تولت صور شريط "الفيديو" الذي بثته فضائية "الجزيرة" نيابة عن بن لادن، مساء الأحد في 7 تشرين الأول اوكتوبر، قولَ بعض ما لم يقله الرجل "ومساعداه"، الظواهري المصري وأبو غيث الكويتي. فقبل أن تستقر الصورة على المتكلمين، وتؤذن بمجلس الكلام والقول، نزلت آلة التصوير بطيئة، من علياء صخرة كبيرة وعريضة، وملساء، الى سشفح الصخرة. وعند قدم الصخرة وسط ما يشبه لجة ضوء، جلس أربعة رجال متربعين وجلس بن لادن أقرب الى القرفصاء. ووراء الجالسين تجويف في الصخر قريب من المغارة، ويريد له الشريط ان يكون غاراً، وأن تكلم صورةُ الغار أنظار المسلمين الشاخصين، وتذكرهم بغار قديم يقوم على الطريق من مكة الى مدينة يثرب، ولجأ إليه مهاجرون - يزعم المتكلمون الثلاثة انهم يسيرون على خطاهم "فئة تفر بدينها الى الله سبحانه وتعالى" - في طريقهم الى أول فتح من "فتوح البلدان" المعاصرة. ويقول بن لادن: "فتح الله عليهم فدمروا اميركا تدميراً". فأول كلام سليمان أبو غيث، وهو الناطق باسم "القاعدة" وأول المتكلمين الثلاثة، كان على "الجهاد والرباط"، أي على الهجرة "إلى الله ورسوله" وفي سبيلهما. وأول كلام أيمن الظواهري، زعيم "الجهاد" وثاني المتكلمين، على "فئة المجاهدين والمرابطين". وفي الحالين "اليوم"، ابتداء الحرب العامة على بن لادن وجماعاته وشبكاته وإقليمه الأفغاني، "يوم الحقيقة ويوم الصدق"، يوم تجمّع "قريش الجديدة ... على فئة المسلمين الصابرين". وعلى خلاف صاحبيه اللذين سبقاه الى الكلام باشر بن لادن خطبته بعد الحمد والاستعانة والاستعاذة بثمرة "جهاده" العظمى. فنسب العمل الذي سماه أبو غيث "ما حدث في اميركا يوم الثلثاء في الحادي عشر من ايلول سبتمبر لعام ألفين وواحد" من الميلاد، ولم يؤرخ بالتقويم الهجري، إلى "الله سبحانه وتعالى". وقال إن الله "أصاب" اميركا به بالعمل. فتسمية المتحدث الأول محايدة، وكأن "ما حدث" حادثة طبيعية لم يصنعها أحد، ولا شأن لأحد بها. اما الظواهري فلا يسمي الحادثة نفسها بل يكني عنها بنتيجتها، وهي "الأوقات الحرجة العصيبة". فالخطيبان الأولان إنما يمهدان الطريق الى الخطيب الثالث، والأول رتبة ومكانة، ليتولى التسمية الحقيقية والنسبة الفعلية. وهو سمى ونسب: إن تدمير "أعظم مباني" أميركا هو "منَّة" من الله، منَّ بها على "كوكبة" أو "طليعة" مقاتلة ومجاهدة من "فئة المجاهدين والمرابطين" ومن "الشباب المجاهد". وما وفق الله "الكوكبة" و"الطليعة" إليه، ليس جزءاً من كل اميركا، أو هو جزء يقوم محل الكل. فبعد وصف الخطيب البرجين التوأمين من مركز التجارة العالمي ب"أعظم مباني "اميركا"، لا يقصر فعل التدمير أو أثره على جزء منها. فها هي "من شمالها الى جنوبها، ومن شرقها الى غربها ... امتلأت رعباً". ويعقِّب الخطيب على عظمة "الرعب"، بعد عظمة "المباني"، بتكرار: "فلله الحمد والمنة". ويردد بن لادن ما سبقه إليه أبو غيث والظواهري من تعليل. فقال أبو غيث "ان ما حدث لأميركا هو بسبب السياسة الحمقى التي تمارسها في الخارج والتي تتمثل في العداء الواضح للإسلام والمسلمين" التدخل المباشر، الحصار، العداء، "المساندة اللامحدودة للكيان الصهيوني". وقال الظواهري: "ان اميركا قد ارتكبت ضد امة المسلمين ما لا يمكن ان يتحمله انسان"، وهذا هو علة "كل هذا العداء ضد اميركا وإسرائيل" الذي تفجر في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من ايلول. أما بن لادن فيقول: "ما تذوقه اميركا اليوم هو شيء يسير مما ذقناه منذ عشرات السنين". وهو "معاقبة