حدث الانتفاضة الفسلطينية الجديدة، بما حملته من تضحيات جسام وبطولات شعبية، شكّل ولا يزال اغراء كبيراً للقوى السياسية العربية والفلسطينية لقراءته، ومن ثم تحليله ومحاولة استخلاص الدروس الممكنة منه. ومثل كل حدث سياسي كبير، اختلطت في التحليل الحقائق بالأوهام، كما اختلط الممكن بالرغبات الشخصية أو الحزبية، فرحنا نسمع قراءات لا تكاد تمت بصلة إلى الانتفاضة إلا من الناحية الشكلية، فيما هي تنتمي بكليتها إلى واقع من يحللون... وعيهم، وإمكاناتهم، وحتى أحلامهم ورغباتهم. ومع أن ذلك كله لم يكن جديداً ولا مستغرباً، من قوى سياسية عربية وفلسطينية تعيش حالات قصوى من الاحباط، إلا أن بعض التحليلات التي تناولت انتفاضة الأقصى بلغت في حجومها حد الوصول إلى قراءات تعاكس الحقائق وتتناقض معها، بسبب من انطلاق تلك التحليلات من محاولة تفضيل الانتفاضة على برامج من يحللون وشعاراتهم، وتصنيفاتهم للقوى الفلسطينية الأخرى. ففي حين أدرك كل ذي عقل ان انتفاضة الأقصى جاءت أساساً رداً على "زيارة" استفزازية لسفاح صبرا وشاتيلا ارييل شارون، وما تبع ذلك من رغبة محمومة لرئيس وزراء إسرائيل ايهود باراك في استغلال ذلك في "حرب" عسكرية تكون أقرب إلى المذبحة، على أمل فرض شروطه التفاوضية التي فشل في فرضها خلال قمة كامب ديفيد الثانية، خرجت علينا تحليلات معاكسة تتحدث عن الانتفاضة بوصفها رداً فلسطينياً على "تنازلات" قدمها الوفد الفلسطيني في كامب ديفيد. الغريب والمحزن في تحليل كهذا، أنه يضرب عرض الحائط بحقيقة أن من بدأ الاستفزاز هم الإسرائيليون بطرفيهم، المعارض ارييل شارون والحاكم ايهود باراك، ناهيك عن أن هذا التحليل يضع أصحابه أمام سؤال بسيط: لماذا كل هذه "العقوبة" الإسرائيلية البالغة الدموية، إذا كان المفاوض الفلسطيني يقدم التنازلات المطلوبة ويسير بشكل حثيث باتجاه القبول بالمطالب الإسرائيلية؟ مثل هذه التحليلات البائسة يحلو لأصحابها أن يفصّلوا على الورق واقعاً يرغبون هم في أن يكون حقيقياً، كي تتمكن رؤاهم وأفكارهم وتصنيفاتهم من العيش والاستمرار. وربما انطلاقاً من هذا نراهم يوغلون في القفز إلى الأمام، حين يذهبون في نشوة الفرح بالانتفاضة الباسلة إلى حدود اعتبارها بداية العودة إلى خيار الكفاح المسلح، لا من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس فحسب، ولكن من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر، ناهيك عن قراءة حدث الانتفاضة بوصفه قد أنهى مرحلة التسوية السياسية. واضح منذ زيارة ارييل شارون الاستفزازية للحرم الشريف، أن ما وقع ويقع في فلسطين من مواجهات، وما يترتب على هذه المواجهات من تضحيات... أن كل الأحداث لم تخرج من أرض التسوية السياسية، لا بل انها تقع في رقعة شطرنج المفاوضات ذاتها. ولعل تصريحات بعض قادة السلطة الفلسطينية عن أن إسرائيل انتقلت من التفاوض بالكلمات إلى التفاوض بالرصاص لم تغالِ ولم تبتعد عن الحقيقة. فقادة إسرائيل وعلى رأسهم ايهود باراك اجتاحتهم ولا تزال رغبة في ايقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الشعب