} الباحثة والصحافية المصرية انجي سلامة السيد، انجزت قبل مدة رسالة جامعية عنوانها "خمسون سنة فلسطين في السينما"، استندت فيها الى عدد من الدراسات السابقة، والى مشاهدتها الكثير من الأفلام التي انتجت عن القضية الفلسطينية، لتقدم عرضاً موجزاً لتاريخ هذه الأفلام. وهي اذ تبدأ بعرض ما قدمته السينمات العربية عن القضية، تصل في النهاية الى الطريقة التي تغيرت بها السينما الفلسطينية نفسها، في عقد التسعينات، من خلال بعض النماذج. ننشر هنا الفقرات الأخيرة من هذه الدراسة، اضافة الى الخلاصة التي تنتهي اليها الباحثة. اذا كانت سينما الثمانينات ركزت على الأحداث التي عصفت بالقضية الفلسطينية سواء في الشتات أو داخل الأراضي المحتلة، فإن مرحلة التسعينات شهدت منحنى فكرياً ومنحنى في طرح القضية الفلسطينية سينمائياً. فأحداث حرب الخليج الثانية وتداعياتها على المجتمع الفلسطيني، ثم صعود حزب العمل في اسرائيل وتوليه زمام الأمور، والتقارب الذي ابدته منظمة التحرير الفلسطينية مع الأطروحات الاسرائيلية في بناء قاعدة للحوار المشترك، كلها أدت الى تفهم عربي سواء في فلسطين أو في بقية دول المواجهة، أن الحوار السياسي هو الطريق الأمثل لتحقيق رغبة ا لشعوب في السلام. وكان من تمخضات عملية السلام العربية - الاسرائيلية أن تعاملت اسرائيل مع كل دولة عربية على حدة، وأسفر ذلك، بطبيعة الحال، عن انفصال المسار الفلسطيني عن بقية المسارات العربية، الأمر الذي انعكس في شكل تلقائي على السينما. لذا لم يكن من المستغرب ان تتقلص الأفلام التي تعالج القضية الفلسطينية في السينما الوثائقية العربية. على أن الحال لم تكن كذلك في فلسطين، إذ ظهر جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين مثل رشيد مشهراوي وميشيل خليفي حاول الاقتراب أكثر من واقع الشخصية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة نفسياً واجتماعياً، بعيداً من مشاهد العنف والحروب والمذابح. ومن ابرز افلام التسعينات "عرس الجليل"، وهو فيلم روائي لخليفي، و"الزواج المخالف في الأراضي المقدسة" وهو وثائقي للمخرج نفسه عام 1985. ويحكي "عرس الجليل" عن عرس شاب فلسطيني داخل الأراضي المحتلة، تدعى القرية بأسرها اليه، بما في ذلك القيادات العسكرية الاسرائيلية التي تحضر لمراقبة المناسبة ثم تهرب فرس يملكها أحد الفلسطينيين الحاضرين في العرس، وتضل طريقها لتدخل حقل الغام ويحاول الناس انقاذها من دون جدوى، ثم تتكاثف جهود بعض الفلسطينيين والاسرائيليين وينجحون في مهمتهم. والفيلم في مجمله، كما هو واضح، يدعو الى التقارب بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي "لتحقيق السلام والأمن للطرفين". أما الفيلم الوثائقي "الزواج المخالف في الأراضي المقدسة" فيدعو الى ضرورة التعايش السلمي بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في الأراضي المحتلة بعيداً من الخلافات السياسية والتفرقة على أساس الدين أو العرف. والفيلم يستحضر معاينة من خلال الحوارات المباشرة بين عرب، مسلمين أو مسيحيين، ممن تزوجوا يهوداً. ويؤكد هؤلاء ان الحب الذي كلل بالزواج هو أسمى من طاحونة الحرب. تعايش سلمي أما رشيد مشهراوي فلم تكن رؤيته بعيدة من رؤية ميشيل خليفي في ضرورة التعايش السلمي وتجاوز الخلافات السياسية إلا انه كان أكثر تركيزاً على المعاناة التي يعيشها الانسان الفلسطيني، سواء في ظل الاحتلال الإسرائيلي أو السلطة الوطنية الفلسطينية. ومن أبرز أعماله الوثائقية فيلم "دار ودور" الذي يصور معاناة أب فلسطيني لخمسة أبناء اضطرته الظروف ان يكون عامل نظافة داخل إسرائيل. لكن قيام حرب الخليج الثانية واغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة اضطراه الى الرجوع الى المخيم الذي يقطن فيه في غزة، وان يعمل حداداً لتوفير القوت اليومي لأبنائه وابناء اخته التي وافتها المنية، لاشتداد المرض عليها وعدم توافر مصاريف العلاج. واستخدم رشيد مشهراوي عناصر سينمائية مختلفة لتوضيح مغزى الفيلم. فاعتمد مثلاً الحوار المباشر مع رب الأسرة وزوجته وابنائه في توضيح حجم المعاناة اليومية التي يعيشونها. واعتمد الحوار مع شخصيات إسرائيلية ممن يعمل معها رب الأسرة فشكرت ل"محمد" رب الأسرة جهده واخلاصه في العمل. وعمد مشهراوي في التقاط المشاهد الى استحضار الفلسطينيين والاسرائيليين في شوارع تل أبيب، حيث يذهب "محمد" كل يوم للعمل الى جانب اسرائيليين، من دون اظهارهم بالزي العسكري بالذات وهذا الأسلوب