شهد "مهرجان البحرين العاشر للموسيقى" الذي اختتم الأسبوع الماضي سعياً حقيقياً ل"تأكيد الدور الحيوي للموسيقى وتلبية رغبة الجمهور البحريني وتوقه للتعرف والاطلاع على الموسيقى الراقية والفن الرفيع" بحسب الوكيل المساعد للمجلس الوطني للثقافة والتراث عبدالله يتيم. واحتفى الجمهور أولاً بالموروث البحريني مؤكداً على امتداد المكان وثقافته في أفقه العربي والخليجي بمشاركة فرق من الأردن والكويت ومصر، وعلى انفتاحه على تجارب أجنبية عبر عروض من الهند وتركيا والاتحاد الأوروبي. وعبر ابراز علامات رصينة في الموسيقى وتشجيعاً لعروض مخالفة للسائد من النغم، فإن المهرجان يصنف في مصاف التظاهرات الفنية العربية التي تهتم بالنغم الرفيع، وبذلك فهو يتجه الى عمل وحيوية ولا يكتفي بمجرد اعلان اليأس من الواقع الموسيقي العربي. ويوضح يتيم ل"الحياة" ان "المهرجان يلتقي فيه المبدعون والفنانون من دول العالم، لينعشوا روح التنوع، ويضفوا الحيوية والغنى، ويقدموا فناً متنوعاً، وأساليب متعددة في تقنيات العزف والاداء"، ويشير الى ان المهرجان قدم، منذ انطلاقته الأولى عام 1992 "الكثير من الموسيقيين البحرينيين للجمهور، وأتاح لهم فرصة الاحتكاك بموسيقيين محترفين، كما ثبت خطواتهم الأولى على طريق الاحتراف تسجيلاً وتوثيقاً، من أجل تهيئة الفنان البحريني، وتجسيد التفاعل الفني والحضاري من خلال الاتصال مع عازفين عالميين". وتأمل البحرين من خلال تطور مهرجانها الموسيقي بأن يصبح "واحداً من أهم الأنشطة الموسيقية على صعيد منطقة الخليج من حيث توفير المناخ الموسيقي الجاد". وكان المهرجان وعبر دوراته السابقة أرسى أسساً وتقاليد ثقافية رصينة، تمثلت في تكريم "أبناء البحرين المبدعين" الذين كان لهم سبق الريادة في الموسيقى والغناء والثقافة الموسيقية، ومنهم رواد الجيل الثاني للأغنية البحرينية: يوسف فوني، أحمد خالد، علي خالد وعبدالواحد عبدالله. كما كرم رائداً من رواد العمل الثقافي المتصل بالموسيقى في البحرين محمد حسن صنقور، والمؤلف الموسيقي البحريني مجيد مرهون وأول مؤسس لمعهد موسيقي في البحرين جاسم العمران. واستمراراً لنهجة كرم المهرجان في دورته لهذا العام الفنانين: أحمد الجميري، ابراهيم حبيب ومحمد علي عبدالله. أنغام موروثة ومعاصرة وقدمت "فرقة البحرين للموسيقى العربية" عرضاً تضمن معزوفات وأعمالاً غنائية من الموروثين البحريني والعربي فضلاً عن اشكال من الغناء العربي الحديث، أكدت فيه مهارة في العزف 18 موسيقياً والانشاد 14 منشداً ومنشدة الى جانب مهارات في العزف المنفرد لفيصل الكوهجي على العود وحسين أسيري على القانون والغناء المتقن لحسين الحمد ونجمة عبدالله. وقاد الفرقة التي تأسست عام 1997 المايسترو أحمد عبداللطيف بدر وهو من الأسماء المصرية المعروفة في مجال الموسيقى العربية. وجاءت اختياراته في عرض الفرقة، شاملة أشكال الموسيقى العربية: "اللونجا" و"المقطوعة الموسيقية" و"الموشح" والموروث الغنائي البحريني والخليجي: "عذبني المكحل" و"العود ليمن ترنم" و"يا ناعم العود"، كذلك الموروث الغنائي العربي: "يا مسافر وحدك" و"افرح يا قلبي" التي ادتها نجمة عبدالله و"حسدوني" التي أداها