يندر، في بلاد لم تترسخ فيها حركة مسرحية خارج المهرجانات والمواسم، أن يبرز ممثل يحقق حضوراً على المسرح خارج كاريزما الشخص... وأكثر ندرة ان تحقق ذلك امرأة شابة لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها. ذلك الخط الوهمي الذي يصنعه الجسد المنتصب كرمح على خشبة المسرح وذلك التوازن هما اللذان حققا حضوراً لافتاً لرانيا الحارثي التي تبدو خارج المسرح فتاة عادية في حركتها ونشاطها الى حد لا يصدق... على الخشبة يشعر الناظر إليها، كما في مسرحية "من تراب وأرجوان" لسوسن دروزة، وكأنها بإمساكها بالقانون الخاص بجسدها تود ان تكسر شيئاً فيها... في داخلها الإنساني نفسه. من فرط ما ترغب في ان تحلق... يزيد من هذا الإحساس تلك الرومانسية التي يعبر عنها وجه رانيا ممزوجة بمسحة من حزن... هنا حوار مع الحارثي: في أحد الأعمال "الأبواب المقفلة" لسارتر، قدمت شخصية جريئة، امرأة مثلية الجنس... امر، ان لم يكن معهوداً، فهو نادر حقاً... - أظن ان الشخصية المسرحية عموماً تفرض على الممثل بعض المسائل لجهة البحث عنها في الداخل والخارج معاً... خذ مثلاً السارق بوصفه شخصية مسرحية، انها تفترض البحث في ذات الممثل، فهو انسان في آخر الأمر كسائر البشر... ذات الممثل او الإنسان شديدة التلون وكل لون يوجد في اكثر من درجة، ونجاح الممثل هو في ان يصل الى اللون ودرجته المناسبتين للشخصية. هنا أشير الى البحث في الذات والغوص فيها حتى العثور على اللون المطلوب وجعله يطفو على سطح الشخصية مثلما تطفو بقعة زيت على ماء. أحسب أن هذه الشخصيات/ الألوان المتعددة هي التي يتشكل منها الداخل الإنساني للفرد فتكوِّن ذاته وتكون هو... وتتحدد بخطه الفكري وجملة مبادئه ومشاعره ومعارفه واحتكاكه بالبيئة وموقفه من العالم. ومن دون افتعال... ذات الواحد منا تحتمل الانتهازي والحرامي والبنت التي تقف عند المحطة. لذلك لا أرى مبرراً للبحث عن اللون المناسب خارج الذات. حجم التجربة، تجربتك انتِ هل يؤهل لهذا؟ - تجربتي محدودة، وستبقى كذلك... لكن لا مانع من محاولة الاكتساب... إنه امر صعب ان احقق ذلك، لكنه ممكن التحقق عبر اكتساب الثقافة والعناية بالخبرات الخاصة مهما كانت ضئيلة والتعامل مع خبرات خارجية وتغذية الذات ذهنياً، والجسد بتربيته على الاستجابة التلقائية للخيالات وما ينتجه الذهن عموماً... إن ذلك على ما أتصور، يعطي المرء فرصة معقولة لتجاوز إشكاليات العثور على هذا اللون المناسب والإمساك بخيوط الشخصية المسرحية من دون افتعال. اذا كان الأمر كذلك لنتحدث عن دورك في "الأبواب المقفلة" بوصف ذلك مثالاً... - لكي أقوم بالدور، ولا علم لي كم نجحت في ذلك، قرأت كثيراً في موضوع تلك المرأة غير المتوقعة في مجتمع مثل مجتمعنا وتابعته في عروض افلام وأحاديث لأنه كان لزاماً علي ان أعرف، فراقبت تحركات وحركات هذا النوع من النساء... لكن لم ألتق امرأة واحدة تحدثني عن تجربتها في شكل مباشر بسبب ضغط اوضاعها الاجتماعية ولم أتوقف. عثرت على هذا اللون في داخلي، إنما متأخراً... أي انني انسقت الى تأمل ومتابعة حركات جاذبة في مناطق محددة من جسد المرأة المقابلة ولا أستطيع هنا إلا ان أتوقف، وما يمكنني قوله انني كرهت الرجل حقاً وأحببت المرأة، وعن قناعة وليس تقمصاً، كنت جادة، أقطع اي محاولة للارتباط بين الرجل والمرأة على الخشبة. وإذا نظرت الآن عن بُعد الى ما حدث أرى أنه لم يكن بسبب الاحتكاك المعرفي بوضع