اتصلت به قبل ايام لأشكره، متأخراً، على كلمات رقيقة كتبها في "الحياة" عن والدي "الحاج زهير" الذي سبقه في تلك الرحلة الى "الضفة الاخرى"، فوجدت في الدقائق القليلة من حديثنا كم هو بالغ الرقة واللباقة، وفيّ لأصدقائه. وعللت النفس ب"كنز من الذكريات" عن تلك المرحلة الذهبية من عصر ازدهرت فيه الصحافة العربية انطلاقاً من لبنان واحتضنت اقلام اصحاب المبادئ الملتزمين بالانسانية، المنفيين طوعاً او قسراً، الباحثين عن ملاذ للحرية وبريق أمل. لم اكن اعرفه من قبل، فنحن جيل الصحافة الحالي المحروم من نعم التواصل والتلاقي والود، كما كانت في ايامهم. كان ذلك الاتصال الاخير وتواعدنا على لقاء لم يتم، اذ غادرنا فجأة، ملتحقاً باتراب له سبقوه الى حيث الخلاص الاخير من مجتمع عاجز عن ايلاء نخبته الثقافية حق التقدير. بدا لي وكأن لسان حاله يقول: "الناس ناس والزمان زمان"، شأنه شأن الذين عرفوا عن حق معنى الرسالة الادبية والاخلاقية، وعبء المسؤولية الملقاة على عاتق اصحاب القلم. فقد تغيّر الناس وتبدّل الزمان، ولم تبق سوى أطلال ذكرياتهم، مبعثرة، على رمال شاطىء بيروت حيث وقفوا طويلاً ينتظرون، سفينة النجاة تقلهم الى عالم اكثر عدلاً وانصافاً، بعدما زحف التصحّر على واحة الحرية... بيروت الخمسينات والستينات. كنت صغيراً ارتاد مجالسهم خلسة، فتشدني سعة المعرفة والثقة بحتمية التغيير الموعود، الآتي من عرق المعاناة في الكفاح ضد القيّم المادية التي كانت تتربص برصيدهم الادبي والمعنوي ولا تطاوله ابداً. اذكر اول عهدي بالقراءة، "شهرزاد" تلك المجلة الراقية، شكلاً ومضموناً، وفيها مقالات لعاصم الجندي الشاب آنذاك، وصورته التي تنم عن حسب راقٍ، فارتسمت تلك الصورة الانيقة له في ذهني ولا تزال. شامخ القامة، عاصم الجندي بملامحه البورجوازية، سليل عائلة تربى ابناؤها على الكرامة والشهامة فانتهوا في المنافي، كما هي العادة في زمننا العربي هذا. غادرنا خلسة، وكأن موعد رحيله بات اليوم ملحاً اكثر من قبل، فانطوى على نفسه وأذعن للقدر الذي كان يتربص به منذ تلك الرصاصة التي أصابته في الرأس ولم يكن حينها مستعداً للفراق، فقاوم. قاوم سنين ليجدهم، يتساقطون كأوراق الخريف، رفاقاً له يرحلون واحداً تلو الآخر، حتى خشي ألا يجد من يرثيه، كما قال في رثائه للحاج زهير قبل اسابيع قليلة. كان عاصم الجندي سياسياً انتحارياً، ذلك ان الوفاء والالتزام طبعا فكره السياسي، فكانا عبئاً ثقيلاً عليه في عصر تجار الشعارات المزيفة الذين اجتاحوا بيروت اواسط السبعينات واحتكروا لانفسهم التنظير في العمل الثوري. اما هو فلم تكن تلك قماشته، والدليل على ذلك منزله المتواضع العابق بالعنفوان الذي زرعه في بناته الثلاث، وربتهم عليه رفيقة دربه السيدة الهام. بدأ عاصم الجندي العمل في منفاه اللبناني مدرساً، شأنه شأن مبدعين كثيرين سبقوه الى الهجرة امثال بلند الحيدري ويوسف الخال وغيرهما، فكان له تلامذة كثيرون، علمهم ان احترام قوم لغتهم، اكثر اهمية من التقيّد بتقاليد بالية. وكان متحرراً، الا من هذا الالتزام بأصول اللغة باعتباره مفتاح جماليتها. كان منفتحاً على الثقافة الغربية، من دون الانجراف في تيارها، ولم يكن انفتاحه على الافكار "العصرية" حائلاً دون تمسكه بإرث اجداده، فجمع بين الاتجاهين في شكل عجز عنه كثيرون. لم يكن كتابه "كارلوس، الوجه الآخر" اهم مؤلفاته هو الذي كتب "كفر قاسم" و"عز الدين القسام" وغيرهما، لكنه كان قطعاً اكثرها اثارة للجدل، فالغرض من ذلك الكتاب كان تذكير العرب بذلك "الثوري" الفنزويلي الذي تبنى قضيتهم، بعدما تجاهلته الانظمة التي استخدمته، جرياً على عادتها "البراغماتية" في طلب البقاء والاستمرارية. نم قرير العين يا أبا ريم، يرثيك الطيّبون والاوفياء في غربتهم، داخل الوطن وخارجه. ثراك ليس بعيداً من تلك الارض التي قاومت ورفاقك بفكركم وقلمكم خمسين عاماً، على أمل ان تروها محررة من دنس الغزاة. لا نواسيك انك رحلت ورفاقك، وذاك الحلم دونكم، فقد لا يكتب لجيلنا نحن ايضاً ان نراه يتحقق. عاصم الجندي، لم تبخل بدمك مداداً خلال مسيرتك الطويلة مع النضال بالكلمة الحرة الشريفة، لكنك لم تجد في ساعات صراعك مع الموت من يمدّك بالدم... ترى هل كانت فئة دمك نادرة هي الاخرى، ندرة الاوفياء الشامخين امثالك؟