بالمثل" أبو غيث. ويرد بن لادن الذل، والمهانة، وقتل الأبناء، وسفك الدماء، والعدوان على المقدسات، و"القتل بغير ما أنزل الله"، الى "بضعة وثمانين عاماً". فيبتدئ تأريخ ما يثأر له عملُ "الطليعة" المحاربة بغداة الحرب العالمية الأولى. أو بالحرب نفسها وإفضائها إلى تصفية "الخلافة" أو السلطنة العثمانية ذيلاً من ذيول الحرب. وكانت "مبادئ ويلسون"، الرئيس الأميركي، ودعوته الى تحكيم "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، والاستقلال عن الامبراطوريات المستبدة بها، وإنشاء دولها الوطنية على أنقاض الامبراطوريات هذه، عاملاً حاسماً في قتل السلطنة العثمانية وإردائها. وبن لادن، شأن شطر من "الرأي العام" العربي الإسلامي وشطر من الرأي العام الألماني كان كبيراً بين الحربين يحمل الغرب عموماً، والرئيس الأميركي ويلسون خصوصاً، التبعة عن انهيار آخر "دولة" من "دول الإسلام". ويقع قارئ "ولاية الفقيه" الخميني على تأريخ يشبه هذا التأريخ لغلبة "العلمانية" على شرع "الإسلام"، ولو كان هذا عثمانياً تركياً وسنياً، وهو، أي الشرع، "القتل مما أنزل الله"، بحسب الخطيب الثالث. وبينما تقصد المراجع التاريخية إدخال "مقتلة" نيويورك أو "ملحمتها" الظواهري، في تاريخ فتوح الإسلام ومعالمه، فتجعل من المقتلة نظير الخطوة الأولى على طريق الهجرة والنصر و"المنن" الإلهية، يدرج ايمن الظواهري ما يسميه "ملحمة" في "معارك الإسلام الكبرى مثل حطين وعين جالوت وفتح بيت المقدس". وفي الأولى 1187م انتصر صلاح الدين الأيوبي على حملة الصليبيين الثانية، ورد بيت المقدس بعض الوقت الى ملك المسلمين. وفي الثانية 1260م انتصر كبير المماليك المصريين على المغول وهزمهم. وأتاح انتصار المماليك على المغول لأصحابه التحرر من الأيوبيين، ومن شرعيتهم "المقدسية"، والإدلال بشرعية مستقلة ومحلية، إذا جازت العبارة. أما فتح بيت المقدس فقد يُحمل على حملة العرب المسلمين الأولى التي امر بها الخليفة الراشد الثاني وينوّه الشعار المعروف: "فتحها عمر وحررها صلاح الدين"، رداً على "يوم القدس" الخميني والشيعي في 1987، بالحملة الأولى هذه، أو على حملة صلاح الدين، غداة حطين. والحق ان ما يجمع بين المعارك الثلاث - او الأربع إذا حُمل فتح بيت المقدس على الحملتين معاً - هو انتصار مسلمين في حروب على غير المسلمين، في "دار الإسلام"، وارتفاع الحروب هذه علماً على دوام الحرب بين "الأمة عن بكرة أبيها" "فسطاط الإيمان" أو داره وبين "أمم الكفر" ولكن على وجه الهزيمة العظمى والمروعة، سجل الحروب هذه أو "فسطاطه" و"الكفر العالمي". ولا يرى الظواهري بأساً في سرد "الهزائم" الأميركية ولو عن ايدٍ غير مسلمة، مثل الفيتناميين، وفي "معارك" ثانوية مثل لبنان 1983 وعدن 2000. وتختتم الأندلس في خطبة الظواهري، ففعلة "الحادي عشر من سبتمبر" هي موقعة من مواقع الحرب "الأبدية" بين الإسلام والكفر. وهذا ما يشاء لها "المتحالفون" "بقيادة اسامة بن لادن" ان تكون. وهي حرب دفاع و"ردّ"، إلا إذا نسبت الى الخالق من غير واسطة، وحرب "معاقبة" و"ثأر" و"مجيء سيف" "فإذا جاء السيف بعد ثمانين عاماً" وما تثأر له هذه الحرب هو العقود الثمانية المنصرمة من التاريخ المحدث. وصفحات هذا التاريخ الأخيرة فلسطين، "كثير من بلاد الإسلام"، العراق، هي كتاب الظلم. وهو لا يقتصر على "بلاد الإسلام". فاليابان، وضحايا الحرب النووية عليها، سند "للإسلام" في تسويغ الانتقام. ويستبق احتجاج بن لادن لفعلته احتجاج معظم الكتّاب