ينتقل المخرج جواد الأسدي من مدينة الى مدينة مقدّماً عروضه هنا وهناك وهنالك، متعاوناً كلّ مرة مع ممثلين مختلفين. وجواد الأسدي هو من المخرجين العرب البارزين وقد استطاع خلال سنوات من البحث والاختبار ان يجد لغته الخاصة وفضاءه الخاص المفعم بالعلامات والرموز والمفاهيم. وعرف أكثر بصرامته وقسوته سواء في عمله على الممثل أم في بناء عالمه المسرحي القائم على العمق الداخلي وعلى الحالات الوجدانية والنفسية. جواد الأسدي المنفيّ دائماً والقلق دائماً لا على مصيره الشخصي وإنما على مصير المسرح يتحدث هنا كعادته، بجرأة وحدّة: لماذا يستعيد جواد الأسدي اليوم أعماله القديمة. فالامس عُرضت مسرحية "الاغتصاب" على خشبة مسرح بيروت وكذلك "تقاسيم على العنبر" في مهرجان جرش، هل يعني ذلك ان لا جديد عند جواد الاسدي حتى يستعين بقديمه؟ - يتطلب العمل المسرحي عادة الكثير من الجهد والتعب والبحث المضني. لذا من الصعب ان نرمي به الى النسيان بعد عرضين أو ثلاثة في دولة أو اثنتين. في الحالة الاوروبية مثلاً، يستمر العرض المسرحي سنوات طويلة يتنقل العمل خلالها بين مكان وآخر. اما في العالم العربي فنلحظ ان العمل المسرحي يُقطع جسده ويُرمى. والسبب برأيي يعود الى عدم وجود خطة أو سياق في العمل المسرحي. وأتحدث عن نفسي على سبيل المثال. فأنا ليس لديّ فرقة مسرحية ولست محمياً من مؤسسة ثقافية رسمية. وليس عندي من يسوّق العرض ويعطيه المدى الواسع لحركته. لذا يتحوّل العمل الى شكل من أشكال المصادفات. "الاغتصاب" و"تقاسيم على العنبر" لم تعرضا الا في القاهرة وفي تونس وفي بيروت. علماً انني عملت على كل واحدة منهما ما يزيد على عشرة اشهر، بمعدل عشر ساعات في اليوم الواحد. لذا أشعر بالحسرة والمرارة تجاه هذين العملين. ولم تكن فكرة اعادة عرضهما الا من اجل استعادة الاحساس بالعمل. عدا ذلك، تزامن عرض "الاغتصاب" مع ذكرى مرور خمسين سنة على النكبة. وهو راهني بطبيعته. ويحمل الكثير من الدلالات على الحالة السياسية المتأزمة في العالم العربي. لذا، اعتبر ان "الاغتصاب" مسرحية حيّة الى ان يثبت العكس. لماذا اخترت اعادة عرض "تقاسيم على العنبر" في مهرجانات جرش المعروف بطابعه الشعبي؟ - مهرجان جرش في طبيعته موسيقيّ وغنائي وفني. غير ان القيمين عليه اعتادوا ان يستضيفوا كل سنة عروضاً مسرحية. وسبق ان استقبل أعمالاً شكسبيرية مثل "حلم ليلة صيف" و"ريتشارد الثالث". الهاجس المسرحي اذن موجود في جرش. واعتقد ان من الضروري جداً ان يخرق المسرح عموماً هذه الجماهير التي تبحث عن التسلية والترفيه ويقدّم لها أعمالاً جدية. تحدثت عن سياق مسرحي مفقود في المسرح العربي عموماً وعند جواد الأسدي خصوصاً الى أي مدى أثرت الهجرة المستمرة على سياقك المسرحي؟ ولماذا هذا التفكك على المستوى العربي؟ - الهجرة في الأمكنة لها مذاقان. قد تكون ايجابية جداً لجهة خلقها تنوّعاً استثنائياً في حياة الشخص. ولكنها في الوقت نفسه، ممكن ان توصل الشخص الى شيء مضاد مع نفسه. اذ عندما يريد المسرحي ان يرسخ تجربته ويصنع لها تاريخاً وذاكرة لا بدّ ان يملك مكاناً وان يكون موجوداً في وطنه. عدا ذلك يُصبح متبعثراً ويقع في جملة ارتباكات وعثرات. في المسرح العربي مثلاً، لا توجد فرق طليعية في المعنى الحقيقي للكلمة، لان المسرحيين