حالما هدأ ضجيج الرصاص وتخلصت البناية من سحب الدخان والغبار، عرفت انني لن أراه بعد اليوم. كنت مستعداً للشهادة على أنه لم يرتكب القتل في عمليات السرقة التي قام بها، معرضاً نفسي للعقوبة، لكنه رفض تسليم نفسه، لأنه خبِرَ عذاب النوم خلف القضبان. الآن أصيح به: "إقفز! إقفز الى الشرفة المواجهة" وبدل أن يقفز، ضربت يده الفراغ أمام وجهه بحركة ضجرة، ثم استدار ليختفي في البناية، والصمت المخيف الذي هلل لاستسلامه. خمس أذرع، إن لم يكن أقل، بينه وبين الإفلات من قبضة الشرطة التي ملأت البناية وما حولها بأزيز الرصاص، إلا أنه ظل يسند كتفه الى عارضة الباب يحمي بها رأسه، وعيناه تنتقلان بيني وبين الهدف الذي أشير اليه، وبدل أن يفعل، وأنا أصيح: "اقفز!" نفض يده من كل النداءات التي يزعق بها البشر، وانصاع لأوامر قلبه الأخيرة. سوف نقول، بإمكانه الآن أن يكتب القصيدة التي كان يرغب في كتابتها، لأنه لن يضطر الى سرقة الأشياء التافهة للحصول على وجبته اليومية، وأصبح كل الوقت بين يديه، فيرتاح الجميع من الهم الذي رافق ظهوره، ونلوك ذكراه في أوقات الفراغ الذي يسود لقاءاتنا، الى أن يبتلعه النسيان. صحتُ به "اقفز" لكي أجنبه، بالفرار أو بالموت، الإهانة التي تمقتها طبيعته الغريبة، لأن الشرطة لا يؤدون واجبهم في الأحداث، إنما ينحازون الى غضبهم الداخلي وأحقادهم الغافية. في إحدى الجلسات التي تجمعنا على صخور الشاطئ، رفع رأسه عن قصاصة الجريدة التي بين يديه ليقول: "أريد أن أكتب قصيدة!" فضحك بعضنا، واكتفى الآخرون بالابتسام، إذ كنا جميعنا نحترف الكتابة، وهو وحده متورط في هموم أخرى لا نراها تناسب الشعر. لم يعلق بشيء، وبعد فترة خلع قميصه عن كتفيه العريضتين، ثم سرواله، وغطس في النهر. حين لمست الماء بأصابعي وجدته بارداً، صحت وراءه: "كيف الماء هناك؟". قال من بين الدوائر التي راحت ترتج وتتسع في شعلة الغروب: "دافئ. هل تريد أن تسبح؟". جاء من طرف بعيد في المدينة، الطرف المنشغل حتى الهلاك بعاداته ونيرانه وألغازه، مختاراً اسماً رقيقاً نعيم يتخفى به من حادث قتل غريب ارتكبه، ووجد الأمان في صحبتنا، إلا أنه لم يكتف بذلك، فقد بدت له الكتابة التي نتحدث عنها بلا انقطاع قريبة الى نفسه، ثم عرقلت صعوبة اللغة مشروعه، فظل بلا لسان يعبر به عن الجيشان الذي يأكل دواخله. "كنت أركض بكل قواي، وهو خلفي بخطوتين والمسدس بيده"، اعترفَ بعد أسابيع من لقائه بنا ليكون ماضيه مكشوفاً مثل حاضره. راح الآخر يلاحقه مثل قدر مسعور، ينادي وراءه: "اقتلني أو أقضي عليك!". هكذا يصف وضعه آنذاك، وعندما بدأت ساقاه تخذلانه، بينما تزداد أجنحة الموت اقتراباً من خلفية رأسه، مد يده الى جيب بنطلونه الخلفي ثم توقف، ومن دون أن يفهم مغزى التلاحم الذي ملأ الفراغ أمام عينيه، طعن أسفل العنق، وصعدت هشاشة اللحم والأوردة والغضاريف على امتداد ذراعه لتتجمع في قمة كتفه، وتكمن هناك الى آخر لحظة مقبلة في حياته. لم يوفر له الحزب محاكمة عادلة كما وعد، وحين فقد السلطة أمام الحزب المناوئ اشترك نعيم في خطة للهرب نفذها عدد من السجناء، فأصبح خارج الأسوار قبل يوم واحد من اقتحام اخوان القتيل السجن، لذبحه داخل الزنزانة. بعد أيام، حين يتناهى اليهم نبأ اعتقاه، يعودون الى السجن مع خناجرهم المعقوفة. لا نسمح بأعباء جديدة على الضمير، تكفينا الأعباء الحالية، أعباء اخترناها بعناية، لهذا السبب الصغير رفضنا باستعلاء فكرة المساهمة دورياً في توفير وجبة