يصدق على الحركة الاصلاحية في ايران اليوم ما جاء في المثل الايراني: "الشجرة تتحمل كل صقيع الشتاء وثلوجه، على أمل الوصول الى الربيع". وقد يُلخص هذا المثل طبيعة المخاض السياسي والثقافي لمعسكرين أو لرؤيتين كبيرتين "اصلاحية ومحافظة" في ايران، تمسكان بزمام القرار السياسي وبمؤسسات الثورة والدولة. وجاءت صناديق الاقتراع بكل منهما منفردة الى السلطة منذ الثورة الاسلامية عام 1979 حتى انتخابات الرئاسة عام 1997، وما لبثت ان جمعتهما معاً في السلطة منذ هذه الانتخابات... ولكن مع مواصلة الاصلاحيين صعودهم الشعبي، ومواصلة المحافظين تراجعهم مع تحصنهم في مراكز يغلب عليها طابع التعيين لا الانتخاب. هذه المعادلة ميزت ولاية الرئيس محمد خاتمي على مدى السنوات الأربع التي توشك على نهايتها، مع اقتراب الانتخابات المقررة في حزيران يونيو المقبل. وهي معادلة عنوانها "التوازن بين القوى الثورية"، رغم ان المعطيات الانتخابية تغيرت جذرياً مع انتزاع الاصلاحيين اثنتين من السلطات الثلاث: رئاسة الجمهورية والحكومة أي السلطة التنفيذية، ورئاسة البرلمان وحصد غالبية مقاعده، أي الاستئثار بالسلطة التشريعية. وبقي الاصلاحيون في منأى عن القضاء، اذ ان رئاسته تتم بالتعيين من المرشد، كما استطاع المحافظون على مدى السنوات الماضية تعزيز وجودهم داخل الجهاز القضائي، وما زال الأمر على حاله، خصوصاً خلال سنوات "اعتكاف" الاصلاحيين وابتعادهم ثماني سنوات عن مواكبة قضايا السياسة والتشريع والقضاء، منذ رحيل الخميني عام 1989. وأثبت الواقع ان معادلة المدّ والجزر السياسي والشعبي، ليست ثابتة لمصلحة طرف دون الآخر، من هنا دعوة الرئيس خاتمي الى "الإقلاع عن التفكير في سياسة الإلغاء"، وهو يرى ان الطرف الذي سيطاوله مثل هذا الإلغاء سيظهر بأشكال قد تفرض "دفع أثمان باهظة". ومثلما تصدق المعادلة على المحافظين والاصلاحيين، تصدق أيضاً على القوميين والليبراليين، دعاة الفصل بين الدين والسياسة، وإبعاد القيادة الدينية عن مركز القرار السياسي. وهذا ليس جديداً بل هو اقتناع لدى الاصلاحيين عبروا عنه وتشبثوا به الى درجة تحويله الى شعار "ايران لجميع الايرانيين". وقد يقبل المحافظون هذا الشعار على مستوى التنظير وحق المواطنة، لكنهم يرفضونه على مستوى التطبيق وممارسة النشاط السياسي للقوى الليبرالية والقومية، اذ يرون فيه نقيضاً للنظام الاسلامي و"ولاية الفقيه". وعلى المستوى الفكري جاء الاصلاحيون بنظرية "القراءات المختلفة للدين"، ما يعني عملياً معاودة النظر في كثير من المعطيات التي يرى فيها المحافظون ثوابت لا يمكن العودة عنها. ويرفض الاصلاحيون هذا الموقف، وينتقدون القراءات الخاطئة للدين. وشهدت ولاية خاتمي نوعاً جديداً من الخلاف كنتيجة طبيعية للاختلاف في النظرة السياسية والفكرية. وهذا تمحور حول العلاقة بين الدين والحرية، حتى ان الرئيس الايراني هاجم علناً متطرفي اليسار الاصلاحي واليمين المحافظ، أي الذين "يرون ان الحرية في ايران مسحوقة بسبب الدين، والذين يرون ان الدين يتم سحقه بسبب الحرية". من هناك جاءت دعوة خاتمي الى "الاعتدال" ثم دعوة المرشد آية الله علي خامنئي الى ترسيخ "حاكمية الشعب الدينية"، المناقضة للديموقراطية وفق المفهوم الغربي. هذه الصورة التي توحي بالاستقرار والتكامل على مستوى القيادة لم تكن كذلك على بقية المستويات، اذ تمحور الخلاف حول طبيعة تنظيم هيكلية الحجم ومؤسسات المجتمع المدني، وما اذا كانت تستند الى المشروعية الدينية أو الشعبية أو الاثنتين معاً. وتعزز الخلاف بالنظرة السياسية الى الخارج، اذ ظل المحافظون يغمزون من قناعة "عقلية المؤامرة"، عكس النظرة الاصلاحية، ما تجلى في محاكمات المشاركين في مؤتمر برلين، الذين صدرت أحكام بسجن بعضهم لإدانته باتهامات بينها الإساءة الى النظام والإضرار بالأمن القومي. وتصف مصادر محافظة "الدعم الخارجي للاصلاحيين" بأنه "نقطة سوداء"، وتنتقد استحسان هذا الدعم لدى بعض شخصيات التيار الاصلاحي التي تتهمها ب"افتقاد حنكة سياسية تمكن من الفصل بين التنافس السياسي الداخلي والمصالح الخارجية". وتصل المخاوف حيال "العلاقة السياسية بين الداخل والخارج الى مراكز عليا في صنع القرار، وليست الأوساط العسكرية المحافظة بعيدة عن هذا القلق. ف"الحرس الثوري" ما زال يحذر من الاختراق الثقافي، ويرى نائب القائد العام للحرس اللواء محمد باقر ذو القدر ان "هناك خطراً من ضياع الفواصل بين أهل الثورة وأعدائها، اذا لم يتبلور شعار ايران لجميع الايرانيين". لكن الاصلاحيين يرون ان "قطار الاصلاحات لن يعود الى وراء". وهم يدركون ان الثمن الذي ينبغي دفعه باهظ. ولا تنفصل عن تلك الرؤية النظرة الى المحاكمات وإقفال الصحف وسجن عدد من الشخصيات الاصلاحية. ورفع شقيق الرئيس النائب محمد رضا خاتمي سقف انتقاداته، معتبراً ان تعاطي بعض القضاء مع الصحافة الآن اسوأ بكثير مما كان عليه في الماضي، أي في عهد رئيس القضاء السابق آية الله محمد يزدي. ورغم كل ما حصل، هناك من يرى ايجابية في تحول المواجهات الى معركة بين الاصلاحيين والقضاء، ووقف سياسة الإقصاء الجسدي، اذ لم تسجل أي محاولة اغتيال منذ نحو سنة، بعد محاولة اغتيال مستشار خاتمي، سعيد حجاريان... وفي ظل محاكمة رجال الاستخبارات المتورطين باغتيال معارضين قوميين وليبراليين عام 1998. انها فسيفساء كاملة تلك الصورة المتشابكة الخيوط للحياة السياسية في عهد خاتمي الذي يدرك ان الطريق الوحيد امامه هو الاستمرار في تنفيذ برامجه على رغم كل الصعوبات... خصوصاً لأن الحركة الاصلاحية اجبرت حتى المحافظين على معاودة النظر في بعض سياساتهم، فولدت فريقاً داخل التيار المحافظ يتبنى التجدد في الفكر الديني لمواكبة العصر. وهذا يدعو الى الاعتقاد ان خاتمي لن يترك الساحة، ولكن ليس من دون ثمن.