حسين الحمد. كما حضر الغناء البحريني الحديث عبر أغنية "توّه النهار" للمطرب أحمد الجميري. وكان أول ظهور ل"فرقة البحرين للموسيقى العربية" في عرض بعنوان "تجليات شرقية" في عام 1997، لتستمر عروضها حتى أصبحت الفرقة الممثلة لدولة البحرين في المحافل المحلية والدولية. وتأمل الفرقة في أن تتحول الى ورشة عمل دائبة، تختبر فيها قدرات العازفين والمغنين وفق أساليب سليمة في المعرفة والخبرة، ضمن هدف يجمع بين "اعادة صوغ اغاني التراث القديم وتقديم المواهب الواعدة في جميع المجالات الموسيقية العربية في خدمة حركة الثقافة والفنون في البحرين". وتميز عرض "أوركسترا المعهد الوطني الأردني للموسيقى" بقيادة المايسترو محمد عثمان صديق بأكثر من ملمح لافت، سواء لجهة الاتقان في العزف فردياً وجماعياً، أم في مقاربة أشكال موسيقية تمتد ما بين الموروثين الأردنيوالبحريني وصولاً الى شكل مبتكر مثلّه "كونشرتو الناي والأوركسترا" الذي كتبه صدّيق وعزفه بحساسية العازف الحاذق حسن الفقير. وفي العرض الموسيقي ذاته، رقّ صوت المطربة الأردنية قمر بدوان الجائزة الذهبية لمهرجان الأغنية في القاهرة 2000. وظهر أداؤها صافياً وهي تغني من الموروث الأردني "يا موالف الدار" لتوفيق النمري، مثلما ظهرت متمكنة من غناء القصيدة كما في "عدّ لي" التي لحنها وائل الشرقاوي. وجالت بدوان بين ألوان الغناء العربي، فغنت "إسأل عليّ" وأيقظت نغماً ايقاعياً بين صفوف الجمهور حين غنت من أغاني فيروز "عودك رنان" من ألحان زياد الرحباني لتطوف لاحقاً مع رقة صوت شادية وتعطي لأغنية "وحياة عينيك" رقة مضافة. تقديم الألوان الغنائية والموسيقية الشعبية هو ما انخرطت فيه "الفرقة الوطنية الكويتية للموسيقى" بقيادة أحمد حمدان الحربي، غير انها ادارت ظهرها لموروث لحني كويتي وخليجي ثري ليست بديلاً عنه بعض الأغنيات الكويتية المعاصرة، ومثل هذا الجانب التفتت اليه "فرقة محمد بن فارس" البحرينية حين عنيت في عرضها بقديم "فن الصوت"، وبحسب اداء أحد رموز هذا الفن الغنائي المعروف بحرينياً وخليجياً محمد بن فارس. وأدت الفرقة ألواناً مختلفة من الفنون التراثية وهي "الصوت" و"البستة" و"الخماري" وغيرها من الأغاني الشعبية. منيرة المهدية وسيد درويش وضمن هذا المدار الذي يعنى بالموروث النغمي والموسيقى جاء عرض "فرقة طرب زمان" الذي قدمه عدد من المطربين والمطربات واستعاد صورة الأغنيات الشعبية السائدة في مصر خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الفائت. ويحرص العرض الذي تشرف عليه الدكتورة رتيبة الحفني وتعمل على تقديمه في دورات مهرجان الموسيقى العربية في القاهرة، على استعادة، لا أسلوب الأداء الغنائي لمنيرة المهدية وصالح عبدالحي وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وحسب، وانما استعادة حتى الشكل المناسب لظهور المطربين والمطربات ولوازمهم في الأداء في استعراض لا يخلو من أشكال المسرح الغنائي. السورية ايمان باقي أدت بطريقة مسرحية أغنيات لمنيرة المهدية ورتيبة أحمد، بينما أدى باتقان المطرب محسن فاروق أغنيات سيد درويش وأدواره، وبرع أشرف العزب في استعادة صورة صالح عبدالحي في اغنيات من بينها "ليه يا بنفسخ". واستعادت ريهام عبدالكريم صورة أم كلثوم في بداياتها، والأمر ذاته تولاه وائل سامي في أدائه أغنيات لمحمد عبدالوهاب. وبعيداً عن الموروث البحريني والعربي جاء عرض "فرقة البحرين للفلامنكو" وفيه اقترح أربعة شبان يعزفون على الغتيار وبرفقة ضارب خبير على الايقاعات اللاتينية "مدخلاً بحرينياً" لموسيقى الفلامنكو. وتأكيداً لسعي محمد خليل محمد وصالح عيسى وعادل أدهم وعيسى خليل في الاتصال بموسيقى الفلامنكو، فانهم لم يتوقفوا عن عزف لامع في بعض نغماته ك"ما في عزف محمد خليل محمد وانما ذهبوا عميقاً الى كتابة أعمال خاصة بهم تحاكي مقطوعات أصلية كالتي كتبها باكوبينا وباكو دي لوثيا اللذان عزفت لهما الفرقة اثنين من أبرز اعمالهما "رومبا" و"زرياب". وفي حين جاءت معرفة العازفين الأربعة على الغيتار الكلاسيكي الهوائي عبر تعلم العزف من بعض الأصدقاء ومن خلال شرئط فيديو تعليمية إلاّ ان للفرقة حضورها وجمهورها بين متذوقي الموسيقى في البحرين. وجاء عرضا عازف العود التركي تاندوجان باشكورت وعازف البامبو فلوت الهندي جاجديش براساد فارمان، على درجة من الرتابة وأحادية الصوت، فلا عازف العود باشكورت عرّف بملامح المدرسة التركية في العود ولا فارمان قدّم غير المعروف عن النغم الهندي الخفيض. باخ على وقع الضربات الأميركية وتوافرت لجمهور المهرجان فرصة الاستماع لمنتخبات من الموسيقى "الكلاسيكية" الغربية عبر حفل ل"أوركسترا الاتحاد الأوروبي لموسيقى الصالة"، وبدأ الحفل مع أولى الضربات التي تعرضت لها أفغانستان، حين سرّب أحدهم خبر الغارات الى الجمهور لتسري همهمات بين الحضور ليبدو الجميع وكأن جمراً تحتهم. وبالصدفة جاءت سيمفونية باخ العميقة الرؤى المتوثبة في أنغامها العاصفة الحركة الأولى منها تحديداً بأكثر من مؤشر الى الألم. جاءت مع الصور التي تتركها في الذهن الضربات الجوية الأميركية التي باتت نمطية لفرط تكرارها. تنفس الجمهور الصعداء مع نهاية السيمفونية بحركاتها الأربع وتصاعد الحديث عن اتجاه الضربات الأميركية، ليغادر قليلون القاعة بينما كان المشهد مشوشاً مع بدء الأوركسترا في عزف "كونشرتو الكمان والأوركسترا" لموزار غير أن البراعة التي كانت عليها عازفة الكمان المنفرد اليزابيث ويبر جعلت الجمهور يخرج من اضطرابه ليعود مجدداً الى الموسيقى، ولتتألق العازفة في اكتشاف المكنونات الحية لموسيقى موزار وتقدمها بسلاسة وعذوبة وفصاحة نادرة. وكان حضور موسيقيين بحرينيين في عرض أوركسترا الاتحاد الأوروبي، له لمسته المؤثرة في شد الجمهور الى متابعة الحدث الموسيقي على رغم اندلاع حدث آخر أكثر اثارة، هو حدث بدء الغارات الأميركية على افغانستان، فكان ان اشترك العازفان احمد الغانم فلوت ومحمد خليل غيتار مع الأوركسترا في تقديم "كونشرتو الفلوت والغيتار والأوركسترا" للمؤلف فيفالدي، بينما كانت المشاركة البحرينية الأكثر تميزاً عبر مقطوعة عزفتها الأوركسترا وكتبها المؤلف الموسيقي عصام الجودر وحملت عنوان "رحابة الحزن" وهي مقطوعة مكتوبة بتمكن ضمن شكل الكتابة للأوركسترا السيمفونية، ولم يفقدها شكلها الغربي روحيتها التي جاءت شرقية حميمة قريبة من ايقاع بيئتها وملامح أهلها.