من التداعيات الكثيرة التي أسفرت عنها كارثة نيويورك وواشنطن في 11 أيلول سبتمبر الماضي انها الكارثة فتحت ما يمكن تسميته "صندوق العجائب" في الإعلام العربي سواء المقروء أو المسموع أو المرئي. ولأن الأمر أخذ صورة الظاهرة، كان من الطبيعي ان نفتح هذا الصندوق، لأن عدداً من المتصدين للتحليل والتفسير والمتابعة لهم أهواء متضاربة، وينظرون من زوايا مصلحية، أو ربما كانت لهم مرجعيات مختلفة. ولعل هذا ما جعلني أصف الكثير مما قرأت وسمعت في ما يتعلق بالكارثة المذكورة بأنه "صندوق عجائب"، خصوصاً بعد استشراء التناقض بين المقدمات والنتائج التي يعرضها الكاتب أو المتحدث، وهو تناقض جلي وواضح، حتى لكأن الكاتب أو المتحدث ينسى ما قاله في المقدمة، قبل سطور أو كلمات قليلة ليقول نقيضه مباشرة، في دلالة على التفكير الأعوج من جهة والاستخفاف بعقول الآخرين من جهة اخرى. ولقد فات كثيرين من الذين يأخذون بالمظهر والشكل الخارجي في التحليل والاستنتاج، ان العالم من حولنا "يغير جلده"! واذا كان الاعلام هو الذي يوجه الجمهور، في أي مكان، وفي أي ثقافة، فإن الكثير مما قيل على الصعيد الاعلامي في تفسير ما حدث يوم الثلثاء الحادي عشر من ايلول، له علاقة بالتمني وربما الخيال، اكثر مما له علاقة بالواقع والفعل، بل ان جانباً كبيراً مما قيل كان حظه من التخمين والخرافة يفوق كثيراً حظه من الحقائق والاستدلال الصحيح. ومن ثم فإن هذا النوع من التفسير ينبغي ألا يصرفنا عن فهم الحقيقة، وألا يقودنا الى التفسير الخرافي، مما يحجب الوقائع فقط، ويمنع محاولة ايصال ضخامة ما حدث للرأي العام، على المستوى العربي، بل يضللنا ايضاً عن توضيح جوهر الأزمة العالمية لأنفسنا، فيما يتعين علينا فهم أسبابها، من دون تهويل أو تهوين. من الحقائق الماثلة ان ما حدث هو عمل غير مسبوق في التاريخ الحديث، كما أنه قد غيّر مسلمات دولية كثيرة، ولا شك في انه سيغير مسلمات كثيرة اخرى في القريب. ولعل المثال الأقرب في هذا التغيير غير المسبوق، ما حدث في اجتماعات دول "أوبك" في فيينا في الأسبوع الماضي، إذ كانت الحكمة السائدة حتى ما قبل هذا الاجتماع، انه في حال اتجاه اسعار النفط الى الانخفاض تجتمع دول "أوبك" وتتخذ قراراً بخفض الانتاج، من أجل رفع الأسعار الى الدرجة المبتغاة. لكن الذي حدث هذه المرة شيء مختلف، فقد تدنت الأسعار، وقبلت دول "أوبك" مجتمعة، بما فيها دول الحمائم ودول الصقور، بأن تحافظ على سقف الانتاج كما هو ! لتغير بذلك واحدة من قواعد الاقتصاد والعلاقات الدولية الى عكسها. واذا لم يكن هذا المثل واضحاً، فإن أمثلة اخرى تأتي من الصينوروسيا وايران وبلاد كثيرة اخرى تنبئ عن تحالفات جديدة هي في طور التشكل، وعالم جديد تبزغ ملامحه أمام أعيننا، وليس لأهل الخرافة فيه مكان. احدى الحقائق المتعلقة بهذه النكبة تفيد بأن "كل" المشاركين في مذبحة الحادي عشر من ايلول، أو "معظمهم" - إذا شئنا التحفظ والحذر - هم من صغار السن، فالمعلومات تخبرنا بأنهم يراوحون حول الخامسة والعشرين، وهذه السن يكون الشخص فيها مندفعاً ومتحمساً للتضحية في سبيل أي قضية بقطع النظر عن موقعها من الخطأ والصواب: هذه الحقيقة التي تبدو قريبة من اليقين تعني اننا نحن العرب معنيون بفهم هذه الظاهرة ودرسها بجدية، والبحث في أسبابها ودوافعها، لعلنا نستطيع ان نقدم علاجاً يفيد مجتمعاتنا، بدلاً من "تفريخ" جيل لا يتحدث إلا لغة الرصاص والموت !. فما يلفت النظر ان الانتحاريين التسعة عشر الذين اقترفوا المذبحة، قد غيروا قواعد اللعبة في العمل الارهابي، حيث تعارف الناس في مثل هذه الحالات على ان يُبقي الارهابيون أنفسهم بعيداً عن دائرة الموت حتى يتيحوا لأنفسهم الاطلاع على آثار نجاحهم في ما قاموا به، والتمتع بقطف النتائج. أما ان يستولي الانتحاريون على الطائرات بمن فيها من الركاب، ثم يفجرونها في أبنية مختارة بعناية، ليكون الدمار من نصيب الجميع، فهذا هو الجديد في اللعبة، وهي ايضاً مسألة تستحق الدرس والبحث، والسعي الحثيث الى سبر أغوار الثقافة التي تسيطر - مع الأسف - على قطاعات كبيرة من شبابنا، نتيجة "الفجوة الثقافية" التي تتيح للبعض الاستيلاء على عقول الآخرين وتسييرها في اتجاه يخاصم المصلحة العليا للوطن والدين والمجتمع في آن. كل هذه الحقائق الأولية قفز عليها كثير من الكتاب والمحللين العرب ليقدموا لنا تحليلات قريبة الى الخرافة. ولا استطيع ان أرصد هنا كل ما قرأت وسمعت من أحاديث لها علاقة بتفسير الحدث، وربما سمع غيري وقرأ من هذه التحليلات مثل ما قرأت، ولكني سآتي بطائفة منها، وليعذرني القارئ ان رأى فيها الكثير من المبالغة والعدمية، على رغم انها - مع الأسف - جاءت على صفحات الجرائد وترددت على شاشات التلفزة العربية، وربما أثرت في مستمعيها، واستطاعت ان تقنع وتؤكد ما تقدمه على أنه الحقيقة المطلقة. ومن أغرب الغرائب في "صندوق العجائب" الحديث الذي انتشر بين الناس حول ما حدث في 11 ايلول ومحاولة تفسيره، من خلال ربطه - بصورة خرافية - بموضوع الأعداد أو الأرقام ومصادفاتها، وأنا أنقل الآن ما ورد على شبكة الانترنت أو ما نشر على صفحات بعض الصحف. يقول أحد الآراء ان الحادي عشر من ايلول له موقع خاص، فأنت اذا جمعت "تسعة" الى "واحد" ثم الى "واحد" آخر كان المجموع 11، وللمفارقة فإن مجموع حروف اسم الرئيس الاميركي جورج بوش هو 11 ايضاً، الى آخر لعبة الأرقام التي تعود بعيداً الى الوراء، لتنتهي - ويا للعجب - بأن أول أزمة قلبية أصيب بها جمال عبدالناصر كانت في 11 ايلول 1969! اما عن أشكال برامج الكومبيوتر فهي متعددة ايضاً، فبعد مجموعة من العمليات على الكومبيوتر التي يطلبها منك البعض تتحول أمامك العبارة المقترحة الى طائرتين متجهتين الى مبنيين، بينما تبدو خلفهما اشارة الخطر الجمجمة والعظمتان، ويبقى التفسير الواسع الانتشار الذي استرعى انتباهي، والذي يذهب الى ان الطائرات التي فجرت الكارثة انما كانت تتجه الى أهدافها بواسطة التحكم عن بُعد، وكأن هؤلاء الذين استساغوا هذا التحليل كانوا يتحدثون عن أحداث وردت في فيلم كارتون خيالي !. واذا تركنا ما يقع في ظل الخرافات يأتي تفسير قدرات إبن لادن السحرية، فهو في كل مكان وأي زمان، وله قدرة خارقة، على التنكر والمناورة، هذا ما يقوله لك أحد "الخبراء" في الارهاب على محطة تلفاز يراها العالم، وفي بلاهة شديدة يعلق الخبير بأن المفاجأة الحقيقية ستكون في استسلام إبن لادن للاميركيين من اجل فضحهم!. ويتحدث كاتب رصين ! في احدى المطبوعات العربية بقوله نصاً: "إن كل المؤشرات في الحادث الارهابي الذي تعرضت له اميركا تدل الى ان هناك عناصر اميركية ساهمت بشكل أو بآخر في اعداد وتنظيم هذا الهجوم الارهابي..."