يبدو أن بعض الأصدقاء فهموا من مقالي عن الرواية الرائجة أنني ضد فكرة الرواج في وجه عام، وهذا غير صحيح، فما قصدت إليه، ولا أزال، هو أن فكرة الرواج شيء والقيمة الإبداعية الأصيلة شيء آخر وقد يلتقي الاثنان في بعض الأعمال الاستثنائية، كما حدث في قصائد محمود درويش، أو روايات نجيب محفوظ، أو بعض روايات جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وغيرهم من كتاب الرواية المبدعين على امتداد الوطن العربي. وفي هذه الحالة، يكون الرواج بعض لوازم التميز في أعمال لا تدخل في إطار الصرْعات الموضات التي سرعان ما تنتهي وليس هناك ما يمنع من تجاور الروايات الرائجة المتواضعة القيمة الإبداعية، والروايات المتميزة حقاً، لكن في البيئات الثقافية السوية يتم التمييز بين النقيضين، وتكون لكل نقيض الشرائح التي تفرح به، أو تقبل عليه دون سواه، والمثال على ذلك اختلاف الشرائح التي قرأت، ولا تزال، أمثال هاري بوتر ورواية داني براون الشهيرة «شفرة دافنشى» التي لم تصل إلى أرقام توزيعها واللغات التي ترجمت إليها رواية رائجة أخرى، وفي المقابل الشرائح التي قرأت، ولا تزال تقرأ، أعمال إمبرتو إيكو، أو دوريس لسنج، أو الأعمال المتتابعة التي حصلت على جائزة البوكر البريطانية البعيدة من أشكال الاختلال العربي والحاصلين عليها من أمثال النيجيري بن أوكري «طريق الجوع» وأونداتشي «المريض الإنكليزي» والهندية أرونداتي روي «رب الأشياء الصغيرة» والكندية مارغريت أتوود «القاتل» وقد أصبحت روايات هؤلاء جميعاً روايات رائجة، ولذلك لا يمكن مثقفاً عاقلاً ألا يعرف أن كل الروايات الرائجة ليست كلها عديمة القيمة بالضرورة، وأن هناك روايات رفيعة القيمة يمكن أن تكون رائجة، تتسع شرائح قرائها، وذلك لعوامل يمكن قياسها، أو قد لا تتسع لعوامل قابلة للقياس والاستنباط النقدي. ولكن لأن الثقافة العربية تعاني حالة مرضية تقترن باختلال القيم والمعايير الأدبية وغير الأدبية، ويؤدي المناخ الثقافي الفاسد إلى وجود نقاد عديمي الضمائر الأدبية، أو على الأقل تتباين ضمائرهم وتتلون بحسب المصالح المادية والمعنوية، فتكون النتيجة حالة من الخلط بين الرواج والقيمة، أو شراء الذمم بالكتابة عن بعض من لا يستحقون الكتابة، وتتدخل الرشاوى المادية المقنّعة أحياناً فيسيل لعاب بعض النقاد لما يمكن أن يحصلوا عليه من العطايا المغرية والمغوية في آن. والأمثلة كثيرة لا يحتاج القارئ الحصيف إلى تسميتها أو تسمية أصحابها فليس ذلك هو المهم، فالأهم هو تأكيد معنى القيمة الإبداعية، وضرورة الإلحاح على ضرورة استعادة سلّم القيم الذي يعين النقاد والقراء على إنزال كل رواية، أو كل عمل أدبي، منزلته اللائقة به، وإلا اختلط الحابل بالنابل، وأنزلنا فرنسواز ساغان - يذكرها أبناء جيلي - منزلة إيزابيل أليندي، وعزيز أرماني الذي عرفناه صغاراً، منزلة يوسف إدريس وهكذا، إلى أن يضيع الفارق بين رجاء الصانع «بنات الرياض» وليلى الجهني «جاهلية» أو تحتل رواية «برهان العسل» محل روايات هدى بركات ورضوى عاشور وعلوية صبح وغيرهن كثر، ونجعل من علاء الأسواني أرفع قامة أدبية من إلياس خوري أو حليم بركات أو حسن داود أو غيرهم في المشرق أو المغرب. ويبقى السؤال الذي يمكن أن يطالبني به القارئ، وهو كيف تمايز بين الروايات فترفع واحدة إلى ذروة القيمة وتنزل غيرها على الدرجات الأدنى من سلّم القيم الأدبية؟ والعلامة الأولى التي هدتني إليها خبرتي هي أن يكون العمل الروائي صانعاً لمنحنى خاص به وحده، محدثاً نوعاً من الخروج عن التيار السائد، ومحققاً بوجوده نوعاً من الإضافة الكمية والكيفية ومثال ذلك رواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» التي أحدثت صدمة للذوق الأدبي السائد، وهاجمها يحيى حقي ولم يتحمس لها محمود أمين العالم، وهاجمها آخرون لأنها صدمتهم، وخالفت توقعاتهم، فلم تكن في الرواية قصة حب، ولا حبكة واضحة، ولا أسلوب أدبي مزخرف بالبيان والبديع، ولا مشهد جميل في الطبيعة، وإنما بصاق وبقايا استمناء ومياه مجار وذكريات سجن، وطرقات تتميز بتلك الرائحة العطنة الفاسدة التي تشير، رمزياً، إلى العالم الذي يحيط بها، أو توازيه رمزياً في الزمن الذي أنتجها بأوضاعه السياسية الاجتماعية الاقتصادية، وأساليبه القمعية التي تصورها لغة مثلمة، عارية الأطراف، حادة، مدببة، تهدف إلى خلق ما سميته «شعرية القبح» أو رمزيته على السواء وهي نوع من الشعرية تمثل أكثر الدرجات الإبداعية احتجاجاً على واقع قمعي ورفضه وتعريته على السواء، ولم يكن من المصادفة أن يدرك قيمة الرواية يوسف إدريس الذى كتب لها مقدمة بالغة الإيجابية. ويمكن أن أضيف إلى «تلك الرائحة» - في هذا المجال - ما فعله جمال الغيطاني عندما لجأ إلى كتب التاريخ المملوكي، واستعان بلغتها التي أعاد إنتاجها كي تكون «هداية الورى في ما جرى في المقشرة» استعداداً لكتابة رائعته «الزيني بركات» التي تظل علامة في كتابة الستينات، ويمكن القارئ أن يضيف أعمالاً أخرى، تبدأ من «ثلاثية» نجيب محفوظ إلى «أولاد حارتنا» والأولى كانت إعادة إنتاج خلاقة لشكل الرواية الأوربية، مركزة البؤرة الروائية على أبناء الطبقة الوسطى التي قامت بثورة 1919 التي تشهدها أحداث الجزء الأول، وتنتهي بالتمهيد لثورة يوليو 1952 التي سرقت المشهد من الشقيقين النقيضين اليميني الديني واليساري الشيوعي على السواء. أما «أولاد حارتنا» فكانت إعادة إنتاج لرمزيات التراث السردية في مواجهة القمع القديم، وذلك في مواجهة القمع الجديد الذى كان يرمز إليه «النظار» و «الفتوات» ولكن من خلال دراما كونية، تبدأ من خلق العالم، وتنتهي بالصدام الحتمي بين عرفة العلم والنظار الظلمة السلطة القمعية المتسربلة بالدين. وما أكثر الأعمال التي يمكن أن نذكرها من تاريخ الرواية العالمية والعربية، الحديثة والمعاصرة على ما أقول، لكي أصل إلى النتيجة نفسها التي يمكن أن يصل إليها القراء بأنفسهم، متذكرين أن الرواية الأصيلة التي أضعها فوق قمة درجات سلّم القيمة، هي الرواية التي تصنع منحى خاصاً بها في مجرى الإبداع الروائي، منقطعة عن التيار السائد، مجسّدة إضافة كمية وكيفية، أما المعيار الثاني فهو أن تضع الرواية أو تصنع بصمة خاصة بها حتى في داخل التيار الذي تمضي فيه، ولا أنسى في هذا المجال معياراً قرأته، ذات مرة، لروائي عالمي مرموق، يقول «إن الرواية ليست إعادة تسخين لطبق سبق طهوه»... بعبارة أكثر فجاجة الرواية ليست طعاماً «بايتاً» أو مطهواً منذ فترة، كأن كل ما يفعله الروائي هو إعادة تسخينه، فمن المؤكد أن الطعام الذي نقوم بتسخينه ليس له طعم الطعام الطازج الذي نقوم بصنعه. خذ، مثلاً، الفارق بين رواية «زقاق المدق» أو «خان الخليلي» أو «بداية ونهاية» من ناحية ورواية حنا مينا «المصابيح الزرقاء» من ناحية موازية، ستجد أن الواقعية النقدية التي صاغ نجيب محفوظ صورها في رواياته الثلاث هي الطعام الطازج الذي أعاد حنا مينا تسخينه في «المصابيح الزرقاء» التي كانت تستهدي بروايات محفوظ، حين لم يكن الروائي قادراً، على أن يبحر مع «الشراع والعاصفة» في مجاله الخاص، ويصنع وجباته الطازجة، واضعاً بصمته الخاصة التي أنتجت روائعه التي جعلتنا لا نتوقف عن تقدير إبداعه الخلاّق. وأنتقل من حنا مينا إلى إبراهيم