والمثقفين العرب وبعض غير العرب. وفي هذا السياق يضم بن لادن الى مصطلحه ولغته كلمة "المستضعفين" الخمينية الاستعمال وليس المصدر بديهة. ويضم إليهما، الى المصطلح واللغة، كلمة "النفاق" و"المنافقين". وهي كذلك كثر استعمالها في المقالات الخمينية. وأريد بها مسلمون غير مسلمين، أو مسلمون ظاهراً وغير مسلمين باطناً وطوية وقلباً. وهم أنصار "الكفر" و"الكفار". ويدعو بن لادن "الله سبحانه وتعالى ان يرينا فيهم ما يستحقون"، بعد ان "أرانا" في "الكفار" الأميركيين ما يستحقون. ف"أميركا" هي السبّاقة الى الدمار، و"النفاق" لاحق. ويصف بن لادن نفسه ب"الفئة التي خرجت تفر بدينها الى الله سبحانه وتعالى". وهو تعريف أهل "التكفير والهجرة" في مقالات دعاة الإسلاميين السياسيين المعاصرين منذ سيد قطب إلى... ايمن الظواهري، الجالس الى يسار صاحبه. فإلى بعض مصطلح الخمينية الأول، يضم بن لادن والظواهري إلى مقالتهما بعضَ إرث الحركات الإسلامية القريبة منهما زمناً وسياسة. ولا شك في ان الجمع والضم هذين جزء من بناء "الجبهة العالمية، التي سبق لبن لادن ان أعلن ولادتها في بيان عمليتي السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا 1998، وتنوه بهما خطبته الأخيرة. وهذه الرسملة "الفكرية" أو "الإيديولوجية" استتمام واستكمال لرسملة انفعالية وعاطفية، مادتها ومصادرها المرئية والشائعة هي "المليون طفل" عراقي، و"الإخوان والأخوات في فلسطين"، و"مقدسات المسلمين" في فلسطين، و"أرض محمد صلى الله عليه وسلم". فالمادة والمصادر هذه في متناول الناس كلهم، على خلاف التحريض على دور اميركي مفترض في طي صفحة "الخلافة" العثمانية قبل "بضعة وثمانين عاماً". ولكن التحريض المباشر والظرفي والعام لا يستقيم افقاً وبرنامجاً ومشروعاً إلا بربطه بطي "الخلافة" وانقطاعها غداة الحرب العالمية الأولى. وهذا الربط دعوة الى إحياء الخلافة الإسلامية، وإلى نصبها غاية تتولى الحركات "الجهادية" وفيديراليتها "العالمية" العمل في سبيلها. ويبلور بن لادن خطته، ويوحد عناصرها وحوادثها وأجزاءها في كلٍّ متماسك. ويستعيد، في هذا المعرض، هو وصاحباه، أفعاله كلها: من أفغانستان إلى "الغضب الإلهي الواضح على اميركا". فيعدُّ، مع صاحبيه، "مقتل بضعة عشر في نيروبي ودار السلام، اقتحام السفارتين الأميركيتين، وحادثة المدمرة الأميركية كول، ويُغفل محاولة تفجير مركز التجارة العالمي الأولى والمحاكمة فيها جارية وعملية الخُبر والتحقيق فيها مستمر. والغاية من هذه الحوادث واضحة: "فأقول ان هذه الأحداث قد قسمت العالم بأسره الى فسطاطين...". والحوادث هي الوسيلة الى بلوغ القسمة هذه، قسمة الحرب. ومهد سليمان أبو غيث لمقالة زعيمه وشيخه فقال: "ان الواقعة قد حصلت وأن المعركة هي معركة فاصلة بين الإيمان والكفر، فاختاروا الخندق الذي تكونون فيه...". وأفصح الناطق عما لم يجهر به شيخه: "... هذه الراية اعلنت الجهاد ضد اليهود والنصارى، وأعلنت الجهاد ضد الأمريكان، وأعلنت الجهاد ضد الذين يحاولون تدنيس مقدسات المسلمين واحتلال اراضيهم". ف"خطبة جهاد" بن لادن هي بيان حرب عامة يحشد فيها الرجل وصاحباه ما يظنونه موارد تعبئة وجمع كلمة في تاريخ المسلمين البعيد والقريب وما بينهما. وعليه لم يكن "الغضب الإلهي" على نيويورك وواشنطن إلا الإيذان بأن "رياح الإيمان قد هبت". وميدان حرب بن لادن ليس أفغانستان إلا على نحو طارئ وظرفي. انه مرحلة من مراحل ارتقاء "إمارة المؤمنين"، ودرجة من درجات السُّلَّم إليها. * كاتب لبناني.