كيف تبدو جامعة صنعاء بعد أقل من نصف عام من اكتشاف جرائم السفاح السوداني محمد آدم؟ هل تراجعت الفتيات عن الدراسة في كلية الطب التي كانت مسرح عملية قتل واغتصاب وتشريح جثث الفتيات؟ هل لا يزال الخوف والرعب مسيطراً أم أنه تلاشى بفعل الزمن والرغبة في مواصلة مشوار التعليم العالي وتحقيق أمنية تبدو صعبة في مجتمع محافظ لا تتحقق فيه الفرص بسهولة؟ ما هو موقف الآباء والأسر من قضية تعليم البنات في الجامعة عموماً بعد اعترافات سفاح صنعاء؟ كانت الأسئلة تلح علينا ونحن نتجه الى كلية الطب التي استولت على مشاعر الشارع اليمني والعربي. عند نصب تذكاري مكتوب عليه "الإيمان يمان والحكمة يمانية" يحتشد طلاب جامعة صنعاء في طريقهم نحو كليات الجامعة الجديدة. الأعمال الانشائية الكثيرة تشير الى ان ثمة تطور كبير وأعمال توسعة تجري في كليات أعرق جامعة يمنية يرأسها الدكتور عبدالعزيز المقالح شاعر اليمن المعروف. وفوق تل مرتفع على طريق وادي ظهر القريب توجد كلية الطب والعلوم الصحية التي تأسست بدعم كويتي عام 82 ولم تكن تضم في حينه سوى 25 طالباً وطالبة. كلية الطب كانت مسرحاً لتنفيذ أبشع جريمة وقعت في اليمن العام الماضي، وهي قتل واغتصاب بعض الطالبات وتشريح أجسادهن من قبل عامل المشرحة محمد آدم الذي ينتظر تنفيذ حكم الإعدام خلال أسابيع قليلة. "الحياة" زارت كلية الطب وتجولت في أرجائها وتحدثت مع بعض طالباتها وبعض المسؤولين. عند مدخل الكلية تبدو الاجراءات الأمنية مشددة جداً، وكأنك تدخل ثكنة عسكرية بما يوحي بحالة من الانضباط خلفت الحالة "السائبة" التي تحدث عنها آدم في محضر التحقيقات. دخلنا بعض قاعات المحاضرات لأقسام مختلفة بمرافقة مسؤول المعامل بالكلية السيد الدسوقي أبو اليزيد والدكتور ياسر عاشور رئيس قسم الفسيولوجي ودائرة العلوم الأساسية. من السهل ان يصاب المرء بالدهشة عندما يرى أن عدد الطالبات أكثر من عدد الطلاب خصوصاً بعدما راج من اخبار عن ان الفتيات انسحبن من قاعات الدرس وفضلن البقاء في المنازل بعد مسلسل الرعب والهلع الذي أصابهن وأيضاً بسبب فرمانات وقرارات أسرية لا رجعة فيها تقضي بالتوقف الأبدي عن ولوج أبواب الجامعة. إحدى الطالبات رفضت الإفصاح عن اسمها تحدثت عن مشاعر الخوف التي تجتاحها بسبب جريمة السفاح وتقول: أسرتي شجعتني على مواصلة التعليم وكل صديقاتي كذلك لكن ما زلنا نخاف من السير في الممرات الداخلية في الكلية وما زلنا نتوقع القتل في كل لحظة، ومصدر خوفنا أن يكون للسفاح شركاء آخرين أو يكون ضمن شبكة لا يزال خطر تهديدها للفتيات قائماً. إننا نحمل ذكرى أليمة لا تفارقنا وأصبحت لدينا عقدة نفسية ونأمل بمضاعفة الإجراءات الأمنية حتى نشعر بالأمان والاستقرار. إصرار وتؤكد الدكتورة نجلاء جباري - وهي معيدة بكلية الطب ان كل الأسر شجعت بناتها على الاستمرار وبإصرار في الدراسة لأن دافع الفتاة في اليمن قوي جداً لمواصلة التعليم خصوصاً اذا كانت تدرس الطب الذي يمثل المرتبة الأعلى. وتشير الى ان شعور الفتيات بالصدمة والذهول مما حدث أمر طبيعي لكنه يتلاشى بعد فترة وقد تساعد المعالجات الادارية والأمنية على تجاوز الحادثة في أقرب وقت ممكن. أما الدكتورة سلوى سلام مسؤولة في قسم المختبرات فلاحظت ان الطالبات منتظمات منذ اليوم الأول للدراسة وفي شكل ممتاز وإن كانت هناك محاذير أسرية وسلسلة من النصائح المتعددة بألا تسير الفتاة بمفردها وتنتبه في المواصلات العامة وتعود الى المنزل مباشرة عقب انتهاء المحاضرات وأن تعلم الأسرة بكل العناوين المحتملة لصديقاتها وهي اجراءات - في نظرها - طبيعية وتهدف الى حماية الفتاة. غير