ذكرت غارات الارهاب على اميركا ناسها، اضافة الى ما سببته من موت ودمار، بخطر دأبت الحكومات المتعاقبة على التحذير منه، أي الحرب الكيماوية والبيولوجية. وعندما ركز الاعلام على تدرب بعض من نفذوا الغارات على قيادة الطائرات، صار الخطر الكيماوي اشد قرباً الى الاذهان. فماذا لو ان هؤلاء استأجروا طائرات رش المبيدات الحشرية، وهي مروحيات يسهل التدرب عليها وأستئجارها داخل الولاياتالمتحدة، واستخدموها في رش مواد كيماوية مميتة او جراثيم خطرة فوق مدينة مكتظة بالسكان؟ وكررت شاشات التلفزة الاميركية هذاالسيناريو بهدف رفع الوعي بالخطر الذي تمثله الاسلحة البيولوجية على بلد مثل الولاياتالمتحدة الاميركية. يطلق تعبير "إرهاب البيولوجيا" للاشارة الى ضرب اهداف مدنية باستخدام نوعين اساسيين من الاسلحة هما المواد الكيماوية الحربية والاسلحة الجرثومية أنظر غرافيك:اسلحة بيولوجية وكيماوية. وهنالك نوع خاص من الاسلحة البيولوجية يعمل ضد المحاصيل الزراعية، وقد استخدم في عدد من الحروب. وترتكز الاسلحة الكيماوية الى مواد قادرة على التأثير في اعضاء الجسم وعمله، وتعتمد الضربة الجرثومية على نشر أنواع من جراثيم الاوبئة الفتاكة والسريعة الانتشار. وفي مطلع العام الجاري، قادت المصادفة أحد العلماء إلى تركيب جرثومة قاتلة لا طاقة للبشر على مقاومتها! يومها، لم يكتم جمعٌ من المراقبين السؤال البديهي عن إمكان تحوّل هذه الجرثومة، أو ما هو أشد فتكاً، سلاحاً يحمل شبح الفناء لجموع البشر. بيولوجيا السهولة المميتة وقبل الدخول في التفاصيل، تجدر الاشارة الى ان سبباً مهماً من أسباب خطورة هذه الاسلحة ينبع من كونها سهلة التركيب، ولا تحتاج مواد او معدات معقدة في اعدادها، ويمكن الحصول على مكوناتها الاولية في سهولة، خصوصاً في بلد مثل اميركا. والحال أن هذه السهولة هي السبب في الذعر الذي يسببه شبحها في البلدان الصناعية الكبرى. وفي العام 1989، ادلى البروفسور ماثيو ميسيلسون، من جامعة هارفرد، بشهادة أمام الكونغرس جاء فيها "ان هذه الاسلحة اشد خطراً من الاسلحة الذرية، فهي اكثر بساطة وأقل كلفة... ومن السهولة نسخ برنامج الاسلحة البيولوجية الاميركية، ما يعني ان برنامجنا نفسه يمثل تهديداً خطيراً لامننا القومي!". وظهرت الاسلحة الكيماوية قبيل الحرب العالمية الثانية على يد الطبيب الالماني غيرهارد شرادر الذي ركّب أول فوسفات عضوي قادر على شل الجهاز العصبي للانسان، وسُميّ غاز الاعصاب. والمعلوم ان الاعصاب تفرز مادة "استيل كولين" التي تضبط آلية انقباض عضلات الاطراف والجهاز الحركي والعين والامعاء وانبساطها. ويفرز الجسم مواد تساعد على تفكيك "استيل كولين"، ليتأمن زوال الانقباض ودخول العضلة مرحلة الاسترخاء تمهيداً لانقباض جديد. وبهذه الطريقة تحصل الحركة المستمرة، سواء في الجهاز العضلي او في الشعيبات الرئوية او في الجهاز الهضمي ...