نسوي معقد أو بسبب الخط الدرامي للفعل المسرحي للشخصية في العمل بل انها ايضاً أعطتني مجالاً لاختبار هذا اللون في داخلي... فالحجم حقاً هو الآخر بحسب العبارة السارترية. يختلف ممثل جان بول سارتر عن سواه... الدائرة عند سارتر يستطيع المرء ان يرسمها لكنها دائرة عبثية بمعنى ما، فكل شخصية فيها شديدة التمسك بقطيعة مع الشخصيات الأخرى. وعلى رغم كل ما حدث في هذه التجربة المسرحية لم أشعر أنها أضافت جديداً الى رانيا... وفضيلتها انها مسحت غباراً عما وصلت إليه الممثلة التي فيّ خلال الأربع سنوات الماضية من العمل... هي مسألة تتعلق بالنظر الى كفاية ادوات الممثلة... ما هو الجديد؟ لا أعرف. اتمنى ان المستقبل يحمل اكثر فأتقدم وأبني فلا أهدم. في ضوء ما قلتِ... من هو الممثل؟ - ربما انه انسان صادق في فعله، حركة ولفظاً، على الخشبة... أتمنى دائماً ان أتوصل الى الشخصية بصدق وأقدمها صادقة وبأقل قدر ممكن من الافتعال... بصراحة اخاف دائماً أن أكون كاذبة من دون ان أعرف. إن الصدق هو مسألة نسبية لجهة وجودها في الإنسان... غير ان وعي الممثل لضرورة النزاهة وتوافر قدر ضروري من الصدق يدفعانه الى الإضافة الى حال الصدق التي في داخله. وأقصد داخله الاجتماعي في الظاهر والباطن... إنها تجربة تضيف الى الإنسان أو الى الشخص مثلما تأخذ منه لتعطي الشخصية المسرحية. ماذا ايضاً عن التقاط الممثل للمفارقات المسرحية من "الشارع" وعلاقته بذلك الصدق؟ - هنا الأمر يختلف قليلاً، فالممثل تعمل حواسه الخمس بتوازٍ مع وعيه... يبدأ، للوصول الى ذلك الصدق في التعبير عن الشخصية على الخشبة وأمام جمهور، بالتأثر أو الانفعال بمشهد واقعي او خارجي فيه مفارقة في الموقف او الحركة مثلما تذكر، فيخلص ذلك الانفعال من اسبابه ثم يحدد شكلاً من اشكال محتملة لشخصية مقموعة أو خائفة، وعندما يأتي الدور المناسب يكون ذاب في اللون، في داخله، فيستخرجه ويبدأ بتطويره في فضاء جماعي فيه تفاعل شخصيات غير منقطع. المسألة معقدة في تقديري... ربما لأن الإحساس نفسه بالحال المسرحية شديد التأثر بتجارب مختلفة يمر بها الموقف جمالياً وغير ذلك بكل ما يتضمنه الموقف وما يؤثر فيه مما يكتسبه المرء عبر الحواس. هذا إحساسي كله في ما يتعلق بالصدق وربما يكون صائباً أو أقرب إلى الصواب وربما لا... واختبار هذه المسألة ومصفاتها الدائمة هي التجربة المخيفة والاحتكاك وكل ما من شأنه ان يؤدي الى صقل رانيا الشخص وشخصية الممثلة التي فيها. مسرحية "من تراب وأرجوان" تبدو علامة فارقة بالنسبة إليك... - كنت أعرف أن لدي إمكانات جسدية، ربما كافية، لتقديم دور فيه مجهود حركي. لكنني كنت اجهل الطريقة. وتحقق ذلك في "من تراب وأرجوان"، كان الاشتغال مع الممثلة التونسية الكبيرة رجاء بن عمار على استخراج كل طاقة كامنة في جسد الممثل بكل ما يعنيه ذلك من كتابة نص جسدي موازٍ للنص المكتوب او الملفوظ. كانت تلك نقطة الانطلاق الى التجسيد... وكان ذلك ما أبحث عنه حقاً. لقد خضنا تمارين اساسية انتقلنا منها الى التشخيص الحي للشخصية بمفردها كي تأخذ طابعها الخاص وموقعها في العمل بالنسبة الى كل عناصره، بما في ذلك موقعها من الشخصيات الأخرى... ان هذا الأسلوب مختلف عما يحدث في مسرحنا هنا في الأردن. ان الممثل وفقاً لهذا الأسلوب يبدأ من الحركة المحض ثم ينتقل الى علاقتها بالشخصية، حيث تصبح الحركة نابعة من داخل الشخصية ومن الإحساس نفسه... عبر هذا الأسلوب