الفلسطيني على أمل تحقيق انجاز تفاوضي في واحد من اتجاهين رئيسيين: - ارغام القيادة الفلسطينية على قبول المقترحات الإسرائيلية - الأميركية التي رفضتها في كامب ديفيد. - اعطاء القيادة الفلسطينية ومن ورائها الشعب الفلسطيني صورة حيّة عما يمكن أن تفعله الحكومة الإسرائيلية إذا ما أقدمت القيادة الفسلطينية على إعلان الدولة الفلسطينية من خارج اتفاق مع إسرائيل. وواضح أن زيارة شارون التي كانت الشرارة والمنطلق، لم تكن لمجرد إحداث الاستفزاز فحسب. فهي حملت مغزاها السياسي الواضح في الإعلان عن أن القدس - والمقدسات بالذات - هي خارج نطاق التفاوض والمساومة، وهو إعلان أريد له أن يتم بأكبر قدر ممكن من التحدي الذي سيستدعي تحدياً فلسطينياً، تصب عليه حكومة باراك الفاشية حمم آلتها العسكرية، خصوصاً وأن الجميع - وفي مقدمهم المتفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون - يعلمون استحالة الاتفاق على القضايا المختلف عليها، إلا في حالة واحدة هي أن يغيّر واحد منهما موقفه بالكامل. وهو تغيير ترشح الحكومة الإسرائيلية الطرف الفلسطيني للقيام به وتدرك في الوقت ذاته ان هذا الطرف لن يفعل ذلك، إلا بهزيمة قاسية، تعيد من خلالها حكومة باراك ترتيب أوراق التفاوض في صورة جديدة. صمود القوى الفلسطينية كلها، قيادة ومعارضة وجماهير شعبية، وبالصورة البطولية التي نشاهدها على شاشات التلفزيون كل يوم، بل كل ساعة، هو وحده من خرج على تحليلات وتوقعات مهندسي المذبحة الجديدة. صحيح ان الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من إرادته وحجارة الطرقات دفع ويدفع من دم أبنائه وأرواحهم أثماناً باهظة، إلا أن الصحيح كذلك ان هذا الثمن الجسيم قد ذهب بالواقع في اتجاهات مناقضة للأهداف الإسرائيلية سواء على الصعيد الفلسطيني في الضفة وغزة، أو حتى على صعيد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة منذ 1948 والذي فتحت انتفاضته في جسم القيادة الإسرائيلية جروحاً جديدة لم تكن في حسبانها. هذا وذاك يمكن ان نضيف إليهما ما أحدثته انتفاضة الاقصى ولا تزال لجهة التأثيرات في الشارع العربي الذي راح يتحرك بجدارة أعادت دور الملايين العربية - ولو جزئياً - وأعادت إلى العلن حقيقة ان فلسطين لا تزال - رغم كل الأوهام - القضية المركزية للشعوب العربية في مختلف أقطارها، ناهيك عن تصاعد موجة الغضب ضد الولاياتالمتحدة وبدايات التعبير العملي عن هذا الغضب في صور باتت تقلق الإدارة الأميركية إلى حدود الإعلان عن اغلاق العديد من السفارات الأميركية في الوطن العربي والعالم. ذلك كله يستدعي تأطيراً لنشاط الإسناد الشعبي العربي لهذه الانتفاضة الباسلة، لكنه يستدعي بصورة أكثر إلحاحاً حواراً فلسطينياً جاداً وعميقاً ويشمل القوى السياسية كافة لتوحيد الجميع حول برنامج وطني واضح، يكون هو الثابت في المفاوضات المقبلة. أما من يصرون على الغرق في الأوهام، وتوزيع الاتهامات يميناً وشمالاً فهم يعزلون أنفسهم أكثر فأكثر عن حركة الشارع، ويعزلون حركتهم السياسية عن الحياة ذاتها.