الخ. ويتفاعل غاز الاعصاب مع مواد في الجسم ويمنع تفكك مادة "استيل كولين"، فتبقى كل العضلات في حال انقباض مستمرة، ما يؤدي الى تشنجها وشللها. ومن المهم ملاحظة ان المبيدات المنزلية تعمل وفق المبدأ نفسه، وان تركيبها قريب جداً من تركيب غازات الاسلحة. وتشمل قائمة مواد الاعصاب غازات "سارين" و"في أكس" و"سومان" ، التي تنتشر في الجو وتخالط الهواء، وبعضها لا رائحة له، ما يفسر قدرتها على ابادة أعداد كبيرة من البشر. ويذكر ان غاز الاعصاب يتألف من مادة Diisopropyl Florophosphate، فيما يتكون "في أكس" من مادة O-Ethyl-S-Diisopropyl-Aminomdthyl Phosphate، التي تشبه تركيب المبيدات الحشرية من نوعي "باراثيون" و"ميلاثيون". ويتألف غاز الخردل من مزيج "نيتروجين" و"أوكسجين" و"كبريت"، وقوامه مادة Dicholro Diethyl Sulfide، المستخدمة في عدد من مواد رش المزروعات. وعلى سبيل المثال، ترتكز مبيدات الحشرات الى مواد الفوسفات العضوية التي يتألف منها غاز الاعصاب! وبعبارة أخرى، فان اي دولة تقدر على صنع المبيدات، تكون على بعد اقل من خطوة من تركيب غاز الاعصاب وغيره من اسلحة الكيمياء المميتة. الاسلحة الجرثومية وامراضها حاول البشر دوماً الخلاص من الأوبئة التي تهدد حياتهم، في حين تؤيد عقلية القوة بقاء الجراثيم باعتبارها سلاحاً يعطي من يمتلكه تفوقاً! ففي العام 1347، حاصرت جحافل المغول مدينة كافا، التي تسمى اليوم "فيدوسيا"، على ساحل شبه جزيرة القرم أوكرانيا. وقذفوها بالبقايا المتعفّنة لجثث من قضوا بداء الطاعون بهدف نشر الجراثيم فيها وإرغامها على الاستسلام. وتعطي هذه السابقة نموذجاً بدائياً من استخدام الجراثيم كأسلحة دمار شامل في الحروب. ولعل محاربي المغول لم يكونوا أول من جعل نشر الأوبئة سلاحاً، إذ تورد بعض المدوّنات التاريخية ممارسات مُشابهة في أزمنةٍ أبعد. وهنا لائحة بأبرز ما يستخدم في التَسَلّحْ البيولوجي: أ - من البكتيريا: 1 - الأنثراكس داء الجمرة. وهي حمى مميتة تخلف أعراضاً تنفسية حادة وقوية، ومن حسن الحظ أنها قابلة للعلاج بالمضادات الحيوية، لكن الجراثيم تبقى في التربة طويلاً. 2 - الطاعون. وتعرف جرثومته باسم "يرسينا بيستس"، وتخلِّف أعراضاً مثل ارتفاع الحرارة ووجع العضلات والوهن وتضخم الغدد اللمفاوية. وربما أفضت إلى الوفاة بفعل الهبوط الحاد في ضغط الدم. 3 - الحمى المالطية حمى الماشية وتسبب أعراضاً تشبه الإنفلونزا الحادة، مع تعرّقٍ شديد، واضطراب في الأداء العقلي. 4 - حمى الأرانب تولاريميا، ويكفي التعرض لكمية ضئيلة منها، للإصابة بصداع قوي ووهن وسعال، وهي صعبة العلاج وتميت ثلث حالات الاصابة. ب - من الفيروس: 1- الجدري ، وقضى الطب الحديث على هذا المرض، لكنه يقبع في مخازن جيوش الدول الكبرى، نظراً إلى قدرته على قتل ثلث حالات الإصابة. ويسبب بثوراً تصبح هي بدورها مصدراً للعدوى. 2- الحمى الصفراء YELLOW FEVER، ويكفي التعرض لفيروس واحد لنقل الإصابة! وتسبب حمى حادة ونزيفاً وهبوطاً في الضغط. 