مبادرتك القيمة والمهمة، بتوجيه رسالة مفتوحة بعنوان: "الى أصدقائي في العالم العربي" التي نشرتها "الحياة" في 14 ايلول سبتمبر الجاري، كان لها وقع مؤثر وكبير في نفسي، وفي نفوس الكثيرين من القراء العرب، كما أعتقد، حيث ساهمت بإثارة المزيد من مشاعر الحزن والألم على ضحايا الهجمات الارهابية الأبرياء، في نيويوركوواشنطن. وقد عكست الرسالة ايضاً، وبشكل مؤثر وحزين، ما يختلج في نفسك من ألم وأسى عميقين، ومن مشاعر غاضبة وإحساس مرير باللوعة والفجيعة، جراء ما لحق بالشعب الاميركي من تلك الهجمات الرهيبة واستهدافاتها. ان توجيه تلك الرسالة الى "أصدقاء" في العالم العربي من دون ان تسمي صديقاً محدداً بالذات، يعني انها موجهة الى جميع المواطنين العرب الذين يشاطرونك، وكل الشعب الاميركي الصديق، مشاعر الحزن والغضب والتضامن، وإدانة العمل الارهابي المروع، وهو الأمر الذي شجعني للإجابة على تلك الرسالة معتبراً نفسي، مثل كثيرين غيري، معنياً بها، وذلك لسببين رئيسيين: الأول، كي لا تبدو الرسالة بأنها قوبلت بصمت مقصود، والثاني، لإبداء بعض الملاحظات حول ما جاء فيها، لاستكمال الهدف الذي توخيت تحقيقه من إرسالها، وهو تفهم وفهم كل منا للآخر ورؤيته للأحداث وتداعياتها. ولعل الأمر الذي ينطوي على دلالة ذات مغزى، هو أن هذه الرسالة كتبت بعد يومين أو ثلاثة أيام من وقوع الهجمات الارهابية المروعة في 11 ايلول سبتمبر، حيث غبار انهيار البرجين وجزء من مبنى وزارة الدفاع كان يغطي كل شيء، بينما كان آلاف الأبرياء قد قضوا، وآلاف آخرون ما زالوا أحياء، لكنهم تحت الأنقاض يئنون بفزع ومرارة وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة منتظرين، من دون جدوى من ينقذهم! في أجواء محزنة ومريرة ومأساوية كهذه، تستحضر لدى المراقب والمتأمل في هذا الحدث الرهيب وتداعياته أياً كان، خصوصاً الاميركي، حساسية مرهفة في رؤية وتقييم تلك التداعيات، أو الكتابة عنها، وهو الأمر الذي لم يسلم منه السيد ادوارد ووكر، كحالة انسانية طبيعية ومشروعة. فبعد السطور القليلة الأولى، التي شكلت مدخلاً لرسالتك وتحدثت فيها عن الحدث المروع ومأساويته الانسانية الهائلة التي تستعصي على الفهم، انتقلت مباشرة لتشير، الى قلبك المثقل لسبب آخر، حيث جاءت، الى جانب صور الفظاعات الرهيبة في مدن اميركا، صور لمظاهر ابتهاج شائنة من مدن عربية عدة، وأضفت، ان العقل يعجز ببساطة عن فهم الرقص في الشوارع الذي يماثل الرقص على قبور الناس الأبرياء! مظاهر الفرح والابتهاج هذه في بعض المدن العربية، بما حصل في اميركا، والتي يمثل القائمون بها، كما نقول نحن وكما أشرت أنت الى ذلك "أقلية" هامشية في المجتمع، هي مظاهر شنيعة وقبيحة ومدانة بقوة، ولا يمكن وصف أولئك المبتهجين، سوى أنهم أناس غير أسوياء، وليس بمقدور أي كان التماس الأعذار لهذه الفعلة المقززة. وعلى عظم وفظاعة هذه الصور، كانت ادانتك القوية لها والتعبير عن غضبك المشروع عليها يكفيان لتسجيل موقف بالغ المعاني والدلالات، ليس للمبتهجين فقط، انما للذي يقف