فنون عديدة اصبحت في ذمّة التاريخ علاها الغبار وكادت ان تصبح طيّ النسيان - مع زحف العولمة بطفراتها التكنولوجية، على رغم اهميتها وصلتها بالتراث الانساني. من تلك الفنون "مسرح خيال الظل" الذي كان محوراً لمحاضرة القاها حديثاً باحث التراث الشعبي نزار الاسود في المركز الثقافي العربي ابو رمانة علّها تكون صيحة لإنقاذ ما يمكن من هذا الفن الذي ضيّعناه ولتشحذ الذاكرة بما بات على شفير هاويتها. استهل الباحث محاضرته بعرض حي لمسرح خيال الظل مظهراً ما يمكن ان يبثّ عبره من افكار وقيم، ثم عرض مجموعة من الصور لألعاب هي الشخصيات المعروفة في هذا الفن الشعبي كركوز - عيواظ. فشكّل هذا المدخل عتبة اولى امام الحضور للولوج الى هذه العوالم وخصوصياتها. وانتقل بعد ذلك لتعريف مسرح "خيال الظل" وادواته التي تتألف من شاشة كبيرة 2x2 م وهي مصنوعة من القماش الابيض تضاء بشمعة او بسراج فتلقي ظلال الالعاب عليها. وهناك العاب مختلفة الاحجام والانواع يمنحها المخايل التأثير الضوئي المناسب لها. واعطى المحاضر لمحة تاريخية جال فيها في عدد من البلدان ملقياً من خلالها الضوء على تاريخ مسرح "خيال الظل" وكيف تعامل معه الناس في عدد من مناطق العالم. ففي الهند ق.م كان يستمد "خيال الظل" موضوعاته من الطقوس القديمة والملاحم الهندوسية والحكايات الشعبية، والدمى التي تؤدي الادوار كانت تمثل مجموعة من الآلهة والحيوانات الاسطورية، اما في جزيرة بالي الاندونيسية فكان الخيال استمراراً للطقوس السحرية البدائية حين كان يبدأ المخايل عرضه بتمتمات وصلوات لطرد الارواح الشريرة وطلب مباركة الآلهة. وعموماً نجد ان نصوص "خيال الظل" كانت تحمل قيماً اجتماعية اخلاقية، واستمر هذا الفن للقرن التاسع عشر، وكل المحاولات لاحيائه لم تنجح بسبب بعدها عن مفهومه الحقيقي. ولدى حديثه عن "خيال الظل" العربي رأى ان العرائس وجدت في مصر الفرعونية وكانت دمى تمثل الخير والشر والموت والحياة وترتبط بالطقوس الدينية، كما وجدت في الجزيرة العربية. ثم انتشر فن "خيال الظل" في الخلافة الاسلامية في العصرين الاموي والعباسي دليلة، علي الزيبق... وعرف في الموصل وحلب في عهد الدولة الحمدانية. وفي القرن الثامن الهجري عُرف في بلاد الشام وجزيرة صقلية ومن ثم الدولة العثمانية... وحقق انتشاراً واسعاً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في مصر وبلاد الشام حتى وصل القرى النائية. لكن منذ عام 1945 بدأ الاختفاء لمزاحمة الاذاعة والسينما والتلفزيون، وانتهى في جزيرة ارواد وفي الساحل السوري عام 1965. ويذكر ان مسرح "خيال الظل" لعب دوراً ضد الفرنسيين في الجزائر وضد الهولنديين في اندونيسيا، وضد الصليبيين في مصر وضد العثمانيين والفرنسيين في سورية. وتحدث الباحث عن العاب الخيال وانواعها واسمائها قريطم - كركوز - عيواظ - المدلك - ابو أركيله... وبحث في اوصافها واهميتها. فالالعاب تمثل شريحة اجتماعية واسعة لعصر ما كونها منتزعة من المجتمع، وتروي العاب الخيال عموماً تاريخاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ولغوياً وموسيقياً. والمخايل الذي يقوم بروايتها باللهجة العامية المحكية يسعى من خلالها الى تصوير الواقع الذي يعيش فيه فينهل من السير الشعبية والملاحم والاساطير. وبعد ان ابرز الباحث صفات ومهارات المخايل، اكّد على انه منذ مئة عام كان هناك في دمشق عشرون مقهى يقدمون الحكواتي والكركوزاتي كل يوم، وكان ابو شاكر حبيب هو عميد اسرة الكركوزاتية. واختتم المحاضر بحثه بالحسرة لانتهاء هذا الفن مذكراً بما كان له من مكانة سامية ورفيعة داعياً الى اعادة الحياة اليه والى ايجاد مؤسسات تحفظ هذا التراث وتعمل على جمعه واحيائه مجدداً خصوصاً انه ليس من فن لا يمكن تطويره.