يلاحظ برنارد لويس في كتابه "الإسلام في التاريخ"، ومارتن كرايمر في مقدمته لكتاب "الاكتشاف اليهودي للإسلام" "أن اليهود الناطقين بالألمانية اجتهدوا خلال القرن التاسع عشر في تأكيد علاقة قربى ثقافية وحضارية مع المسلمين"، والظاهرة التي يلحظها كرايمر تعدّت اليهود الألمان لتشمل يهود أمم أوروبية أخرى. وتُقرأ مقارباتهم الإيجابية للمسلمين والعرب خلال تلك الحقبة في ضوء عوامل ثلاثة: أولاً: العلاقات الاستبعادية المتبادلة بين اليهود والمسيحيين، والعوائق التي كانت البورجوازيات الأوروبية القوموية تفتعلها لتعوق مساعي المتنورين اليهود الى الاندماج، في وقت كان، كما يذكر مارك كوهن في كتابه "الإسلام واليهود"، "يهود الإسلام يعيشون مع الغالبية الإسلامية حياة أكثر أمناً وأسهل اندماجاً بما لا يقاس من تلك الحياة التي كانوا يعيشونها بين إخوانهم في أوروبا". وزين التناقض بين أسلوبي حياة يهود الغرب ويهود العالم الإسلامي صورة الإسلام الى درجة جعلتهم يتحدثون عن إسلام طوباوي ابتدعه في أوروبا القرن التاسع عشر مثقفون يهود محبطون من جراء تباطؤ مسار اندماجهم في "مجتمع الأغيار". ثانياً: صعود الحركة الرومانتيكية المضادة للتوجهات النفعية والصناعية في أوروبا وما نشرته من تخييل للشرق الدافئ، مرمزاً بحضن الأم ونقاوة الصحراء، وشهامة الفارس العربي الشجاع، الواثق، والحركي المتخفف في حركته من قيود الثروة وأثقال التملك، ما جعل الانتساب الى هذا المثال العربي والإسلامي الجميل موضع افتخار اليهودي المنتقص والمهمش في المدينة الأوروبية. وكان يرفد حنين اليهود الى "دار الإسلام" تدهور وضع التجار والحرفيين اليهود المرتبطين بالاقتصاد الزراعي في مرحلة صعود الرأسمالية. ثالثاً: الأضرار الاجتماعية - الاقتصادية التي لحقت باليهود والمسلمين من جراء نجاح الدول الأوروبية في فرض حمايتها على "الأقليات المسيحية" في دول المشرق التابعة للسلطنة العثمانية وما حركته من هواجس عند المسلمين واليهود ترسبت منذ أزمنة حروب الفرنجة. ويذكر لويس في كتابه "المسيحيون واليهود في الامبراطورية العثمانية" في سياق عرضه لردود "ىهود الإسلام" على الهجمة الأوروبية على الشرق "ان اليهود تابعوا جهودهم المزمنة لكسب تعاطف المسلمين ونياتهم الحسنة وذلك بإظهار ولائهم للدولة العثمانية والانحياز للمسلمين خلال حقبات التوتر المسيحي - الإسلامي". في ضوء هذه العوامل يمكننا قراءة مقاربات الباحثين اليهود الإيجابية للإسلام خلال القرن التاسع عشر التي سبقت في موضوعيتها النسبية مقاربات مجايليهم من المستشرقين المسيحيين خلال الحقبة نفسها. المتنورون كان اللاهوتي الألماني ابراهام غايغر 1810 - 1874، أحد أهم المتنورين البارزين في القرن التاسع عشر الذين اعتبروا اليهودية ديناً لا قومية، وممثلاً لتيار يهودي أخذ على المسيحية عزوفها عن الحياة الدنيوية، وتجسيدها الله في المسيح وعقيدتها المعطِّلة في رأيه، للبحث العلمي، ومؤمناً في المقابل بصدقية التوحيد الإسلامي وتقارب الرؤيتين. وكان غايغر "أول الذين خرقوا تقليد التحامل على الإسلام"، في بحث نشر عام 1833 بعنوان "أثر اليهودية في الإسلام"، ضمَّنه الإشادة بالإسلام وما ولده من مناخات مواتية لازدهار العلوم والفلسفة، خلافاً للمسيحية التي