للوهلة الأولى، يمكن القول إن القرن الواحد والعشرين بدأ في نيويوركوواشنطن يوم 11 أيلول سبتمبر 2001، تماماً كما القرن العشرون، الذي بدأ هو الآخر في ساراييفو بتاريخ 28 حزيران يونيو 1914. الفارق الأساس بين المنعطفين، هو ان اميركا حلت محل أوروبا، في حين خلف انهيار أحلام مجتمع الانترنت غياب الزمن الغابر الجميل، وطغت مخاوف الحرب على أوهام السلام. فمع تدمير برجي مركز التجارة العالمية، رمز جبروت نظام العولمة التي تقودها أحادية التفكير الأميركي - كما شخَّص ذلك الكثر من المحللين الماليين والسياسيين الأميركيين قبل الأوروبيين، استطاع السوبر انتحاريون هز كل الأشكال التقليدية لمفهوم التعاون الدولي. فكان نتيجة ذلك أن خيَّم صمت مطبق على الأممالمتحدة. في المقابل، لاحظ المراقبون أن صندوق النقد والبنك الدوليين قد تبخرا فجأة، واكتفت هاتان المؤسستان الماليتان بإلغاء اجتماعاتها السنوية، علماً أنها استبقتا هذه العملية الارهابية بتقليص جداول الأعمال والزمن المخصص لهذه الدورة خوفاً من تظاهرات الاستنكار التي سينظمها مناهضو العولمة. أوروبا من ناحيتها، أصيبت بحال اغماء لا مثيل لها. فالتردد الواضح الذي ظهر ليس فقط في الساعات الأولى التي تلت الانفجارات، بل طوال الأسبوع الذي لحق، عكست حال التخبط التي تعيشها سياسياً واقتصادياً بسبب التبعية شبه المطلقة التي فرضها نظام العولمة وأدواته المالية للقوة الأكبر في العالم. لكن العامل الأهم الذي برز، تلخص بقيام النخبة التي تمكنت منذ سنوات بإقناع الإدارة الأميركية بضرورة التمسك بالشروط المتوحشة للعولمة حفاظاً على احادية السيطرة على الكرة الأرضية، الى مراجعة حساباتها، على الأقل من حيث أسلوب التعاطي في هذه المرحلة التي تحتاج فيها لتجميع الحلفاء سياسياً وعسكرياً ومخابراتياً، وأيضاً، منع اسواقها المالية من الانهيار الكبير الذي يذكر بكارثة 1929، خصوصاً ان العملية الارهابية جاءت في وقت دخل فيه الاقتصاد الأميركي دورة انكماش اقتصادي حاد. فبمواجهة عدو غير مرئي عملياً، باتت الدولة ودورها الذي جعل منها ومنه اقتصاد السوق وشروط العولمة حالات كاريكاتورية، بمثابة الملاذ الوحيد للإدارة الجمهورية وللقطاع الخاص لإخراج القوة الأعظم من النفق الأسود. ولم تعد العبارة التي استخدمها الرئيس السابق رونالد ريغان بناء على نصيحة صاحب "المدرسة النقدية المالية" ميلتون فريدمان سارية المفعول. فالقول: "ان الدولة ليست الحل الأمثل لمشكلاتنا، لأن الدولة هي بحد ذاتها المشكلة"، أصبح تشخيصاً مرفوضاً بالكامل. في السياق نفسه، لم تعد الغالبية من الشعب الأميركي تتقبل طروحات رئيس الأكثرية البرلمانية، الجمهوري ديك ارماي التي تقول إن: "السوق عقلانية، أما الدولة، فغبية". وتراجعت وسائل الإعلام النافذة التي كانت تعمل بالتوافق مع طبقة كبيرة داخل النظام السياسي طوال عقود، على اقناع الرأي العام بأن واشنطن غارقة في القمامة والفساد والرشوة في حين تتعاظم فاعلية القطاع الخاص الذي وحده هو القادر على ضمان معدلات مرتفعة للنمو وخلق فرص عمل جديدة باستمرار وانتظام. مما يعزز وضعية الولاياتالمتحدة في قيادتها للعالم المتحضر والمتخلف على السواء في ظل نظام العولمة. تقبلت الولاياتالمتحدة ولو بشيء من التردد العنفواني غير المعلن، وفي أقل من أسبوع ما سبق ورفضته طوال أكثر من عقد كامل تحت شعار عدم عرقلة مسار العولمة والمساس بجوهرها