3- حمى دماغ الأحصنة الفنزويلية، التي تسبب صداعاً حاداً وتقيؤاً وأوجاعاً عضلية تستمر أسبوعين. أسلحة ضد المحاصيل وتحشد الولاياتالمتحدة راهناً قواتها ضد بلد ذي طبيعة قاسية، ولم يشتهر عن جباله سوى ميلها الى تقبل زراعة المخدرات. وفي فيتنام، حاربت اميركا بلداً فيه سهول رز واسعة وغابات كثيفة، برعت قوات الفيتكونغ في الاستفادة منها لتنفيذ حرب عصابات قوية ضد المحتلين. وحاولت القوات الاميركية رفع غطاء الطبيعة عن مقاتلي فيتكونغ عبر رش مواد تؤدي الى سقوط أوراق الشجر. ومذّاك، ذاع صيت "غاز البرتقال" المشتق من مادة ديوكسين، وهي من مواد الصناعة. وما زال أطفال فيتنام يولدون بتشوهات في أجسادهم من أثر "غاز البرتقال"، فالديوكسين مادة يصعب على الجسم التخلص منها،وتعمل على تعطيل النظام البيولوجي عبر تراكمها في الطبقة الدهنية والأنسجة عند الإنسان والحيوان. ويرى بعض العسكر أن أهمية أسلحة المحاصيل تكمن في قدرتها على حرمان العدو من مصادر طعامه ومحاصيله. ومن أشهر المواد المستعملة في صنع هدا النوع من الاسلحة، فطري "تيلليتيا" و"بوسينيا غرامينيس" اللذان يهلكان محاصيل القمح، و"بيريكولاريا" الذي يبيد محاصيل الرز، أضافة الى استخدام حشرات زراعية مثل خنفساء كولورادو التي تقضي على الذرة. نماذج البيولوجيا عندما صنعت فيروسات الكومبيوتر، كان واضحاً ان نموذجها هو الفيروسات الحقيقية التي تصيب الانسان وتسبب امراضا ترواح بين الزكام والايدز. وقيل كلام كثير في الشبه، فالفيروس هو كائن دقيق قوامه حامض وراثي مركز، أي انه يحتوي على شيفرة صغيرة من برنامج وراثة، ما يعطي القدرة على الحياة المستقلة. وتتألف فيروسات الكومبيوتر من برامج صغيرة تقدر على العمل في شكل مستقل. ويميل كلا الفيروسين الى العمل على نحو يمكنه من السيطرة على وظائف الوسط الذي يدخله والهوية التي يزرع نفسه فيها. وفي أواخر القرن العشرين، انتصرت العولمة ومعها النموذج الرأسمالي في الاقتصاد والمجتمع، ما بدا وكأنه نهاية نقاشات الايديولوجيا في المفاضلة بين الرأسمالية والاشتراكية، والتي هيمنت على معظم القرن الذي اختتم على دوي مشروع الجينوم، الذي اعلى شأن التفكير في البيولوجيا واتخذها نموذجاً يحتذى. وعلى سبيل المثال، فان ارتفاع وتيرة حروب الهويات يتصل مع البيولوجيا، اذ يبدو الانتماء الى العرق هو المعقد والمعطى الاساس في هذه الحروب. ومع الانترنت، وهي من قوى العولمة الاساسية، برزت ظاهرة فيروسات المعلوماتية التي توسعت في استخدامها جماعات واشخاص تمثل نوعاً من "ظاهرة تخريب" للقرن الحادي والعشرين. وفي كل الاحوال، وقفت الدول في مواجهة هذه الفيروسات. وعلى سبيل التشبيه، فان بعض قوى الاعتراض في هذا القرن يتخذ هيئة تقربه من فيروس الشبكة، ويتصل مع البيولوجيا من حيث ارتكازه على هوية الجماعة العرق، ومن حيث استناده في الفكرالى موروثاتها. أحمد مغربي [email protected]