وراءهم ويشجعهم على ارتكاب إثم كهذا. غير انك لم تكتف بذلك، انما احتل الحديث عنها اكثر من ثلثي الرسالة، حيث توصلت خلاله الى جملة من الاستنتاجات المبالغ فيها: لقد كان ملفتاً ومثيراً حقاً، أنك ساويت بين هول وضخامة الهجمات الارهابية واستهدافاتها، وبين المظاهر الشائنة ل"أقلية" في المدن العربية، عندما قلت ان قلبك مثقل لسبب آخر، هو تلك المظاهر للمبتهجين. وتكبير هذه الصور، على أهميتها، هو تصغير للحدث الأضخم، وليس من مصلحتك كأميركي، مثلما ليس من مصلحتنا ايضاً، كعرب، تحجيم العمل الارهابي في اميركا وتضخيم مظاهر الابتهاج المحدودة. وفي تناولت، في موضع آخر، لمظاهر الابتهاج قلت، بلغة الجمع والتعميم، ان ابتهاجكم السمج لا يساعد اطلاقاً على التخلص من السياسات التي تنتقدونها بقوة وبأعلى أصواتكم، وان الابتهاج الذي شاهدناه في شوارع عربية كثيرة قد يجعلنا نكف عن التعاطف مع آلامكم ومعاناتكم. والمبالغة، أو الاخطاء، التي وقع بها السيد ووكر هنا، تتجلى في تعميم مظاهر الابتهاج على كل "اصدقائه في العالم العربي" على رغم تأكيده، هو، على ان ذلك من فعل "أقلية" وهو تناقض يستعصي على الفهم. لذلك فإن الوقوع في مثل هذا الخطأ هنا، يصبح مفهوماً الوقع في الخطأ التالي الذي بُني عليه وشكل مقدمة له، وهو القول باحتمال ان تكف الولاياتالمتحدة عن التعاطف مع آلام ومعاناة الشعوب العربية بسبب تحميلها مسؤولية ووزر الفعل الشائن لأقلية بين صفوفها، وهو ما لا يستقيم مع أي منطق سياسي. أما الاستنتاج الآخر، المثير والمدهش في آن، والذي بني على الخطأين السابقين، فهو قولك، بأن أذى لا يمكن اصلاحه قد لحق بقضية الشعب الفلسطيني، وان كثيرين أصبحوا يعتقدون حالياً، ان الدولة الفلسطينية ربما هلكت، الى جانب ضحايا الاعتداءات الجنونية في واشنطنونيويورك. ان المواقف والسياسات الاميركية تجاه القضايا العربية والاسلامية، ومنها القضية الفلسطينية، لا تبنى وترسم، كما يعرف السيد ووكر، في ضوء تصرفات ومواقف شاذة وشائنة أو معادية، لأقليات غير سوية السلوك والتفكير، في مجتمعات البلدان العربية، انما تحددها جملة واسعة ومعقدة من العوامل والمصالح المشتركة للطرفين، دون ان تغفل، بالطبع، تأثير ودلالة، عوامل أخرى منها مظاهر الفرج والابتهاج، أو التظاهرات المعادية في بعض المدن العربية، التي تقوم بها "أقليات" صغيرة أو مدفوعة من قوى هامشية في المجتمع. من هنا يمكن القول، ان بعض الاستنتاجات التي توصلت اليها، هي استنتاجات خاطئة، أو مبالغ فيها ومتسرعة تستوجب اعادة النظر فيها، لما يترتب على الأخذ بها من أخطاء في تكوين رؤية استراتيجية شاملة للوضع في البلدان العربية وقضاياها الخاصة والمشتركة في آن. ولعل من المفيد هنا التذكير، ان "هذه الاقلية" من المبتهجين بالهجمات الارهابية ونتائجها، هم انفسهم أو من هم على شاكلتهم، ابتهجوا ورقصوا وفرحوا عندما غزا نظام صدام الكويت عام 1990، وهي دولة عربية مسلمة، وابتهجوا حين قمع هذا النظام انتفاضة العراقيين في ربيع 1991 ووصف القائمون بها بأبشع الأوصاف، وظلوا