العشاء التي تدفعه الى السرقة. قلنا بلسان أعمى واحد، نرد به على صاحب الاقتراح، سوف نشجعه على التعطل، ثم همس كل منا داخل تجاويف منخاره: "إنه قاتل، في النهاية!". كان نعيم يستمتع بالكسل، خصوصاً عندما يكون بعيداً من الشوارع التي يكثر فيها الناس، حيث تعود التلفّت بفزع واضح أثناء السير. داخل الغرفة يتمدد على السرير لفترات طويلة، يدخن أو يقرأ، أو تشرد عيناه على السقف كأنها تتابع حركة الغيوم، وعندما يحل المساء يعكّر القلق مزاجه، فيروح ينتقل من زاوية الى اخرى، ثم يرتدي قميصه، يرتب شعره بعناية، يضع نظارتيه السوداوين ويخرج، ليغيب ساعتين قبل أن يلتحق بأماكن السهر التي نجتمع فيها. وجبة واحدة تكفيه طوال الليل والنهار التالي، ثم يظهر العرق البارد على جبهته ما ان ينطفئ الغروب، وعندما ينحني على طبق العشاء يأكل مثل الكواسر، لا تهنأ إلا بعد التهام آخر الأجزاء. "يمكنني أن أقتل مرة ثانية إذا وجدت نفسي مضطراً، لكن السرقة وحدها تؤذيني". قال لي يوماً ونحن ننتظر وصول الآخرين الى المقهى. لمجرد التفكير فيها ينتابه الضعف، ويشعر كأنه سينهار. في الثامنة من عمره امتدت يده الى علبة حلوى صغيرة ملفوفة بغلاف جميل مذهب الألوان، بينما انشغل البائع في تجهيز السجائر والكبريت التي طلبها والده، وحينما ابتعدا أظهر العلبة وهو يبتسم لوالده ابتسامة المنتصر، فتلقى لطمة عنيفة على أنفه، جعلته يرمي العلبة بكل قوة الى آخر الطريق. قال وأنظاره تبتعد عن وجهي ثم ترسو عليه، إن سحر الألوان هو الذي أغوى يده، ولم يكن يعرف ماذا بداخل العلبة، وعلى رغم ان والده لم يكن بالرجل الذي يملأ جيوبه بالحلوى قبل عودته الى البيت، الا أن ضربته جاءت قاسية، لينتقم بها من وجود الأولاد والبنات في حياته. الآن يضرب الألم والخوف امعاءه كلما ذكّره المساء بالطعام. يقاوم الجوع يومين، وأحياناً ثلاثة من غير ان يشكو، ثم يضعف، فيقصد دكاكين الملابس والمصاغات الرخيصة والعرق الشاحب يغطي جبهته، يمد يده المكهربة الى قطعة واحدة ثم يتخلص منها بسرعة، وبأي ثمن يكفي وجبة العشاء. قبلَنا، نحن أبناء الحي، تعلقت به فتاة متوسطة الجمال، جذبتها ملامحه الرجولية، ظاهر يده حركته الخفيفة، ووضوح نفسيته. ظهرت مثل شق بين الغيوم يعبر خلاله النور الى حياته القلقة. اعترف لها بماضيه، ووضعه الحالي، باستثناء وجبة الاثم اليومية، لكنه حدثها عن الشخص الذي آواه لعشرة أيام بناء على أوامر الحزب. صور لها، وهو لا يكف عن الابتسام، أنواع الكرم والود الذي أحاطه بهما هو وزوجته في الأيام الأولى، ثم انقلب يصب في أذنيه، مرة بمهمات خافتة ومرة بصوت مسموع، عبارات الضيق واللوم والتذمر، ولجأ في النهاية الى الأصوات الأكثر تعذيباً التي يهمس بها الليل لخيال شاب أمضى ثلاثة أعوام في السجن، حين جعل سريره الزوجي في الغرفة الملاصقة يهتز وترفس قوائمه الأرض حتى الساعات الأولى من الصباح. "في اليوم العاشر، خرجت من البيت بلا عودة" قال من دون أن تبارح الابتسامة شفتيه. عندما سألته الفتاة عما يدعو للابتسام في هذا التصرف الغريب، ردّ بضحكة قوية: "لأنني علمت في وقت لاحق انه قصد انكلترا ثلاث مرات، للعلاج من العجز الجنسي الذي أصابه في عمر مبكر". في دواخلنا، تمنينا أن تكون في سمائنا هذه الثغرة الصغيرة التي ينفد خلالها النور الدافئ، من دون الجانب الآخار، الأكثر قلقاً في حياة نعيم، مع ذلك أصبحت علاقته بالفتاة موضع تهكم، واستنكار أيضاً، في ثرثراتنا اليومية! بدأت أخبار