تعودت أن أناديه "كاكه عصمت" على الطريقة الكردية بعد ملاحظة زائر كبير ان أنجح السفراء العرب كردي من العراق. منذ سنوات وهو يتألم من دون أن يشكو. لو لم نكن نعرف أن صديقنا عصمت كتاني مصاب بالسرطان القاتل لتوهمنا أنه يعيش على الابتسامة ويستشفي بتجميع الحكايات الدولية لتكرارها في سهرات العشاء. عندما علمت أنه مات وحيداً في جنيف تذكرت رحلتنا معاً عبر دول الخليج إلى بغداد. كنا مع الأمين العام يومها كورت فالدهايم الذي اختار الديبلوماسي العراقي مديراً لمكتبه. بعد المحادثات الرسمية مع الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين ووزير الخارجية سعدون حمادي، علمنا أن حكومة العراق طلبت من عصمت العودة للعمل في بغداد من دون تحديد الوظيفة. شعرت أن وجود زميل عربي في مركز دولي أفعل من عودة موظف إلى وزارة الخارجية. وتطوعت من دون ابلاغ أحد للحديث مع صديق كان يعمل في مكتب السيد النائب ثم توجهت إلى لقاء مؤسس حزب البعث الاستاذ ميشيل عفلق في فندق بغداد. استمع إليّ الاستاذ طويلاً وتكرم باستضافتي إلى العشاء ثم ودعني بما استقبلني به من ترحاب. قبل الانتقال إلى المحطة التالية في قبرص قال الدكتور فالدهايم إنه سيقف مع عصمت في أي قرار يتخذه: إذا اراد البقاء معه في نيويورك فسيوضح للحكومة العراقية أنه لا يستطيع التخلي عنه، وإذا قرر العودة فسيضطر إلى الموافقة مع الأسف الشديد. أراد عصمت أن يفكر، فبقيت معه ولم نكمل الرحلة مع الآخرين، بل توجهنا معاً إلى بيروت. في طريق العودة قال لي إنه يعرف تماماً ماذا يفعل في نيويورك، ولا يدري في أي موقع قد يعود إلى بغداد. ثم أضاف: "لكن العراق بلدي، وإذا ارادت حكومة العراق أن تجعل مني ولو كاتباً بسيطاً في وزارة الخارجية فلا بد أن اقبل. لولا العراق لما تخطيت حدود مقاطعة اربيل". كان يشير إلى المنح الدراسية التي تقدمها الدولة لمتابعة التعليم العالي، في الجامعات الأجنبية ثم توفير وظيفة له في البعثات الديبلوماسية. وهكذا عاد ولو على حساب زواجه العائلي، وعندما عين سفيراً لدى الأممالمتحدة استطاع أن يرفع اسم بلاده في كل المنتديات الدولية حتى انتخب رئيساً للجمعية العامة. أحيل على التقاعد، فبقي في جنيف إلى أن استدعاه الدكتور بطرس غالي ليعمل مستشاراً له، ثم احتفظ بمنصب خاص قدمه كوفي أنان لكي يبقى محاطاً بعناية الأممالمتحدة. في أيامه الأخيرة زارته إحدى الزميلات في المستشفى للاطمئنان والمساندة، وروت له حكاية قديمة، فضحك مسايراً وحاول جاهداً ان يرد بحكاية أخرى بينما البسمة في وجهه والدمعة في عينيها. مات عصمت كتاني في منتصف الطريق الطويل بين نيويوركوبغداد، وأوصى بأن يدفن في مسقط رأسه، القرية الصغيرة التي طالما اعتز بها هذا الديبلوماسي الكردي العراقي العربي الدولي اللامع أكثر من أي لقب أو انجاز. ليت ابنه دارا، الذي ترعرع في الاغتراب يعود بالجثمان إلى هناك لكي يحتضن تراب العراق الحبيب ابنه البار. * الأمين العام المساعد للأمم المتحدة للشؤون الإعلامية سابقاً.