غذَّت النفور من العلم والعقل". وأكد غايغر قناعته أن نبي الإسلام كان صادق الإيمان برسالته القدسية الكونية، مخالفاً بذلك تقليداً استشراقياً أوروبوياً برغماتيكياً درج على تجريد الرسول صلى الله عليه وسلم من أبعاده الروحية والرسولية. ويحتل المؤرخ واللاهوتي اليهودي الألماني، غوستاف فايل 1808- 1889 مكانة بالغة التميز بين مؤرخي القرن التاسع عشر لغزارة إنتاجه، وأصالة مصادره المعرفية، وتوخيه الدقة في البحث، وسخائه في بذل الجهد الذي أسفر عن تقديم العرب والمسلمين في حلة بهية للجمهور الغربي. وحرص فايل على التعرف الى العرب والمسلمين عن كثب، فزار الجزائروالقاهرة التي أمضى فيها أربع سنوات 1813- 1835 مدرساً الفرنسية في مدرسة الطب، ودارساً اللغة العربية على محمد عياد الطنطاوي وأحمد التونسي. وبدأ فايل سيرته الفكرية بأبحاث تقصّى فيها المؤثرات اليهودية في تاريخ الإسلام، أتبعها بترجمة كتاب "ألف ليلة وليلة"، وهي أول ترجمة كاملة عن النص العربي الى الألمانية. وعام 1837 أنجز فايل كتاباً في "أدب العرب الشعري"، وآخر عن "النبي محمد" عام 1843، يصفه لويس في كتابه "الإسلام في التاريخ" بأنه "جاء متحرراً من الانحياز والنزعة السجالية، ومبنياً على معرفة نقدية بالمصادر العربية، ومسترشداً بتفهم وتعاطف مع المعتقد الإسلامي وتقوى المسلمين، متيحاً للأوروبيين الفرصة الأولى لرؤية محمد صلى الله عليه وسلم من منظور إسلامي، محققاً بذلك مقاربة أكثر دقة وشمولاً لمكانته في تاريخ البشرية". واعتمد فايل في كتابه "سيرة النبي" على مصادر عربية. ويذكر أن واشنطن أرفنج، أبو الاستشراق الأميركي، اعتمد على مرجعية فايل في كتابه عن النبي ص ونوَّه بفضله. لكن أهم مؤلفات فايل وأعمقها أثراً وأبلغها دلالة كان مؤلفه شبه الموسوعي "تاريخ الخلفاء"، الذي كتبه بين 1846 و1851، وتابع فيه تاريخ الشعوب الإسلامية منذ "فجر الدعوة حتى زمن السلطان سليم". وأراد فايل أن يكون تاريخه للخلفاء العرب والمسلمين بمثابة رد حضاري على "تاريخ البابوات" الذي وضعه فون رانكه. وكان محرك الرد على رانكه اعتقاد فايل أن تاريخ الخلافة الإسلامية لا يقل أهمية عن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية أو تاريخ الامبراطورية الرومانية. واعتمد فايل في "تاريخ الخلفاء" على أعمال المؤرخين المسلمين الطبري، المسعودي، ابن قتيبة، ابن هشام، البلاذري وسواهم الذين درس مخطوطاتهم الأصلية وقارن بينها وأسقط منها ما تبدّى له من أهواء المؤرخين المتمذهبين. واشتمل على تاريخ الخلافة في مصر وإسبانيا. وكتب فايل كذلك "مقدمة لتاريخ الشرق الأوسط"، وبعد وفاته أهدى أبناؤه مجموعة المخطوطات العربية التي اشتملتها مكتبته لجامعة هايدلبرغ التي عمل فيها محاضراً، ويُذكر للباحث اليهودي الفرنسي يوسف ده رنبورغ أنه أول من قدم للغرب الأوروبي "أسامة بن منقذ"، الذي اشتهر بتأريخه للممالك الصليبية من وجهة عربية - إسلامية. وأبرز الشاعر والمسرحي الألماني اليهودي هاينه في مسرحيته الشعرية "المنصور" 1823 تسامي الروح الإسلامية عن المشاغل الدنيوية. وعلى رغم تمازج الدوافع القومية والدينية في أدبيات بنجامين دزرائيلي، شدد الروائي البريطاني على الأصول الإثنية والدينية المشتركة لليهود والعرب، واصفاً