السرقات تتردد بكثرة في الأسواق الشعبية، ولإثارة اهتمام الحكومة اضيفت اليها صور عدد من الجثث يشاهدها الباعة فجراً لدى التوجه الى دكاكينهم، فترسخت في الأذهان والنظارات السوداء، وتسريحة الشعر التي لا تتغير، تطوف بهما قامة مربوعة تنشر الفزع بين الناس، والضيق من الشائعات في دوائر الشرطة... كنت أقرأ في ضوء مصباح منضدة، وفي الزاوية المعتمة يرقد نعيم في فراش على الأرض، تعباً، يغرق في سرحات عميقة من النوم ثم يجفل، تهز بدنه صحوة سريعة، تخترق غفلته الآمنة بومضات من أحداث النهار، فيروح يتمتم بلغة النوم ويدفع بيد ضعيفة أشباحاً لا تكف عن التهويم أمام عينيه المغلقتين، ثم يهدأ ببطء، وبقية من عذاب، ليعاود الغرق في النسيان من جديد. - هل النور يقلق نومك؟ سألت بصوت خفيض، وكان قد انقلب ناحيتي فأفزع الضوء عينيه. لم يفهم السؤال الى أن عرفني، بعد أن تعرّف على المكان من حوله. قال: "لا..." وثبتَ كوعه علي المخدة ليرفع نصف جذعه، لأنه لم يستطع العودة الى وديانه السحيقة. - كيف يؤلف الانسان قصيدة؟ سأل بعد أن شاهدني أزيح الكتاب جانباً. دُهشتُ، انه ما زال يفكر في تلك الرغبة التي تعصي عليه، من دون أن تثنيه عذاباته الأخرى. قلت إن هذا يأتي لوحده، لكن يسبقه الكثير من القراءة والمران. قلت أيضاً: "يوماً ما ستكتب قصيدتك، لا شك لدي في هذا". سألته لماذا لا يجد حلاً لوضعه؟ قال: "كيف؟" اقترحت عليه الهرب الى بلد آخر، رد بحزن انه لا يجد من يساعده. أخيراً سألت إن كان فكر في تسليم نفسه، لإنهاء العقوبة! - أنت لا تعرف ماذا يعني السجن! قال بحزن أعمق، ليضيف. خصوصاً الآن! كان يعني الهرب الذي سيضاف الى عقوبته، والجثث التي وضعت على عاتقه نتيجة الشائعات. - لكنك تمرض، ولا يمكنك حتى دخول المستشفى للعلاج! - أعرف سبب مرضي، قال. لن يفيدني المستشفى. إنها السرقة. هل توجع السرقة روحه، بعد أن أصابت هواجسه بلوثة التفكير في القبضة الخشنة التي تلطم بعنف كلما امتدت يده الى الأشياء التي لا تخصه؟ - ليست تلك الذكرى، قال كأنه يرد على أفكاري. شيء آخر لن يصدقه العقل، أضاف وهو يبتسم. اعترفت لصديقتي بأنني أسرق لآكل، فلوت وجهها باشمئزاز غريب، ولم أرها من بعد. منذ ذلك اليوم أصبحت معدته ترتجف وتنغلق عن الطعام كلما وضع العشاء أمامه. لم تمض إلا أيام قلائل على ذلك الليل، حين سمعت الرصاص يلعلع في المنطقة، ويزداد دوياً كلما اقتربتُ من البيت، الى أن وصلت البناية. شرطي واحد لا غير وقف يبعد الأولاد والمارة عند المدخل، وكأن الأزيز ينقطع للحظة ثم ينهمر على دفعات، مخلفاً المزيد من الدخان في النوافذ والرعب في القلوب. هرعتُ الى سقف البناية الخلفية وبدأت أصيح "إقفز!". ناديت الى أن ظهر على باب الشرفة، مد رأسه من خلف العارضة ورآني، يا إلهي! كم بدت عيناه صغيرتين، مدورتين كعيني طير في وجه انسان. طلبتُ أن يقفز الى الشرفة المواجهة ليستطيع الهرب من الشارع الآخر، ودوي الرصاص يضاعف السمع في الآذان. ويصمّها خلال اللحظات التي يتوقف فيها عن الانطلاق، الا أنه فهم ندائي، ووقف من دون حراك، يفصل بيننا الخوف والصمم وبضع أذرع تربط الأمل بالهلاك. بان على وجهه، ثم انفلش بسرعة، تعبير بالارتياح من الإخاء الذي أطل في تلك اللحظات القصيرة، ثم قام بحركة كأنه ينفض بها يده من كل شيء، واستدار الى الداخل. مع اختفاء ظله من الباب، ارعدت البنادق في نَفَس واحد قصير، ثم هدأتْ. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.