يمكن القول ان احدى أهم العلامات الفارقة التي ميزت النصف الثاني من القرن الماضي تتمثل في الدعوة الى إعادة كتابة التاريخ، التي تزامنت مع تصاعد المد الراديكالي القومي العربي واليسراوي عموماً، لا بد ان عدوى ذلك امتدت الى أهل السلف، وقد ترجمها الشيخ المرحوم عمر فروخ في كتابه "تجديد التاريخ وتدوينه"، 1984 الذي دعا فيه الى إعادة كتابة التاريخ وتعليل احداثه من منظور جديد. وكان المفكر والمؤرخ المغاربي عبدالله العروي دعا الى إعادة كتابة التاريخ في ضوء ما سمّاها ب"الإيديولوجيا القومية المعاصرة"، داعياً الى مركسة جديدة للتاريخ في ماضيه وحاضره، حيث نفسر بكيفية شاملة ومقنعة نقاطاً غامضة في التاريخ العربي الإسلامي وما أكثرها. سقوط الدولة القومية وقيام الدولة العباسية، استمرار القصيدة البدوية في شعرنا الحديث...الخ حيث تتكاثر هذه الأبحاث والتي من شأنها ان تحررنا من بقائنا اسرى التاريخ. بعد عقدين من الزمن على دعوته الى إعادة كتابة التاريخ، عاد عبدالله العروي ليحذر في كتابه "مفهوم التاريخ" من الفوضى التي تسم إعادة الكتابة في هذه المجال، ومن كثرة الأخطاء يقول العروي: ما من مؤرخ يسمح لنفسه بارتكاب خطأ ما حتى يرتكب جميع الأخطاء، وهذا القول، في رأيي، ينطبق على ما يكتبه بعض المؤرخين العرب عن التاريخ العثماني. فقد اصبح هذا الأخير حقلاً للانطباعات والانتقائية ومصدراً لجميع الآثام والشرور عند الذين سمحوا لأنفسهم بارتكاب كل الأخطاء. هذا لا يعني اننا نرى التاريخ العثماني على أنه تاريخ مثالي قاده فاتحون أبرار، فالتاريخ العثماني لا ينتمي الى صنف الشياطين الأشرار، ولا إلى صنف الملائكة الأطهار على حد تعبير رضوان السيد في مجلة الاجتهاد خريف 1999. فالتاريخ العثماني ككل التواريخ وليس خارجها. وبكل أزماته وفتوحاته ونجاحاته وإخفاقاته...الخ. في كتابه الأنيق "عصر التكايا والرعايا: وصف المشهد الثقافي لبلاد الشام في العهد العثماني 1516- 1918" الصادر في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 570 صفحة، يسمح شاكر النابلسي مؤلف الكتاب لنفسه بارتكاب كل الهفوات والأخطاء. فالتاريخ العثماني هو تاريخ مجموعة من الغزاة، من الشياطين الأشرار الذين عاثوا في بلاد الشام نهباً وفساداً واغتصاباً على يد الجنود الانكشارية الذين أرخى لهم الحبل السلطان سليمان القانوني، مع انها، اي دمشق، كانت تسمى "شام شريف". وفي إطار سعيه الى البرهنة على ذلك، يتوقف المؤلف عند شخصية السلطان سليم الأول كنموذج وصورة عن سلاطين آل عثمان ممن سبقوه أو جاؤوا من بعده. فقد كان هذا نموذجاً للغدر ودموياً ومحارباً نادراً، يعشق الدم عشق السيف له، فكان هو والسيف صنوين قرينين عاشقين للموت من اجل الغزو والسيادة والتعابير له. فقد اغتصب الملك من أبيه بايزيد الثاني بعد ان قتله بالسم، وشنق بأوتار القوس شقيقين له كانا ينازعانه الملك، كما قتل خمسة من ابنائه، ثم قتل كل ابنائه ما عدا ابنه سليمان القانوني والمؤلف يظهر لنا هدفه من ركضه وراء جرائم سليم الأول، فصورة هذا السلطان تنطبق على كل السلاطين وبالتالي التمهيد الى إدانة هذا التاريخ برمته. لا بل ان شاكر النابلسي يفاجئنا برؤية ايديولوجية متعدية عندما يذهب الى المقارنة بين الخليفة الأموي معاوية بن ابي سفيان وبين السلطان سليم الأول باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة. وبين التاريخ العثماني وتاريخ بني امية باعتبارهما وجهين للاستبداد، وهنا يظهر الهوى والمزاجية والإيديولوجيا المتسرعة في قراءة التاريخ. ما يهدف إليه المؤلف ايضاً، هو ضربة قاضية يوجهها الى التاريخ العثماني، ويظهر ذلك في تساؤلين يوجهان مسيرة الكتاب ويحكمان على نتائجه بسرعة وابتسار: هل كانت الدولة العثمانية دولة اسلامية حقاً؟ وهل كان السلاطين العثمانيون يحكمون بشريعة وسنة نبيه؟ أعود للقول إن التساؤلين المذكورين يطبعان معظم صفحات الكتاب ويمهدان الى إدانة هذا التاريخ، فالدولة العثمانية كما يقول لم تكن دولة إسلامية. وهنا يستفيض المؤلف في تكرار مساوئ هذه الدولة ومؤسساتها الدينية؟ وأن سلاطين آل عثمان لم يحكموا باسم الإسلام لأن الإسلام منهم براء على حد تعبيره. ويمضي المؤلف في هجومه على سلاطين ال عثمان باعتبارهم رمز الغريب السخيف الطاغية، يقول: "كانت الثقافة في بلاد الشام في جانبها الديني ثقافة الغريب السخيف الطاغي على العقل الموزون. فكانت شعلة الفكر منطفئة لا نار فيها ولا نور" ص252، وذلك باستثناء لبنان من وجهة نظره وكنيسته المتنورة التي قادت عملية الاتصال بالغرب والثقافة الغربية وباتت شعلة ومنارة آراؤه في دور الكنيسة هي قصيدة اكثر من كونها كتابة تاريخية. يمزج المؤلف في اجتهاداته بين النزعة الاقتصادوية التي تصر على ان العثمانيين لم يكونوا قادة فتوحات ولا مجاهدين وحماة لدار الإسلام، بل مجموعة من النهابين، وبين ماركسوية مبتذلة تجد تعبيرها في مقولة "نمط الإنتاج الآسيوي" التي شاعت في أروقة الفكر العربي المعاصر بهدف تفسير الاستبداد الشرقي وكما روّج له ممثلاً هذه المرة بالاستبداد العثماني الذي يستفيض المؤلف في شرحه وتضخيمه. ما يهدف إليه المؤلف هو تفسير جديد للتاريخ، وفي رأيي ان النابلسي لا يسهم في طرح اي تفسير جديد للتاريخ، وأن نقده للمشهد الثقافي في بلاد الشام إبان الحكم العثماني، لا يزيد عن كونه مجموعة من الأهواء والشتائم والنزعة المؤدلجة في قراءة التاريخ العثماني التي نعثر عليها في بعض المقررات الجامعية وفي أروقة المسلسلات التلفزيونية الرخيصة. ولذلك فهو لا يقدم تفسيراً ولا يسد ثغرة ولا يضيف شيئاً بنتائجه المبتسرة وأحكامه المسبقة والجاهزة. * كاتب سوري.