اليهود في روايته "تانكرد" بأنهم "عرب موسويون تشدهم لليهود أواصر العرق"، كما يصف الديانات السماوية الثلاث بأنها "ديانات عربية". لكن أبرز الباحثين والمؤرخين اليهود الذين أسهموا في تظهير صورة الإسلام للغرب الأوروبي هو المجري غولدزيهر 1850- 1921 الذي أفرد له ألبرت حوراني مكانة عالية في كتابه "الإسلام في الفكر الأوروبي". زار غولدزيهر بيروت ودمشق والقدسوالقاهرة التي أمضى فيها سنوات العمر الجميلة، كما يقول، وتعرف من خلالها الى برامج الأزهر الدراسية بعد أن حصل على إذن بذلك، وصلى جماعة في جوامع المدينة، وبنى صداقة متينة مع جمال الدين الأفغاني وثّق أواصرها عداء الرجلين للهجوم الاستعماري الأوروبي على بلاد المسلمين والعرب. ويذكر م. كرايمر أن غولدزيهر كان يحض المصريين "على تطوير مقاومة ثقافية إسلامية لوباء السيطرة الأوروبية". وجاهر بتأييد ثورة عرابي الوطنية المصرية ضد البريطانيين، كما أشهر عداءه للصهيونية مؤكداً اعتقاد المتنورين اليهود أن اليهودية دين لا قومية، "وأن حل المشكلة اليهودية هو في اندماج اليهود بأوطانهم لا في انفصالهم عنها". ويذكر كرايمر أن غولدزيهر كان متجذراً في هويته المجرية، وأن زيارته للقدس أشعرته بالغربة. وينقل عنه قوله "حين عدت من القدس الى المجر شعرت أني أعود الى بيتي". وتشف كتابات غولدزيهر عن اعتقاده أن الإسلام هو الأنقى بين الأديان، وأنه "مقياس لصحة توحيد الأديان الأخرى، ومثال يؤهله اكتماله لأن يكون جديراً بالاحتذاء من الأديان الأخرى". ويظهر إيمان غولدزيهر بمبدأ التوحيد الإسلامي الجامع في يومياته حيث يكتب: "ان الحقبة التي عشتها في القاهرة حولت مجرى أفكاري ومشاعري نحو الإسلام بالكامل. ولم أكن أكذب حين قلت اني آمنت برسالات محمد صلى الله عليه وسلم النبوية ورسوليته وبات ديني هو دين الأنبياء الكونيين". وهذا يعني أن غولدزيهر تقرَّى في الإسلام اشتماله للرسالات التوحيدية السابقة، وأنه أدرك فيه ما أدركه غوته القائل "إذا كان الإسلام هو التسليم لله فإننا نحيا جميعاً في الإسلام". وتلمس غولدزيهر في الإسلام عقلانية افتقدها في يهودية فارقت أصالتها التوحيدية حين ابتعدت عن توحيد الأنبياء العبريين، وأقام على رجاء إصلاح اليهودية والعودة بها الى حقيقتها الأصلية من دون ان يتحول عنها الى الإسلام. وحاجج غولدزيهر المستشرق أرنست رينان الذي اشتهر بتحامله على الساميين عرقاً وثقافة. كتابات إسلامية الى هذه الرموز اليهودية التي لم تنكر أصولها في المكان والزمان والثقافة والعرق نضيف أسماء الألماني وولف 1888 - 1953 الذي وضع، هو الآخر، كتاباً عن "النبي محمد" صلى الله عليه وسلم ضمنه إعجابه بمثاليات الإسلام، وكتابات النمسوي ليوبولد فايس 1900- 1992 الذي تحول عن اليهودية الى الإلحاد وشارك الألماني وولف إعجابه بما وصفه ب"عداء الإسلام للروح المادية الغربية". ويلاحظ م.