يبتهجون ويفرحون كلما ارتكب النظام نفسه جرائم بحق شعبه، فيرفعون صور رئيسه باعتباره قائداً وفارساً عربياً، هذا فضلاً عن تمزيق تلك "الأقلية" لعلم ومصر وصور الرئيس مبارك. وكذلك تمزيق علم دولة الكويت، في اعقاب الوفاة المفاجئة للمرحوم فيصل الحسيني قبل شهور، غير ان أياً من العراقيين ونخبهم السياسية والفكرية لم يتخذ موقفاً سلبياً من مجتمعات تلك "الأقليات" وقضاياها المشروعة، مثلما لم يتخذ المصريون والكويتيون ايضاً موقفاً سلبياً بسبب موقف "الأقلية" تجاههم. لقد ناشدت اصدقاءك في العالم العربي لممارسة ما لديهم من قوة إقناع مع أولئك المحتفلين، كما دعوت لتجاوز ذلك كله، وابداء مساعدتنا وتعاطفنا معكم، والعمل سوياً للعودة الى معالجة قضايا المنطقة. واذا كانت المناشدة غير عملية وغير ممكنة التحقيق، فإن ما هو مطلوب فعلاً هو تجاوز المحزن الراهن، سواء الناجم عن الهجمات الارهابية، أو من أولئك المبتهجين. ان أي تحسين وتطوير في العلاقات الاميركية - العربية، والاسلامية استطراداً، يتطلب تحديد أو تشخيص الخلل في هذه العلاقات، والعمل على اصلاحه، كيما يمهد لإقامة علاقة صحية واستراتيجية تلبي المصالح المشتركة وذلك عبر: - قيام الولاياتالمتحدة بجهد حقيقي لدعم كفاح الشعب الفلسطيني ودعم قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية. - التوجه الجاد والحاسم لدعم التغيير في العراق والمساعدة في اطاحة نظامه، مما يؤدي الى انهاء بؤرة للتوتر في المنطقة، وكذلك الى انهاء العقوبات الدولية والمعاناة الناجمة عنها، وذلك بما ينهي استطراداً اللوم الذي يوجه للولايات المتحدة وتحميلها مسؤولية استمرار العقوبات واستمرار معاناة العراقيين وتوظيف النظام ذلك لمصلحته وكسب "التعاطف" العربي. - دعم خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية التي تعاني من أزمات على هذا الصعيد، بما يؤدي الى انعاش اقتصادها وتنمية مجتمعاتها وتقليص العوامل المساعدة على الاضطرابات الاجتماعية، أو الهجرة الى الخارج. وبالطبع فإن الدعوة لإصلاح الخلل في العلاقات العربية - الاميركية وضمان تطويرها لم تأت بفعل الهجمات الارهابية الأخيرة في واشنطنونيويورك، انما كانت وستظل مطروحة على جدول الاعمال نظراً للمصالح المشتركة بين الجانبين في حال تحقيق ذلك. واذا كانت الدعوة اليها الآن اصبحت اكثر الحاحاً، فلكي لا تتخذ منها الجماعات الارهابية، في البلدان العربية والاسلامية، دريعة لتأجيج العداء ضد الولاياتالمتحدة. ذلك ان تلك الهجمات الارهابية، وغيرها، لا تهدف الى تحقيق مطالب سياسية واقتصادية، أو تتطلع الى حل عادل للقضية الفلسطينية، انما معاداة الولاياتالمتحدة والدول الغربية، هو الهدف الاساسي لتلك الجماعات، فضلاً عن المصالح الذاتية... وتجاوز الوضع المحزن الراهن والسعي لتصحيح الخلل القائم منذ عقود في العلاقات العربية الاسلامية - الاميركية، سيمثل الوجه غير العسكري للتحالف الدولي لمواجهة الارهاب، الذي اعتبرته الدول العربية عدواً يهدد الجميع. * كاتب عراقي، لندن.