امكن لي ان اجسد شخصية ابنة النقاش التي تتعرض للاغتصاب، والتي على الممثلة ان تختزل فيها مدينة مقدسة تتعرض للاغتصاب وليس فقط ولادة شكل تجسيد الشخصية على الخشبة. ثم ان العمل المسرحي كان بصحبة ممثلين فلسطينيين من خلفيات مختلفة... صُهرنا جميعاً في بوتقة واحدة ومن هنا دخلنا الى المكان... كان ذلك في فلسطين التي كنت اكتشفها وأعيش ما يعيش الفلسطيني في يومه تحت الاحتلال... وتفاجأنا عندما اكتشفنا ان المخرجة سوسن دروزة تستثمر فينا ما يتركه المشهد من حولنا من آثار ليخدم طبيعة كل شخصية، بل وظفت ذلك في المشهد المسرحي، حتى اننا لم نكن نعلم بما تخطط لنا. إذ أخبرتنا اننا ذاهبون الى هناك والنية عُقدت على الاشتراك في ورشة مسرحية مع فرقة مسرح عشتار التي تديرها الممثلة والمخرجة ايمان عون ولم يكن في علم احدنا اننا هناك للاشتراك في عمل مسرحي. ماذا تقولين لو طلبت إليك ان تتحدثي اكثر كما لو أنك تتحدثين الى رانيا الحارثي؟ - من شدة التصاقه بي صار هذا العمل جزءاً أفتقده في حياتي اليومية وتحديداً عندما أستغرق في عملي خارجه، بل خارج المسرح... صار شبيهاً بالفنجان الصباحي المبكر وبأشياء اخرى لها الالفة التي يجعلها الغياب مفتقدة، صار لها مطرح في قلبي... إننا نلتقي معاً في مكان ما فتضيف إليّ دائماً وأضيف إليها في جو من الاختبار والأسئلة بكل ما يشتمله ذلك من انفعالات وتوترات ومشاعر ملونة... هكذا المسرح: تجربة لا تصلح للنسيان أو الموت. ذكرت انك عندما كنت في فلسطين كنت تكتشفينها... في اي معنى حدث ذلك؟ - أولاً، ولدت من ام روسية وأقمت في بلادها فترة من الوقت بحكم اقامة العائلة التي تمتعت بوضع اقتصادي/ اجتماعي وثقافي معقول... ولأمي علاقة قوية في تنشئتي من دون تعقيدات الظرف الذي عادة ما تحيط بأي فلسطيني... الفلسطيني كإنسان... كنت أُنادى أو أُسأل: فلسطينية؟ فأجيب: نعم. لكن الإحساس بجغرافيا تاريخية محددة لم يكن يعني شيئاً بالنسبة إلي فهو صفة، وظل ذلك الإحساس مجهولاً ربما لأنني ولدت هنا وليس هناك. ان تهبط بقدميك على تلك الأرض فالأمر يختلف... لكن حقيقة فاجأني شيء، كان ضائعاً لم أكن أبحث عنه، إذ اخذ مكانه الصحيح في المطرح الفارغ... حدث ذلك قبل الانتفاضة وما أفرزته من تعقيدات ووقائع جديدة تجاه احساسنا بفلسطين. كان المكان غائباً وغير موجود على الإطلاق، في ذاكرتي... الآن اختلف الوضع، بل ان أستقر هناك وأعمل كممثلة، سؤال مطروح بيني وبيني إن اتيحت فرصة الإقامة هناك كي أخفف من وطأة ان أقول العودة الى وطن منقوص وما يثيره هذا من حنين. رجعت من هناك بالقدس القديمة... برائحتها ونكهتها. عرفت لماذا يتمسك بها أعداؤنا الى هذا الحد خارج كل الدعاوى الدينية او تهافتهابالنسبة لما لديهم... فعندما تدخل إليها من اي جهة تجد انها السحر بعينه وليست القادرة على خلقه... اصالة وانشداد الى الأرض لكن في تطلع الى السماء... الحجارة تكلمك وتتعرف إليك... كل حجر من فرط ما هو عتيق وينبض له قصة... وكل قصة هي غير مفتعلة... ثمة حياة ترفعك الى الأعلى... طاقة غريبة يبثها فيك المكان... علاقة النور بالظلال... الشمس كأنها دائماً حاضرة، كأنها دائماً غائبة... مشهد القباب... الآن لديّ ذاكرة. تراهم اولئك الذين اخذوها عنوة، مع ذاتك تشعر، انك المُقتلع من هنا، أن جزءاً فيك يتعرض للاغتصاب. تشعر انهم ليسوا من هنا... تبكي أو لا تمثل... تمثل أو لا تبكي. كل شيء اختلف. كل شيء اختلف.