كرايمر "أن الاعتقاد بروحانية إسلامية مضادة للمادية الغربية شكل قطباً جاذباً للباحثين اليهود كافة الذين شعروا أن إيمانهم قد فشل في معترك حواره مع الرأسمالية عن إقامة التوازن بين المادة والروح". ويذكر أن كل الباحثين والمؤرخين اليهود الذين ذكرنا، ومعهم نولدكه وبالغريف، عبروا بنبرة عالية عن عدائهم للهجمة الاستعمارية الأوروبية على الدول الإسلامية والعربية، وتوجسوا من سيادة غربية تنقل جرثومة العنف الأوروبي ضد اليهود الى البلدان العربية والإسلامية. وأكد هؤلاء الروابط العرقية والجغرافية والدينية - الثقافية بين اليهودية والإسلام، "وتحسسوا"، كما يقول لويس، بمشاعر "العرفان بالجميل وعاطفة المودة والمصير المشترك". لعبت هذه الأحاسيس دورها في تنمية المشاعر المؤيدة للمسلمين في الأوساط اليهودية، "لكن رابطة الثقافة الدينية هي التي مكنت اليهود، بمن فيهم الليبراليون الذين تحرروا في أوروبا الغربية، من التوصل الى فهم فوري وحدسي للإسلام". كما يقول لويس. وأكد مارك كوهن، أستاذ التاريخ في جامعة برنستون في كتابه "الإسلام واليهود" "أن التسامح الإسلامي - اليهودي المتبادل شكل من دون ريب عنصراً، تضافر مع غيره من العناصر الاقتصادية والاجتماعية المتداخلة بين اليهود والمسلمين، وأفضى الى تلاشي الحدود الفاصلة بين أهل الديانتين". ولا شك في أن أهم خلاصات لويس النظرية يتمثل في قوله، "ان التحدث عن تقليد يهودي - مسيحي بات موضة رائجة في يومنا هذا" ويمكن التحدث في الدرجة ذاتها من الإنصاف عن تقليد يهودي - إسلامي، ذلك أن الدين الإسلامي، مثله مثل المسيحية، يرتبط بشكل وثيق باليهودية التي تقدمته زمنياً". ويرجّع لويس قناعة غولدزيهر وغوستاف فايل وس.و. بارون وآخرين كثر، ب"أن العلاقة بين اليهودية والإسلام أقوى من علاقة اليهودية بالمسيحية"، ويسند الإثنان هذه القناعة الى احتواء الديانتين على شريعة قدسية نصّية ملزمة، وتقليد ثقافي شارح ومفسر لها. ويلاحظ لويس في كتابه "الإسلام في التاريخ" أن كلمة "دين" العربية تعني "قانون" في اللغة العبرية. الى المؤرخين واللاهوتيين والبحاثة اليهود في القرن التاسع عشر، ينضاف مؤرخون وعلماء في القرن العشرين تحدروا من أصل يهودي، وبذلوا جهوداً علمية مخلصة أثرت حقل الدراسات الشرقية كان في طليعتهم العلامة صاموئيل نوح كرايمر، أحد أهم المصادر المعرفية في حضارات الرافدين، وبين إنجازاته المهمة تبيان الكثير من الأصول الثقافية السومرية والأكادية للديانة العبرية. ومن الصف اليهودي خرج مستشرقون أمثال ابراهام ليون وكلود كاهن ومكسيم رودنسون أشهروا عداءهم للصهيونية وقاربوا اليهودية والإسلام بمنهجية علم الاجتماع الماركسي. ويصف ألبرت حوراني في كتابه "الإسلام وفلاسفة التاريخ" الباحث في تاريخ الشعوب العربية والإسلامية كلود كاهن 1909- 1991 بأنه "قدم في أعماله المقاربة الأكثر منهجية في تطبيق المفاهيم الاجتماعية الأكثر نضجاً على الوقائع الإسلامية". ولا حاجة الى التعريف ب رودنسون ولد عام 1915 الذي اتبع المنهج عينه في مؤلفاته "محمد نبي الإسلام"، و"الإسلام والرأسمالية" و"الإسلام والماركسية"، وكانت آخر مؤلفاته عن الصهيونية والدولة العبرية، وترجم معظم أعماله الى العربية. وعلى رغم تعاطف المؤرخ الأميركي اليهودي لويس مع الصهيونية والدولة العبرية، إلا أن الرجل يبقى إحدى أهم المرجعيات المعرفية بتاريخ الشرق الأوسط وأقلياته. ولا يمكن حشر كتب له مثل "العرب في التاريخ"، و"الإسلام في التاريخ"، وأبحاث مثل "يهود الإسلام" في الإطار الاستشراقي كما وصّفه إدوار سعيد. * استاذ الدراسات الحضارية والأدب المقارن في الجامعة اللبنانية.