يعملون على المصادفة أو المبادرة التي تأتي من خارج المؤسسات التي لا تبتغي اتباع خطة منهجية للعمل الابداعي. ذلك ان المؤسسات الرسمية ليس لها علاقة بالمعرفة والدولة كمؤسسة رسمية والمعرفة شيئان متناقضان. ولعل التونسيين هم الوحيدون الذين يشذون عن هذه القاعدة لان وزارة الثقافة عندهم تحوّل الفنان بشكل فعلي. لذا نرى فرقاً مسرحية حقيقية في تونس. عدا ذلك يحكى القول ان هناك نوعاً من التفكك داخل بنية العمل المسرحي العربي. باستثناء عدد من المخرجين الذين يلحون على فكرة العمل المسرحي. أنت واحد منهم؟ - أنا واحد منهم. وأنا أكثرهم اصراراً وتبعثراً. أشعر بالألم والحسرة لعدم امتلاكي مكاناً وفرقة ومنصة أعمل عليها بشكل دائم: ان الذين عملوا معي في "الاغتصاب" وفي "تقاسيم على العنبر" نفس الفريق هم بالنسبة لي الممثلون النموذجيون الذين يحفرون عميقاً في ماهية التمثيل والعرض المسرحي والبحث عن نص طليعي وعن إمكانات سينوغرافية. الا ان هؤلاء وللاسباب التي ذكرناها يبحثون عن رزقهم اليومي ولهم طموحات ورغبات خاصة مما أدى الى تفكك الفريق الذي كان يمكن ان يشكل نواة فرقة مسرحية مهمة جداً. اذ انهم ممثلون من الطراز الاول. وهنا نطرح السؤال، كيف يراكم المخرج تجربته المسرحية؟ ومن هو المسؤول عن هذا الانهيار داخل التجارب العربية؟ والى أي مدى سيستمر كل من هو مسكون بالهاجس المسرحي في البحث عن طريق لعمله؟ تلك مشكلة نعتبرها استثنائية الاهمية في وقت ان الانتاج تتوالى مسؤوليته مؤسسات وشركات عفنة لا تموّل سوى السفاهات والمراسم السياحية ولا تعطي بالتالي أولية للمعرفة أو الثقافة. المسارح كلها مهدمة. ليست في بيروت فحسب بل في كل العالم العربي. وعلى المسرحي في ظل هذه الظروف المتعثرة ان يتحوّل الى كائن أبدي يحفر في الذات الفردية والجماعية بهدف انشاء مسرح يتحول يوم بعد يوم الى شواذ في البنية العامة. ومن هنا يأتي الاحساس بالعبث المريع. كأننا نتحوّل داخل اعمالنا المسرحية الى شخصيات تشبه ابطال "بيكيت" أو "يونسكو"، شخصيات عدمية وعبثية آيلة الى الهلاك ولكنها تحتفل بعدميتها وجنونها ونشازها. أعتقد تلك هي المشكلة في مجتمع ليس لديه أي احتفاء بالمسرح في وقت يجهد مسرحيون لان يثبتوا فكرة المسرح. ذاك هو التناقض الفظيع. لماذا اختار جواد الاسدي ان يلعب دور الكاتب المسرحي بعد ان عرفه الجمهور مخرجاً ناجحاً. ألا ترى في ذلك مغامرة دفعت ثمنها في "المصطبة" التي لم ير فيها الجمهور ما اعتاد ان يشاهده عند جواد الأسدي؟ - ان الادمان على الثوابت يُنهك الاحساس ويُجهد الروح. لذا، لا بد من تكسير هذه الثوابت والخروج الى نغمة اخرى. تلك مسألة مهمة في حياتي الشخصية. أنا أعمل مثلاً بشكل دائم على جان جينه وتشيخوف وسعدالله ونوس. ولكني أملك الحق الشخصي في ان أفتح مسودّتي أو اقرأ في كتابي الخاص، ان اكتب خطابي وأؤسس مونولوغي، ان انبش الحريق الفعلي في داخلي، ان أعود الى تاريخي المتشظي وأضعه على الورق. هناك من يحب العمل وهناك من يعتبره مجرد ذاكرة. وهذا هو الخلاف الذي حصل على المصطبة. اذ ان الجمهور قد اعتاد ان يسمع في جواد الأسدي جملة موسيقية محددة، ومثيرة اساسها التركيز على العمل البصري المبني على العنف والشراسة، والممازجة بين "أرثو" وتشيرغوف". فوجئوا في "المصطبة" انني