الكوني الذي لم يكن أول من كتب عن الصحراء، ولكنه كان، ويظل، أول من خلق أسطورة الصحراء، في موازاة حنا مينا الذي صنع أسطورة البحر، لكن الكوني صنع من صحرائه، حيث يرتحل الطوارق، أسطورة كونية، تتناغم فيها الفلسفات بالأساطير بالشخصيات الحية التي لا تنسى. صحيح أن الكوني لم يقصر إبداعه على الصحراء وحدها، فهناك خماسيته عن مدينة طرابلس، ورمزياته ذات المغزى الكافكاوي، مثل «من أنت أيها الملاك» ولكن ستظل الأسطورة الكونية التي نسجها الكوني من الصحراء شعار تميزه وعلامة إبداعه النوعي الذي لا يشاركه فيه أحد، خصوصاً في مدى التفرد الذي يضاعف من القيمة الإبداعية التي لا يرتفع إلى مصافها إلا البناة العظام. ويمكن أن نضيف إلى المعيارين السابقين القدرة على خلق نماذج بشرية، متوثبة بالحياة في الإبداع، فارضة نفسها على الذاكرة، جاذبة عين القارئ لمعاودة القراءة والتأمل، ومراجعة علاقة الشخصية بالأحداث، وكيف تنطوي على أبعاد مركبة، تجعل منها، في حالات كثيرة، حمالة أوجه، مخايلة بتعدد الدلالات، خصوصاً حينما يتعمق الكاتب في صوغ ملامح شخصية متعينة، فردية في خصوصيتها، ولكن يجعل منها «نموذجاً بشرياً» يتحول إلى جمع بصيغة المفرد الذي يكون مثالاً على غيره ومدام بوفارى مثل نفيسة وأمينة نجيب محفوظ وآنا كارنينا تولستوي نماذج من هذا الصنف، شأنهم في ذلك شأن السيد أحمد عبدالجواد وصابر الرحيمي وسعيد الجهني وغيرهم أو غيرهن من الشخصيات التي تجاوز زمانها ومكانها فتغدو نماذج مكتنزة الدلالة متعددة المعنى والمغزى، لا تفقد قدرتها على دفع القارئ إلى معاودة تأملها بوصفها أبعاد الحضور البشري في مرآة الإبداع التي تعلمنا طزاجة الرؤية، وإعادة اكتشاف ما يظل في حاجة دائمة إلى الكشف. ولا يبعد من ذلك معيار الرغبة في معاودة القراءة، وعدم الاكتفاء بقراءة واحدة والمثال السلبي على ذلك رواية «شفرة دافنشي» التي هي نموذج رائج لرواية الحبكة البوليسية التي تعتمد براعتها على إبقاء الرغبة المتوهجة في اكتشاف سر الجريمة التي تبدأ بها الرواية، متنقلة بالقارئ الملهوف على معرفة وماذا بعد؟ من حال غواية إلى أخرى، ومن مفاجأة إلى غيرها، إلى أن يصل القارئ، بعد مراوغات ومخايلات تسمّر عينيه على الصفحات، إلى النهاية التي هي نفسها مفاجأة غير متوقعة... ولماذا ننسى الأشكال المختلفة من البناء، فالرواية هي أكثر الأنواع الأدبية قدرة على التشكل في أشكال لا نهائية، منطقية أحياناً ولا منطقية أحياناً أخرى، على الأقل من حيث الظاهر، مراوحة بين الوحدة الشعورية والتقطع اللاشعوري، تأخذ شكل رسائل متبادلة، أو أصوات متعددة، أو سرد ملحمي يوازيه سرد ذاتي. وأياً كان البناء الذي دفع أحد النقاد إلى القول إن المعيار الوحيد للرواية هو أنها بلا معيار، فالمهم هو منطقها الداخلي المجانس لطبيعة بنائها القابلة للتنوع إلى ما لا نهاية كذلك اللغة التي يمكن أن تتراوح ما بين الشعر واللغة العارية أو المثلمة التي لا تخلو من مشاهد القبح المقصودة، وليس من الضروري أن يكون الأثر النهائي مريحاً، أو بهيجاً، بل قد يبدو كالصدمة التي تدفع القارئ إلى مراجعة النص، ومراجعة وعيه بالعالم الذي يقوده إلى النص، لا على سبيل التسلية، أو إزجاء الفراغ، أو إثارة الفضول، وإنما إنارة الوعي بما يجعله يعاود النظر في كل شيء، ابتداء من النص المقروء، مروراً بمشاعره إزاءه، وانتهاء بالعالم الذي توازيه الرواية موازاة رمزية، متسعة بحدقتي عينيه لترى ما لم تكن ترى، فتصبح أكثر وعياً بحضورها في العالم وبالعالم، وأمضى عزماً في رغبة تغيير هذا العالم الذي تواجهه الرواية بإبداعها الأصيل.