الجو رمادي، الا من بقعة برتقالية، في الزاوية اليسرى، تعلن عن "خبر عاجل". أشباح وأجساد تخترق الشوارع ولمعان الكوفيات بألوانها البيضاء والحمراء. دخان هو ام ضباب؟ أم أنفاس المقاتلين الذين يلوحون ويلوحون؟ أهتزت أنفاسي وتراجع شهيقي وأنا أبحث عن جليس أو من أحدثه. كانت صورة المذيعات وهنّ يتابعن الصور المرتعشة من أيدي المصورين الشجعان، مخضبات الشفاه وعيونهن ثابتة على الكاميرات، تشعرني بأن ليس ثمة من يهتزُّ في هذه الدنيا غيري والذين يلوحون ويلوحون. كان أزيز الرصاص متقطعاً وصيحاتٌ تتفجر من أعماق الأسفلت، تغطي على السماء الرمادية، المغلفة بضباب الحزن. أعجبني، حدّ الأشتهاء، الجلوس أمام نار الإطارات المشتعلة واصطلي، أضمخ كفيّ بدخانها وأستنشق بشغف رائحة إحتراقها.... وبلمحةٍ كانت السماء تواجهني، عريضة، صافية، حارة. "خرج من الطائف واحتمى بحائط بستان لآل ثقيف. كان الدم ينزل من جبهته ويديه، وقدماه تجرحتا. كان ربيبه يهوّن عليه، وعيناه زائغتان غير مصدقتين، وهو يبتسم بوجه الفتى ويربت على رأسه ويأتيه عدّاس من بستان آل ثقيف بصحن فاكهة. يسأله ويتعرف عليه - إنك من نينوى، من بلد يونس النبي - يهتزّ الصحن في يد عدّاس ويتيقن من انه هو، ويتذكر تقاويم النجوم وكهنة الصحراء الذين يترقبون مطلع نجم جديد، ثم يراه ينزل مع ربيبه بأتجاه الشعب العميق.... كان جناحا طائر، أبيض، كبير، تهفهفان على الشعب، تغطيان الكون والسماء، وسُمع هاتف يهزُّ مكان الصخور القديمة هل أقلبها بطرف جنحي، كانت الدنيا صغيرة بعيني الربيب كأنه قادرٌ الآن على الإمساك بها كلها. لكن سانحة غشيت عينيه وهو يسمع صاحبه يقول لا.... قفزتُ من ذاكرتي وهتفت: الجناح الآن! لا بد من جناح طائر. وبدأت اتلعثم، وسقط الكتاب من يدي، لمّا ظهرت الشمس ثانية، أيقنت انها حزينة كأنها تواسيني، رجعت إلى الغرفة، فرأيت المساء رمادية، والأجساد تهرول، والدماء تظهر ناصعة على الجباه والأكتاف والبيارق التي تشهق كأنها أنفاس، والأرض المليئة بالحجارة ودخان إطارات السيارات.... كان الأفق دامياً، مبقعاً بشواهد رمادية، كأنها أعمدة دخان. ولمحت في نهايته خطّين أبيضين، كأنهما هلالان، يتقلبان على جنبيهما.... وفي غمرة حزني واهتياجي وصور التلفزيون وأزيز الرصاص، وشفاه المذيعات الملونة وعيونهن الثابتة كحجرات مصقولة، قفزن على صوت جناح. كانت حمامة بيضاء تحطُّ على عمود الشرفة، حمامة لاهية مستعجلة يطوّق رقبتها خطٍّ أزرق، يتيه بين صدرها وعنق الجناح، تتلفت، ثم نفشت جنحيها. ذهبت مسرعاً الى المطبخ لأحضر بعض فتات الخبز وأنا اتساءل: الحمام هنا رمادي اللون، فمن أين هذه الحمامة البيضاء؟ إنها فأل كبير! لمّا رجعت لم أجد الحمامة. ووجدت ذرقاً على عمود الشرفة. عند عتبات الموت وصوت الرصاص ولون الأرض الرمادي، من الحجارة والأقدام المتوترة، كدت أصرخ وأهتف بكل المرارة وكل الغضب الذي يغلي في دمي. لكني تمهلت وأنا ارى أحدهم يهتف في مقابلة تلفزيونية على الهواء مباشرة، ويعلن إن الحدود ملغية، ولحيته الطويلة البيضاء تهطل على صدره. لكنه لم يقل كلمة، بل تجشأ ومسح شفتيه الحمراوين، وابتسم للفتاة المذيعة. سمعتُ هدهدة جناح، لم ألتفت، وأنّبت مخيلتي ودخلت بين سطور الكتاب. وقفت قبالة صورة الرجل الذي يقود المرتحلين، عبر الشعب العميق. رأيت في الصورة لمعان نجمة من بعيد، أخفى سطوع لمعانها لون الحائط الأبيض الذي يرتحل معهم. نجمة صغيرة، كأنها زهرة وحيدة في برية شاسعة. لكن السماء غير موجودة في الصورة. قلت في نفسي: لماذا هذه النجمة بلا سماء؟ نظرت الى سماء الشرفة حيث العمارات الشاهقة، كانت الحمامة على ذراع عمود الشرفة، ترفع رجلها وتمدّ منقارها بين جنحيها، ثم تنفش ريشها وينتصب رأسها ينظر الى كل الجهات. كان فُتات الخبز متناثراً على الطاولة القريبة. أخذتُ بعضاً منه ودخلت باب الشرفة. لم تطرْ الحمامة. أدارت رأسها ناحية الشرق، وانتظرتْ. ثم نزلت بهدوء على أفريز الشرفة وباضت بيضة في حوض النخلة، بين السعفات الصغيرات التي نمت على جوانب الساق البني المغلّف بليف أصفر. كانت البيضة تلهث بألوانها وهي تتدحرج وتقف بين السعفات. لم أصدق، بل استحيت وتراجعت الى الوراء، إحتراماً للولادة. قالت: هذه بيضة لك، ستشاهدني بها أينما ذهبت. ثم تهيأت لتطير. قلت كمن أحدث مخاطباً عاقلاً: - قفي! قفي! وماذا سأعمل بها؟ إلتفتْ نحوي بعينين واسعتين، كأنهما عينا مذيعات التلفزيون: - لك، لترى... قلت بعد أن وضعت الكتاب على إفريز الشرفة: - وماذا أرى؟ طارت وحطّت على كتفي ثم همست بأذني: - سأذهب اليهم، وأوخز أعداءهم بجناحي، بهذه الريشة... أفردت جنحها فبان طرفه. نهاية سوداء كأنها سهم مسدد. قلب كمن يخاطب نفسه ويداي ترتخيان كأني مريض: - أنتِ؟ بهذا الجناح؟ بهذه الريشة؟ وتذكرت صفحة السماء والطائر الأبيض الكبير وجناحيه.... حاولت ان أشعل سيكارة، لكن ضوء النهار بدأ يقشر غلاف الطلام. رجعتُ إلى البيضة. كان المشهد واضحاً. الحمام في الوسط مكدس على بعضه كأنه علب مصفوفة، تقف على رأسه الحمامة ذات الريشات السود وهي تتلفت باستغراب وخوف. الجمع منشغل بالرقص والأهازيج والدفوف، وعلى طرقات الدفوف ذات الرنين طارت، وطار معها سربها الى القبة الذهبية. عندها توقف الكل صامتين، وأرتخت الأيادي، وانحنت الرؤوس، وسار الجمع وتفرقوا في الأزقة التي ما زال الظلام يخيّم عليها. صحتُ بالحمامة ذات النيشان الأسود. - أذهبي الى بيت الجمرة، فإن المرأة هناك ستعرفك. رأيت الحمامة تهزّ ذيلها وتحني ظهرها برأس متلفتة كأنها تتنصت. ثم طارت وطار معها السرب. أخذت سيكارة واشعلتها. كان الضوء قد قشَّر كلَّ قبة الظلام، وبانت السماء. وكانت يدي اليسرى قد تخدرت، والبيضة تصاغرت وأصبحت مثل حبة رمان عتيقة. رميت السيكارة، ونفختُ على أصابع يدي اليسرى، فسرعان ما اشتعلت البيضة كلها. رأيتُ الحمام على بيت من البلوك القديم، تتناثر أضواء شموع متفرقة في زوايا سطحه. رأيت الحمام يقف على قفص فيه حمام وطيور اخرى. أنفتح القفص، وخرجت الطيور الى الساحة التي يخفق عليها ضوء خافت من رؤوس الشموع. رأيت الحمامة تنشر جناحيها في ضوء الفجر الساهم وتطير، تحوّم وتحطّ على كتف فتاة صغيرة مذعورة، مفتوحة الفم، يابسة الشفتين، ذعرت وقفزت، لكنها أشتمت رائحة الريش الندي، فمدّت يدها وهدهدتْ الحمامة التي أحنت ظهرها وأفردت جنحيها. تلمست الفتاة كيس النايلون. نزعته بخفة من ابط الحمامة. وقرأته على ضوء مصباح الفجر. ضحكتْ وترطبتْ شفتاها الغليظتين. قالت بصوت أشبه بالهمس: - يا أمي، جاءنا جناح من السماء! لمّا أحتضنت الأم ابنتها من أزيز الرصاص الذي تطلقه طائرة رمادية في السماء الفضية، كانت الحمامات قد طارت. لم أنظر بعد ذلك. تدحرجت البيضة الى حوض النخلة. وعندما أشرقت الشمس وباتت خيوطها المشعة، كانت البيضة قد اختفت في أرض الحوض، وظهرت سعفة خضراء داكنة يشوب رأسها لون أصفر. كانت منتصبة كأنها حربة جاهزة. مددتُ أصبعي وتلمستها. كانت خشنة. أبقيتُ الحوض في الهواء الطلق وأمسكتُ بعمود الشرفة أنظر بسهوم الى أسلاك الترام ومكان الكروان الصادح الحزين... لا يبزيغ - علي جاسم