً من فكر مشوش يسعى الى القطيعة الجذرية مع العصر، والصدام النهائي مع الآخر، واحياء الخطاب القديم في الصراع بين "أهل الايمان" و"أهل الكفر"، وهي حالة ان جاز لهم السقوط فيها تعسفاً وتذرعاً فلا ينبغي للآخرين، من جموع الأمة، الاذعان لهم والخضوع لأهوائهم المنافية للمنطق والعقل والدين معاً. ولو لجأنا الى مثال يكشف هذه الحالة النكوصية التي تهيمن على عقول هؤلاء، فلننظر الى موقف "طالبان" من تعليم النساء. فلقد استقر الرأي العلمي الموثق على أن المرأة الجاهلة غير المتعلمة تلد أطفالا يتعرضون للموت بنسبة أكبر بعشرين ضعفاً بالمقارنة بأطفال المرأة المتعلمة هذا إذا تجاهلنا عناصر التنمية الأخرى. ونسأل بكل اخلاص، ما القيمة الحضارية أو الدينية التي يحققها حجب التعليم عن النساء؟ ولو استقرت مصالح الناس لمثل هذه الجماعات التي حرضت على الفعل الارهابي، لما خرج تطبيقهم العملي في العيش والحياة عما تطبقه "طالبان" في الحياة اليومية على الشعب الأفغاني الذي يعيش تحت سيطرتها. وهي حياة لا يقرها العقلاء من المسلمين، كما نجد تطبيقها مناقضة لها في بلاد اسلامية أخرى مثل اندونيسيا وايران وبنغلاديش وتركيا... وغيرها من البلدان التي اختارت الاسلام الوسطي الذي لا يخاصم عصراً ولا يعادي حضارة. ثالثا: مما يلفت النظر ويحير الحكيم ويزعج العاقل ما يلجأ اليه البعض حتى اليوم من رفع شعار "أعطونا الأدلة" على ان ما تم هو من اعمال تنظيم القاعدة. وهل يحتاج الأمر الى دليل بعد كل هذه التصريحات واطلاق التهديدات؟ هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو عدم الفهم الحقيقي لآلية العمل السياسي في الغرب، الذي قد يناور حسب ما تمليه عليه مصالحه، ولكنه ايضاً تحكمه آلية سياسية محددة، وضوابط للعمل وصناعة القرار، يستبعد معها المرء أن تقوم ادارة سياسية في الغرب الديموقراطي بالكذب الصراح أو تركيب الادلة والشواهد، وتزييفها من اجل "خداع جمهورها العريض". وفي مثل قضية كهذه، ان سلمتا بمثل هذا المنطلق فكأننا نسلم بالنظرية القائلة ب"المؤامرة الكبرى" التي سكنت عقول بعض مفكرينا. ولعلني استطرد فأقول هنا ان بعض من تصدوا للتحليل رغبة في التوصل الى الذين قاموا بهذا العمل ذهبوا بعيداً الى القول انهم الصرب! والغريب ان هذا التحليل لم يصدر عن اناس تنقصهم المعرفة، أو ممن تهون أقوالهم عند الناس، بل ان بعضهم سيطر على عقل العرب لفترة تزيد على ثلاثة عقود، وما زال العامة يرون في ما يقول هذا البعض أمراً مصدقاً لا يأتيه الشك من أي باب !. فإذا وقع مثل هؤلاء المحللين الكبار في فخ المؤامرة، فهل نلوم العامة بعد ذلك، أو نستغرب كثيراً ما يدعو اليه البعض من صراع ديني؟! رابعاً: انها أرض ملغومة وزلقة تلك التي تمتد تحت أقدام العرب اليوم على مستوى العالم، ويكفي ان نرى ونقرأ ما يكتب في الغرب عن الأسباب التي جعلت الأمر يصل الى ما وصل اليه، وهي أسباب خاصة بنا في مجملها. فقد تركنا الكثير من القضايا من دون حل، وكأننا ننتظر - أو بعضنا - أن يأتي حلها مع الزمن، وتورط بعضنا في سياسات قصيرة النظر، ثم تركنا شباباً محبطين يسعون الى تفريغ طاقتهم من دون تتبع أو مشورة، لينتهي بهم المطاف في افغانستان محاربين بديلا عن الآخر، وفي هذه الاجواء اطلقت أفكار من عقالها وتركت العقول رهناً للتفسير المتطرف، من دون أن نسعى جادين لايجاد حلول لمشكلات الشباب ومشكلات التنمية، أو وضع خطة واضحة لدخول العصر. لا أريد أن أكون متشائماً، ولكن يبدو أن اللوم سينصب علينا نحن العرب بسبب ما جرى، ومن ثم فمن دون أن ندخل في حوار مع الآخر الغرب ليتحمل نصيبه من المسؤولية عما آلت اليه الأمور، وما لم نتحاور مع أنفسنا لنقدم الحلول الناجعة التي تضمن لنا الوجود الفاعل في هذا العصر الذي يجتاح ب"عولمته" ارجاء العالم، وما لم نبتعد عن ليّ أعناق النصوص، ونتجنب التلكؤ والابطاء في حسم قضايانا الفكرية الجوهرية وتحديد اتجاهنا بالمنطق والعقل، فإن الثمن الذي سيتعين علينا دفعه سيكون ثمناً باهظاً، بما يفوق قدرتنا على تحمل أعبائه! * كاتب كويتي.