، ثم بالطبع يكمل الحديث عن الارهاب الذي يتعرض له الفلسطينيون... وقد فات هذا المحلل الرصين ان القارئ الفطن ستدفعه الدهشة بالتأكيد الى التساؤل: كيف يستوي ان تقوم عناصر اميركية بعمل ارهابي لمصلحة الفلسطينيين؟! واضح بالطبع ان الأمر لا يجافي المنطق فحسب، بل يتجاوز التفكير العقلي أصلاً! فكرة ان هذا العمل الارهابي قد قام به آخرون، فكرة انطلقت من عقالها كالمارد الذي خرج من القمقم فأصبح من الصعب السيطرة عليه !، فالبعض كتب مؤكداً ان من قام بذلك هم الطيارون أنفسهم، انتقاماً مما حل بهم شخصياً من عنت في فيتنام، وذهبت هذه المقالات الى مستوى بعيد من التشدد الى ان جميع طياري الطائرات المنكوبة هم طيارون سابقون في فيتنام! آخرون ذهبوا الى تفسير ما حدث بأنه عمل اميركي قامت به الأجهزة السرية، من أجل فتح طريق لأميركا الى آبار النفط الواعدة في آسيا الوسطى. بينما رأت الغالبية في اتهام الموساد بالمسؤولية عن هذا الحادث أمراً مقبولاً وقابلاً للتصديق لدى معظم الشرائح، والدليل ما تردد حتى في بعض نشرات الاخبار والكتابات من ان آلافاً عدة من اليهود الأميركيين يعملون في البرجين الشهيرين اللذين دُمرا، لم يذهبوا الى مقار عملهم صباح يوم الكارثة، لعلمهم اليقيني المسبق بوقوعها! والعجيب ان هذا التحليل الذي جنح كثيراً في الخيال، الى حد اتهام الموساد الاسرائيلية بمسؤولية الكارثة، وأنهم أبلغوا بني جلدتهم مسبقاً بالتفجير وبضرورة ان يتغيبوا ذلك اليوم، هذا التحليل لم يلتفت الى ضرورة طرح سؤال منطقي: ألم يلفت نظر المحققين تغيب عدة آلاف من اليهود - دفعة واحدة - عن الحضور لمقار أعمالهم في ذلك اليوم؟ أم ان هؤلاء المحللين هم فقط الذين احتكروا "نعمة الذكاء من دون الآخرين"؟! ويبتسم محلل آخر على محطة فضائية عربية، وهو يفسر تأييد روسيا لأميركا في حربها المقبلة في افغانستان بأن الروس انما يسعون الى دفع الاميركيين الى التورط في هذه الأرض الافغانية، لكي يعانوا مثلما عانى الروس من قبلهم في مواجهتهم مع المجاهدين الافغان في عقد الثمانينات! وبكل ثقة وأيضاً بابتسامة من وقع على اكتشاف عظيم، يوافق مذيع النشرة على الاكتشافات الجديدة والعميقة لهذا المحلل الذكي. جملة التحليلات العربية، أو اكثرها تتأرجح بين الرؤية العاطفية التي تحجب العقل من ناحية، وبين الخضوع لنظرية المؤامرة من ناحية اخرى، إما للمسايرة أو للتبرير، حيث تتحول المناقشات الى مجادلات شخصية عقيمة، لا تحرم الجمهور العام من التنوير والوعي فحسب، بل أكثر من ذلك انها تشحنه في الاتجاه المضاد للعقل والمنطق والفهم العلمي للاحداث! وهكذا تسير مجريات التحليل، في معظم - ولا أقول كل - الخطاب الاعلامي العربي، وهو توجه يخيف العقلاء الذين يجهدون في التحذير من ان عقول كثيرين من ابناء جلدتنا مهددة بالتلوث المعلوماتي الذي يقود الى التعصب والتخلف في الفهم والمعالجة. أيها السادة... ان العالم "يغير جلده" الآن، بعدما بدأ دخان الكارثة الكثيف ينقشع من سماء نيويورك. فبعدما بدأ القرن الواحد والعشرون حاملاً معه تطلعات متفائلة بحقوق الانسان وانتشار الديموقراطية وآليات السوق المفتوحة، إذا بالصدمة تتفجر في وجه الغرب وبين ضلوعه، كأنما لتذكر الغربيين بأنهم سعوا الى احتكار التحكم بمصير العالم، فيما تركوا البقية يعيشون في زمن مختلف، ونفضوا ايديهم من المشكلات الكبرى التي تجتاح أرجاء الأرض، في الوقت الذي تتحول هذه الأخيرة من "مجرة" الى "جيرة"! إنه عالم جديد يتخلّق أمام أعيننا، ويتعين علينا ان نستعد له بالفهم العلمي والمنطق الانساني. * كاتب كويتي.