مختلف تماماً عما كان متبعاً في السبعينات وأوائل الثمانينات، اذ كان التركيز دائماً على المشاهد التي تستحضر الاسرائيليين بالقبعات الخضر والزي العسكري، ممسكين البنادق الرشاشة والهراوات. وقد ولدت افلام التسعينات نوعاً من الارتباط بين الانسان الفلسطيني والأرض من جهة، من خلال التركيز على الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة ومن جهة ثانية في الشتات نوعاً من الارتباط بين الفلسطينيين والاسرائيليين، خلال وضعهم في أجواء مشتركة، سواء في الشارع حيث يسير المدنيون الفلسطينيون والإسرائيليون جنباً الى جنب أو داخل المنزل حيث يكون أحد الزوجين فلسطينياً والأخر إسرائيلياً يهودياً. ارتباط مبكر بالقضية بعد هذا العرض للقضية الفلسطينية في السينما العربية والعالمية، تجدر الإشارة الى أن أهم ما يميز السينما العربية السياسية ارتباطها، منذ نشأتها، بمعركة التحريري والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي... وهي تشترك في هذه الخاصية مع السينما النضالية في أميركا اللاتينية. وأضحت السينما العربية عموماً والسينما الفلسطينية خصوصاً معبرة عن الهوية السياسية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني، والسياج الوطني العام للصراع العربي - الإسرائيلي. الا ان ما يميز هذه التجارب السينمائية، على اختلافها وتباين منحدراتها وتنوع مضمونها، غياب الرؤية الاستراتيجية أو ضعفها وغياب برنامج ملموس يحدد أهدافها وخططها الآتية والمستقبلية في طريقة التعامل مع تغيير العلاقات السياسية، سواء اقليمياً أو دولياً، الأمر الذي انعكس بالطبع على مضمون أفلام القضية الفلسطينية في السينما العربية والدولية وكمّها. ففي وقت كانت القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي في ذروة الاحتقان في الستينات والسبعينات وأوائل الثمانينات، وكانت الشغل الشاغل والموضوع الأهم في نشرات الأخبار، انتج عدد هائل من الأفلام الوثائقية والتسجيلية عن جوانب شتى في هذه المسألة. وغدت هذه الأفلام تعرض في التلفزيونات العربية والعالمية وفي الجامعات وداخل صالات الأحزاب السياسية، وحتى داخل معسكرات تدريب المناضلين الفلسطينيين، الا ان هذه الحماسة خبت كثيراً. فسينما القضية الفلسطينية، سواء كان الانتاج عربياً أو عالمياً، والتي كونت ذاكرة بصرية وشاهداً على المعاناة الفلسطينية لأجيال بكاملها وطيفاً من أطياف ثقافتها، لم تعد مؤثرة. اذ فقدت استمرار حضورها بعد اتفاقيات السلام التي شهدتها الساحة العربية مع اسرائيل في التسعينات. لكن الواقع الفلسطيني يثبت عكس ذلك. فالتغيير ليس تغييراً في مضمون الصراع وانما في شكله. وحياله انطلق جيل جديد من السينمائيين والمخرجين الفلسطينيين من قاعدة أساسية فهموها واستوعبوها جيداً، ومن ثم بنوا عليها نوعاً مختلفاً من السينما الفلسطينية، مفادها: إذا كان شأن القضية الفلسطينية سياسياً وقد ترك للفلسطينيين وحدهم دون سواهم على طاولة المفاوضات، فإن انعكاس هذا التفرد لا بد من ان يترك للفلسطينيين مسألة التعبير السينمائي باعتبارهم أفضل من يعكس واقعهم اليومي في ظل الاحتلال. وأفاد هذا النوع من السينمائيين من افرازات عملية السلام وفكرة الثنائية القومية والدور الايجابي للمؤرخين الإسرائيليين والفلسطينيين الجدد. وقدمت الأفلام الفلسطينية التي انتجت في التسعينات، جوانب مختلفة للانسان الفلسطيني كانت غير معروفة للمشاهد العادي الذي اعتاد رؤية الفلسطينيين باعتبارهم إما ضحية لأعمال القمع والتعنت الإسرائيلي وإما ثائرين على وضعهم المتردي، فلم يعودوا في أفلام التسعينات تلك الشخصية المقهورة المسلوبة الارادة، بل ظهروا أكثر ادراكاً لرياح التغيير الاقليمي والدولي وأكثر استعداداً للتعايش السلمي مع إسرائيل. وعلى رغم النضج الفكري والنجاح الذي شهده هذا النوع من السينما، ظل انتشار هذه الأفلام، على جودتها، مقتصراً على المهرجانات الدولية. واذا قدر لفيلم وثائقي فلسطيني أن ينتشر أشترته احدى محطات التلفزيون العالمية لتعرضه على شاشتها أو تستعين ببعض اللقطات منه. وهناك اليوم حاجة الى رؤية استراتيجية فلسطينية ودعم مادي ومعنوي من السلطة الوطنية الفلسطينية، والى مزيد من التنسيق مع المؤسسات السينمائية والتلفزيونية العربية لكشف تداعيات عملية السلام على القضية الفلسطينية برؤية فلسطينية عبر الاستعانة بقوة انتشار واختراق الاعلام العربي والعالمي، عبر المحطات الفضائية أو المهرجانات السينمائية الدولية.