أقول لهم كفى: اسمعوا النص. أو أرجوكم حاولوا قليلاً ان تفهموا وجعي الشخصي بعد عشرين عاماً من العمل المسرحي. منهم من يمتلك رحابة الصدر لاستقبال هذا النوع من النصوص التي تعود الى الحنين ومنهم من لا يحبذها. ولكن "المصطبة" كانت ضرورية جداً بالنسبة اليّ كشخص. لقد افتقدت العراق مدة خمسة وعشرين عاماً ولا أستطيع ان أراه نهائياً أو ان افتح بابه. كنت أفكر دائماً "كيف أحمل العراق اليَّ أو أضعه على الخشبة. كان همي ان أنسج هذا الواقع وأضعه في سياق ادائى المسرحي. واعتقد ان كثيرين هم الذين تقبلوا الفكرة بكل طيبة خاطر. في الكواليس مثلاً. كانت اعداد كبيرة من الجمهور تأتينا لتتحدث عن عشقها للنص. في حين ان آخرين اعتبروا ان الاخراج كان أهم من النص. وهذا انقسام صحي وأراه ضرورياً بالنسبة لعملي. في المغرب، أعدت تقديم "المصطبة" ولم يرافقني في هذا العمل سو الممثل الذي لعب دور العراقي. اما الممثلون الآخرون فكانوا جميعهم مغاربة وتضاعف عددهم حتى تجاوز العشرين شخصاً. اذ اني عملت نقداً شرساً "للمصطبة" لجهة النص ولم يبق منه سوى ست صفحات وتحوّل العمل الى عرض بصري من الطراز الرفيع. أنا أفكر واسمع وأرى وعندي تراكمات نقدية تدميرية. أقدّم شكلاً معيناً ولكني أسعى الى تحطيمه وأذهب الى شكل آخر حين أعيد تقديم العمل نفسه. وهذا يعني انني لا أمجد الثوابت أو النص أو الاخراج. بل أحيل عملي الى الفرن واستخدمه كوقود لتأسيس بنية ثانية. أنا لا أخاف من ان أتعثر أو أضعف أو أخاف من فورتي. اذ ان العروض المميزة نفسها التي يُجمع النقاد على اهميتها أهدمها وأعيد بناءها. المسرح اذن ساحة حرب مفتوحة نصاً واخراجاً وتمثيلاً؟ - أنا أعمل على هذه الحقيقة. وأكشف النصوص المفتوحة. وعلى اي حال تلك ليست تجربتي الكتابية الاولى اذ سبق ان قدمت عملاً تحت عنوان "خيوط من فضة". وقد كتبت النص الذي تحدث عن فلسطين ونالت المسرحية الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج في تونس. عندي هوى للكتابة. ولكني لا اعتبرها ثقلي الرئيسي بل يقظة مشبوهة... يبدو واضحاً من خلال اعمالك المسرحية، ان الممثل هو الركيزة الاساسية التي على أساها يقوم عملك. كيف تختار الممثلين وانت مضطر لذلك بشكل شبه دائم وخصوصاً انك لا تملك فرقة مسرحية؟ - انا اصطاد الممثلين بناء على غرائز ما أو حساسية معينة. ولعل التجربة لها الاثر الفعلي في المساهمة في حسن اختيار الممثلين. في "المصطبة" مثلاً تعذبت كثيراً قبل ان أقع على الممثل المناسب للعب دور العراقي. علماً ان الممثلين اللبنانيين الذين التقيتهم كانوا ممتازين. غير انني كنت اكتشف اثناء التمارين الاولى ان الذاكرة العراقية لا يمكن ان يجسدها سوى عراقي. هناك النكهة العراقية والغبار البلدي الذي ينعكس تلقائياً في الصوت والجسد والروح.. وتلك حالة تحتاج الى عراقي لتأديتها وليس الى ممثل آخر مهما كان اداؤه مميزاً. أقول دائماً للممثلين الذين أتعاطى معهم: "اعطوني مدة عشرة ايام إما ان نتفق وإما ان نخرج من اي ارتباط. خلال هذه الفترة استطيع ان اكتشف الممثل في أدق تفاصيله. اذ اني قبل ان أجزم في اسناد الدور لهذا الممثل او ذاك، اجلس معه، أحاوره، أصادقه أجعله قريباً مني. وأحاول ان اعرف كيف يفكر في المسرح. هل يشكل حالة عشق بالنسبة له أم انه مجرد مسألة عابرة وهامشية؟ والاهم بالنسبة لي ان يمتلك الممثل حباً روحياً وجسدياً للمسرح، وان يكون مستعداً لخوض التجربة. ذلك ان عملي قاسٍ فعلاً على المستوى الزمني. وهذا يحتاج الى اشخاص مشرعين ومهيأين كأجساد وأرواح لخوض غمار التجربة. واذا كان الممثل لا يملك كل هذه العدة والغذاء فهو لا يستطيع ان يتقدم خطوة واحدة الى الأمام. أنا ألقي الممثل في جحيم حقيقية. اذ تستمر التمارين يومياً ما لا يقل عن خمس عشرة ساعة متواصلة. ولا ننتهي الا حين نشعر ان الوهن يكاد يقتلنا. وبعد ان تنتهي التمارين يستمر المسرح في لقاءاتنا الهامشية في أحاديثنا وفي جلساتنا الخاصة. هكذا يصبح المسرح معشوقاً حقيقياً وفعلياً... ولكن تلك مشقة مزدوجة. اذ انك تضطر لان تبدأ دائماً من الصفر، اي ان تبدأ في البحث عن الممثل ثم التعرّف اليه، الى ان تتوصلا الى تفاهم... - ربما كانت تلك متعة العمل بالنسبة لي. أرى نفسي أشبه بالكهنة المقتلعين من كنائسهم الذين يبحثون عن نشيد ثانٍ في مكان آخر. وهذا ما يجعلني أشعر ان عملي رسولي وانه لا بد ان تنبت تجربتي في أمكنة مختلفة. و لكن هذا لا ينفي انني احتاج دائماً الى مؤسسة تحميني والى انتاج وفرقة وخشبة أعرف من خلالها أعمالي.. احتاج الى كل هذا... يلاحظ ان اعمال جواد الاسدي تتميّز بقساوة وعنفٍ واضحين. ما سبب ذلك؟ - المسرح هو مكان لاعادة تكوين الاحلام، ونسج القصائد، وكتابة النصوص الكبيرة. انه حفر في الآلام الكبرى. وحتى نصنع مسرحاً فيه كل هذا النسيج، لا بد من ان يكون لدى المخرج قاموسه الشخصي ومفرداته الخاصة التي تساهم في تأسيس هذا المناخ. ربما لتربيتي دور كبير في هذا الموضوع. فأنا ابن كربلاء وآتٍ من تجربة متشظية ومتفجرة ومحترقة. ومن المؤكد ان تلك تجربة طبعت شخصيتي وبالتالي أعمالي المسرحية. عذا ذلك، هناك الاحساس بأن العالم ينهار ويكاد ينهزم. وهمّي هو كيف نوقظ هذا العالم على الخشبة. تلك عوامل مجتمعة تدفعني باتجاه آلية مختلفة في الاداء المسرحي. وهي تبتعد عن الاسترخاء أو الطرب والغنائية أو الاحساس بالتخمة... لا بد ان يشعر المخرج انه امام مسؤولية تاريخية في عمله المسرحي وان يكشف آلام الآخرين ويسلط الضوء على الكيمياء المتفجر داخل الانسان. تقول انك عربي من الطراز الاول. ولكن ليس في مسرحك ما يبهر بصرياً بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل هناك فضاء يملأه ممثلون! - هناك مخرجون يفسدون حضور الممثل على الخشبة من خلال العناية بالبهرجة العامة والاعتناء المبالغ به بالاضاءة... هذا يعنيني كمخرج بدرجة من الدرجات. ولكن المسرح بالنسبة لي هو الانسان وبالتالي النص. ولان الانسان اساسي في عملي، لا بد اذن ان يحضر بقوة. العمل على الخشبة يختلف كثيراً عن الحياة اليومية حيث الانسان مهمش. ولما كانت الخشبة مختلفة تماماً عن الحياة. وهي اكثر ارتقاءاً وخطورة ورحابة. والمنصة مختزلة ومكثفة. لا بد عندها ان يكون حضور الممثل مكثفاً ومختزلاً الى حد وضعه على حافة الخطورة في الاداء. تلك هي نقطة الانطلاق في عملي. أنا أرى ان الممثل على الخشبة يؤدي خطاباً آخر ومختلفاً. لذا لا بد ان نحفر في داخله وندفعه الى منصة اخرى في الاداء منافية كلياً لما هو عادي ومكرّر. هكذا يصبح الممثل العمود المركزي الذي يقوم عليه العمل المسرحي.