وبمبررات وجودها القائمة على ضرورة تحقيق تكافؤ الفرص وانتقال الرساميل وحريتها والابتعاد عن مراقبة تكنولوجيا المعلومات المرتبطة بها" علماً أن هذه الأخيرة ظهرت بقوة في الوقت الذي كان فيه كبار الاقتصاديين في الولاياتالمتحدة لا يزالون ينتقدون تدني مستويات الانتاج في البلاء ونشوء نخبة "الكليبتوقراطية" نخبة اللصوص بفعل العولمة. هذه الطبقة الجديدة التي حلت محل "نخبة التكنوقراط"، المتخصصة بإدارة الموازين الاقتصادية والمالية وتصحيح مؤشراتها. نظرياً وجزئياً من الناحية العملية، أعطت الإدارة الأميركية الضوء الأخضر لحلفائها بمراقبة الحسابات المشبوهة في مصارفها، والتدخل المباشر في بورصاتها لدى بروز أية حركة غير اعتيادية على صعيد تداول أسهم شركة ما، ومراقبة شبكات الانترنت واعتبار الجنات الضريبية ومناطق الأوف - شور، التي كانت غير خاضعة لأية رقابة خارجة على القانون حتى اشعار آخر، بمثابة مجالات مفتوحة من الآن وصاعداً. الأمر الذي يمكن ان يؤدي في ما لو طبقت هذه الاجراءات بحذافيرها، الى احداث تعديلات جوهرية على مفهوم العولمة وحتى شروطها وبعض أدواتها، حيث تصبح ممسوكة الى حد بعيد. وعلى رغم كل هذه المعطيات المستجدة، يبقى السؤال الأساس مطروحاً: هل ستكون لهذه الانعطافة التي ترافقت نسبياً حتى اللحظة مع مسحة انسانية يحاول بعض أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة وخارجها ادخالها على العولمة، انعكاسات سلبية على جوهر هذه "الحالة - الظاهرة" وبالتالي لتراجع سيطرتها واضعاف مفهومها القائم على الحرية المالية المطلقة في المدى المتوسط؟ ديكتاتورية السوق... والرأي العام انطلاقاً من هنا، عادت موضة الحديث في الآونة الأخيرة التي تزايدت بعد العملية ضد الولاياتالمتحدة، عن نظرية الخط الأحمر والدورة الاقتصادية الثلاثينية الأعوام التي وضعها الاقتصادي الروسي كوندرياتيف بين العامين 1925 و1928. فبالنسبة الى هذا الأخير، فإن مراحل توسع الدورة الطويلة سبقتها على الدوام اختراعات علمية وثورات صناعية، غالباً ما رافقتها في البداية صدمات سياسية ذات أبعاد خطرة أخذت أشكال حروب وانتفاضات داخلية حادة. في المقابل، شهد الجزء الأول من مراحل الأفول اختراعات تكنولوجية أقل، رافقها خفض ملحوظ في النزاعات العسكرية والتوترات الاجتماعية الحادة. بناء عليه، يمكن الاستنتاج - دائماً وبحسب نظرية كوندرياتيف - أنه هنالك أكثر من عقد أمام نظام العولمة الحالي قبل أن يقترب من بدايات مرحلة الأفول. وبالتالي، فإن مراقبة الانترنت والحسابات والبورصات وحركة الرساميل وغيرها، لن تؤثر في المدى القريب وربما في المتوسط على مسار العولمة الجاري. هذه الأخيرة التي تعني تحديداً: توسعة رقعة السوق - الشيء الحاصل أصلاً - التي تشمل اليوم غالبية بلدان العالم، في وقت واحد وبصورة تدريجية، وأيضاً دوائر النشاط اللانساني ولو في شكل استنسابي. فمع أسواق الرساميل وحرية حركتها اللامحدودة ورفض الجميع فرض رسوم عليها - كضريبة توبين - منعاً لتخويفها، ذهبت العولمة بذلك الى أقصى الحدود في الهيمنة، وفرضت شروطها على الجميع حيث باتت هذه الظاهرة تملك قوة لا حدود لها. فلم يعد هنالك من الآن وصاعداً أي شيء في الكون قادر على مقاومة الأسواق هذه عندما تقرر بوحشية خارقة ومطلقة سلوك منحى معيناً. فلا كبريات الشركات ولا مجموعات الضغط ولا حتى الدول أو المؤسسات المالية المعروفة، قادرة بعد