اعطى بيل كلينتون الشرق الاوسط من وقته ما لم يعطه رئيس اميركي سبقه، وما لن يعطيه جورج بوش، والنتيجة ان الشرق الاوسط اليوم اكثر خطراً على السلام الاقليمي والعالمي، منه في 13 ايلول سبتمبر 1993. اذا كان من كلمة تصف كلينتون فهي، ببساطة، انه "محتال"، الا انه لم يستطع ان يحتال على كل الناس كل الوقت، وانتهى ورأيه انه "بعد 500 سنة ستكون الجرائد غباراً، ولن يصمد الا قوة ما شعرنا به وفعلنا وجماله ونزاهته". وهو قال هذا الرأي سنة 1994، وكرر مثله في السابع من هذا الشهر. كلينتون يتمنى هذا، الا ان ذاكرة التاريخ لن تكون انتقائية، وستسجل له جمال ما أنجز أو بشاعته. خلال ولايتَي كلينتون حققت الولاياتالمتحدة فائضا بترليونات الدولارات، وهبطت نسبة البطالة الى ادنى حد لها منذ 30 سنة، وأُوجدت 22 مليون وظيفة جديدة. وكان مؤشر داو جونز، عندما تسلم الحكم في مثل هذا الشهر من سنة 1993 سجل 3241 نقطة، وهو الآن في حدود 10500 نقطة خسرت البورصة ثلاثة ترليونات دولار من قيمتها في السنة الاخيرة لكلينتون في الحكم. كلينتون، وهو اول رئيس ديمقراطي يفوز بولايتين متتاليتين منذ فرانكلن روزفلت، سجل انجازاته في تقرير من 40 الف كلمة وهو يغادر البيت الابيض، الا ان التقرير لن يكتمل الا اذا زدنا عليه ما يريد ان ننسى، أو ما يعتقد انه سيُنسى بعد 500 سنة، مثل فضائحه الجنسية الكثيرة، وهو دفع 850 الف دولار لبولا جونز، او ثلاثة أضعاف ما طلبت في البداية، وقال عن مونيكا لوينسكي "لم أمارس الجنس مع هذه المرأة"، ثم اعترف وصوّت الكونغرس على عزله. ربما كانت الفضائح الجنسية أهم لزوجته هيلاري منها لنا كعرب، الا ان الواقع اننا دفعنا ثمنها. في 20 آب اغسطس 1998 أطلق الاميركيون 75 صاروخاً "كروز" على ما زعموا انه معسكر للارهابيين في أفغانستان، ومصنع للأسلحة الكيماوية او الجرثومية في السودان. وجاءت الضربة بعد ثلاثة ايام فقط من نظر محكمة اميركية في شهادته الكاذبة عن مونيكا لوينسكي التي واجه العزل بسببها. ونعرف الآن ان الاميركيين ضربوا مصنع ادوية قرب الخرطوم، ولم يعترفوا بالخطأ، ولم يعتذروا، ولم يدفعوا تعويضات. وفي كانون الاول ديسمبر 1998، ردت الولاياتالمتحدة على طرد العراق المفتشين الدوليين بشن حرب مصغرة عليه دامت اياماً. وكان الكونغرس يستعد في الوقت نفسه للتصويت على عزل كلينتون بسبب ادلائه بيمين كاذبة وعرقلته العدالة. وطلب الرئيس تأجيل التصويت حتى تنتهي الحرب على العراق الا ان الكونغرس رفض. الكونغرس صوّت على عزل الرئيس، فكانت تلك اول مرة يصوّت فيها الكونغرس مع العزل، وعلى امتداد رئاسات 42 رجلاً منذ جورج واشنطن. الا ان كلينتون نجا من الطرد المهين لأن مجلس الشيوخ لم يجد الغالبية المطلقة المطلوبة لعزله. بكلام آخر، كلينتون مارس بحق السودان والعراق ما مارس مع مونيكا لوينسكي، غير ان الاذى الاكبر كان من نصيب الفلسطينيين. كلينتون يؤيد كلينتون، فليس عنده الالتزام العقائدي بقضية تكبله، وهو يؤيد اسرائيل لأن تأييدها يفيده، وقد دخل عملية السلام مؤيداً لاسرائيل، وخرج منها أكثر تأييداً كان آخر اجراءاته في البيت الابيض العفو خلافاً للقانون عن مارك ريتش، وهو بليونير يهودي اميركي مطلوب للعدالة في بلاده، ويقيم في سويسرا، وقد تبرع لاسرائيل في السنوات الأخيرة بحوالى 200 مليون دولار، وطلب ايهود باراك شخصياً منه ان يعفو عنه. ولعل كلينتون في انغماسه الكلي في قضية الشرق الاوسط تصور انه يستطيع ان يقدم الى اسرائيل خدمة تردها له ولزوجته أضعافاً، ولعله لم يقدر ان خدمة اسرائيل لا يمكن ان تتحقق الا على حساب الفلسطينيين. وهو حاول الاحتيال عليهم عبر حاخامات الوزارة ومباشرة، وبأرخص الطرق، فقد قال للمفاوضين الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد مشيراً الى مساعديه: انا لست يهودياً مثل هؤلاء. يمكنكم ان تثقوا بي. الا انهم لم يثقوا به لانه اتى بهؤلاء المساعدين الذين خرجوا معه من الحكم، وهم يتهمون الفلسطينيين بعرقلة السلام، حتى ان ريتشارد هولبروك، سفيره لدى الاممالمتحدة الذي كان مرشحاً لخلافة الافعى مادلين اولبرايت في وزارة الخارجية، حمل على الاممالمتحدة نفسها وهو يغادرها، وقال انها عرقلت عملية السلام لأنها دانت اسرائيل، ووفرت منبراً ضدها. هل كان عدم ادانة اسرائيل سيحقق السلام؟ المشكلة ليست في العالم الذي دان اسرائيل وندد بأعمالها في الاممالمتحدة، وانما في ادارة اميركية تصرفت بطريقة اكثر اسرائيلية من اسرائيل نفسها، فاعتقد الرئيس كلينتون انه يستطيع ان يخدع كل الناس كل الوقت، او على الاقل يخدع الفلسطينيين ليمضوا في عملية السلام الاميركية - الاسرائيلية. واذا لم ينجح في الخداع الدائم او الموقت فالعالم سينسى هذا كله بعد 500 سنة. السنة 2500 بعيدة، غير اننا في السنة 2001 والذكريات حية.