الآن على السير بعكس اتجاه تيار السوق. فسوق الرساميل، عماد العولمة، والتسهيلات التي توفرها تكنولوجيا المعلومات للجميع والتعامل عن بعد مع مصادر الثروات، اضافة الى تأثير الرأي العام في مجرياتها، خلقت ما يسمى "بديكتاتورية السوق". لكن العولمة، على رغم كل المظاهر المحيطة بها، ليست مرادفة لمفهوم التبادل التجاري الحر. على أية حال، إن حدوث تفسخات جدية في جدار العولمة هو أمر مستبعد بغض النظر على صوابية نظرية كوندرياتيف أو عدمها حتى ولو ترك انهيار البورصات في الأيام الأولى التي تلت العملية الارهابية آثاراً بقيت محدودة على مستوى ثقة حملة صغار الأسهم - احد النتاجات المميزة للعولمة - بالمصير المنشود "للرأسمالية الشعبية"، التي كانت تجعلهم يعتقدون بأنهم يشاركون فعلياً بإدارة الاقتصاد العالمي. ويشار في هذا الاطار، ان 80 مليون أميركي يملكون حالياً الأسهم، أي ما يوازي 43 في المئة من العائلات، في مقابل 19 في المئة في العام 1983. وهنالك أيضاً ما يقارب 60 مليون مشاهد لهم صلة عملياً بالآليات التي تسيّر صناديق التقاعد عبر الرسملة. ولا يتوقع خبراء السوق بأن تؤدي المواقف المتخذة حديثاً في شكل مشترك مع الدول الغربية الحليفة في مجال مراقبة تكنولوجيا المعلومات والحسابات وشبكات تبييض الأموال، الى عزوف الأميركيين عن الاهتمام بالصناديق المسماة "بالهيدج فوندز"، القائمة على سياسة البحث عن الربح الأقصى والمترافقة مع اتخاذ قرارات مرتبطة بأعلى نسب المخاطرة داخل السوق. والمثال الأبرز على ذلك، زيادة الاقبال على صندوق "كانتوم" الشهير الذي يشرف على ادارته المضارب الكبير جورج سوروس. باختصار، إن موافقة أميركا على مراجعة موقفها من مسألة آحادية سيطرتها على العالم من خلال الايهام باقتناعها بالمشاركة الاقتصادية للحلفاء بهدف تجاوز الأزمة، لا يعني بالضرورة المساس بصلب سياسات العولمة وأدواتها. فإدارة بوش، التي تحاول اليوم تغليب صيغة الديبلوماسية الاقتصادية وبصورة نسبية مفهوم التعاون التعددي، تبقى مهووسة بمنطق القوة والحركة الاحادية الجانب - أمر تؤكده مجريات استعداداتها العسكرية حالياً - التي تضع نصب أعينها على الدوام فكرة توسيع حدود سيطرتها لتشمل ما تبقى من مناطق جديدة غنية في العالم. فالزمن الآحادي الجانب والقرار، نتاج العولمة الأول، من المتوقع ان يدوم على الأقل أكثر من عقد ونصف بحسب توقعات الكثر من المحللين الماليين والاستراتيجيين في الغرب. فالولاياتالمتحدة التي لا يقف في وجهها أي خصم قادر في المدى القريب على احداث خلل في التوازنات العالمية الكبرى، ستستمر في تطبيق سياساتها، خصوصاً ان ابرز منافسيها الاقتصاديين، اي الاوروبيين واليابانيين، هم حلفاؤها الاستراتيجيون في نهاية المطاف. هذا ما ظهر جلياً من خلال المواقف التي اتخذها هؤلاء لدعم الاقتصاد الاميركي فور الضربات. بانتظار جلاء الامور، سيتابع كبار الخبراء الاقتصاديين من اعضاء "مجلس الامن الاقتصادي" في البيت الابيض، وفي طليعتهم روبرت روبين عمله القاضي بالحفاظ على لعبة التوازن بين العولمة وادارة الازمات، في حين سيحاول بوش جعل عملية التحرير الاقتصادي والمبادلات التجارية الادوات المميزة للديبلوماسية الاميركية في المرحلة المقبلة. عملية لا يمكن ان يكتب لها النجاح وبالتالي اخراج الاقتصاد الاميركي من كبوته الانكماشية الا من خلال السير قدماً في مجال العولمة. عودة محسوبة لدور الدولة بعد اليقظة من هول الضربة وبدء جردة حساب الخسارات المالية الفعلية وظهور شبح الانهيارات المالية، اعلن وزير الخزانة بول اونيل ان: "الادارة تدرس حالياً جميع الوسائل التي استخدمت في الماضي وغيرها من التي لم يتم اللجوء اليها حتى الآن". هل يعني ذلك بداية استعادة الدولة لدورها الذي تنازلت عنه مرغمة للقطاع الخاص ولاقتصاد السوق ولشروط العولمة؟ ام ان الامر يتعلق فقط بخطوات محددة، "منسجمة مع طبيعة المرحلة"، تنتهي بانتهاء الحاجات والضرورات الملحة، كدعم شركات الطيران الاميركية منعاً لافلاسها، كذلك، رصد 100 بليون دولار لتصليب اوضاع المؤسسات الكبرى المتعثرة التي اذا هوت ستجر معها الويلات بدءاً بصرف عشرات الآلاف من العمال والموظفين، مروراً بانهيار البورصات وانتهاء باختلال الاسواق. المؤشرات المتوافرة حالياً تؤكد أن الادارة الجمهورية بدأت تنتج سياسة "كينزية" نسبة للاقتصادي البريطاني كينز الذي نجح في اخراج بلاده من عمق الازمة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تمكين الدولة من لعب دور المنقذ. لكن الانتقادات على انتهاج هذا الطريق "غير الليبرالي" بدأت منذ اللحظات الاولى من قبل الكثر من اعضاء الكونغرس من الجمهوريين الذين يعتبرون أن تعزيز دور الدولة هو من ثوابت الحزب الديموقراطي، اضافة الى ان هذا النوع من الخطوات في ظل الظروف الراهنة يمكن ان يتضاعف في ما اذا طاولت المواجهة مع الارهاب؟ مما سيساعد القطاع العام ومؤسساته على استعادة مواقع كانت فقدتها بفعل هجمة العولمة. وكان البنك الدولي اول من ادرك مخاطر اجبار الدولة على التخلي عن دورها في قطاعات اساسية: كالتعليم، والصحة والتنمية الاجتماعية لمصلحة القطاع الخاص في المديين المتوسط والبعيد. بناء عليه، نظمت المؤسسة المالية عام 1996 مؤتمراً كبيراً في مدينة مراكش تحت عنوان: "دور الدولة في اقتصاد السوق". وكلّف البنك يومها كبير خبرائه، الاقتصادي الاميركي جون ستيغليتز المستشار السابق للرئىس بيل كلينتون بمهمة الترويج لفكرة ايجاد قواسم مشتركة بين دور الدولة ودور القطاع الخاص وذلك، بهدف الحد من المضاعفات السلبية للعولمة في المستقبل. مع ذلك، لم تسمح شروط هذه الظاهرة في فتح ثغرات تذكر في هذا الجدار. فعلى العكس من ذلك، جرفت ادوات العولمة المتمثلة بسوق الرساميل وتكنولوجيا المعلومات وبرامج التخصيص وغيرها، كل المحاولات الهادفة الى استعادة الدولة لبعض من ادوارها الرئىسة. فلم ترجع العودة الى اعطاء دور لها الا مع العملية الارهابية التي استهدفت "مركز التجارة العالمية" ومبنى البنتاغون ووضعت اقتصاد اميركا على شفا الهاوية. فالرجوع الى وصفات جون ماينارد كينز، التي صممت اصلاً لتدخل الدولة، هدفت في الدرجة الاولى مساعدة اقتصادات الدول الرأسمالية لتجاوز محناتها، وليس ارساء قواعد لنظام اشتراكي من المفترض به ازالة الدورات الظرفية. على اي حال، إن الحديث مجدداً عن الرجوع الى مفهوم "الدولة الراعية" انقرض تقريباً في العالم الغربي، خصوصاً بعد ان فعلت العولمة فعلها من جهة، ونظراً لعدم وجود استعداد ذاتي وموضوعي ومادي لها، من جهة اخرى. دليل آخر على بقاء سيطرة العولمة لحقبة طويلة جديدة. مع ذلك، إنه من السابق لأوانه اثارة مسألة الانعكاسات الجغراسياسية والاقتصادية التي خلفتها عمليتا نيويوركوواشنطن. هذا على الاقل رأي عدد كبير من الاقتصاديين الغربيين. * اقتصادي لبناني.