ان بعض هذه النصائح أثرت سلباً على بقاء الطالبات في المكتبة بعد المحاضرات. وتتفق مع هذا الرأي الطالبات رؤى محمد ومها المقطري في السنة الرابعة. وترى رؤى أن كلية الطب أصبحت طبيعية وان كان القلق النفسي لا يزال مسيطراً على مشاعر الطالبات وهي لا تعتقد ان الجريمة يمكن ان تتكرر كما أنها لا تمس جوهر تعليم الفتاة في ضوء تفهم الأسر والمجتمع لكل ما حدث. وتشير مها المقطري الى ان اسرتها لم تناقشها مطلقاً في ترك الدراسة حتى لو كان الحادث وقع لاختها، وهي تنطلق في ذلك من أن تعليم الفتاة في اليمن بدأ من الصفر ويمثل تحدياً لواقع صعب فكيف تفرط الفتاة فيه بسهولة لمجرد وقوع جريمة قتل يمكن ان تحدث في الشارع وفي أي مجتمع. 10 كليات وكلية الطب واحدة من عشر كليات تضمها جامعة صنعاء الأقدم في اليمن وتأسست عام 1970 وهي كليات الشريعة والقانون، الآداب، العلوم، التربية، التجارة والاقتصاد، الهندسة، الزراعة، الإعلام، اللغات. وتستأثر كل عام بآلاف الطلاب الجدد على رغم منافسة الجامعات الخاصة التي يتجاوز عددها في اليمن ثمانية جامعات في الوقت الحاضر. ويقول خالد الثور مدير حسابات الأنشطة في الجامعة أن عدد الطلاب الملتحقين بالجامعة وفروعها المختلفة هذا العام يقدر بحوالى 82090 طالباً وطالبة فيما كان هذا الرقم في العام الماضي 71745 طالباً وطالبة. ويؤكد الدكتور فضل علي أبو غانم نائب رئيس جامعة صنعاء لشؤون الطلاب ان اقبال الفتيات على التعليم الجامعي زاد هذا العام ولم يتأثر بحادثة كلية الطب على رغم مما أسماه الحرب النفسية التي تعرضت لها الفتيات والأسر. وينقل بالأرقام هذه الحقيقة بقوله: بلغ عدد الطلاب الجدد العام الماضي 22 ألف طالب في الكليات المركزية والفروع نسبة الطالبات منهم 30 في المئة، بينما بلغ عدد الطلاب الجدد في العام الدراسي الحالي نحو 23 الف طالب وطالبة نسبة الفتيات منهم 35 في المئة أي زادت نسبة الطالبات بمعدل 5 في المئة. ويستطرد أبو غانم: ان قضية كلية الطب أخذت أكبر من حجمها من التضخيم والمبالغة الإعلامية واتسعت دائرتها الى تصفية حسابات ضيقة على حساب سمعة التعليم والجامعة والفتيات أنفسهن. وادارة الجامعة نفذت اجراءات احترازية لمنع تكرار ما حدث وهو على رغم شدة ألمه انما يمكن ان يحدث في أي مجتمع وفي أي مكان من العالم. صدمة ويمسك بخيط الحديث الدكتور أحمد الحمامي القائم بأعمال عميد كلية الطب والذي يرى ان قضية السفاح شكلت صدمة كبيرة لكل اليمن وليس فقط لجامعة صنعاء. ويعترف بوجود مخاوف عقب وقوعها بتراجع اقبال الفتيات على التعليم الطبي لكنه يؤكد بالاحصاءات ان الطالبات تجاوزن المحنة. يقول الحمامي: تقدم لامتحانات القبول هذا العام 816 طالباً وطالبة في الوقت الذي لا تحتاج فيه كلية الطب أكثر من 230 فقط، ونجح في امتحانات القبول 234 طالباً وطالبة منهم 137 طالبة وكان من الممكن ان يزيد عدد الفتيات لولا بعض البروتوكولات الداخلية مع مؤسسات تحبذ الشباب أكثر. ويتحدث الحمامي عن تدخلات من شخصيات تنفيذية في البلاد في قرارات كلية الطب في السنوات الماضية خلقت مناخات من الارباك والتصادم في الاختصاصات حتى أن عدد الطلاب بلغ 800 طالب العام الماضي في الوقت الذي لا تزيد الطاقة الاستيعابية عن 300 فقط، لكن هذا العام وضعت ضوابط شديدة وصارمة لمنع تدخل أي شخص أو جهة مهما كانت مواقعها في الدولة. وسألنا الحمامي عن مصير المشرحة التي وقعت فيها جرائم السفاح فأجاب: تأجل فتح المشرحة بسبب نظر القضية من قبل القضاء وعقب صدور الحكم بإعدام السفاح طلبنا اعادة فتح المشرحة، وبالفعل سلمت لنا قبل أيام وسيتم فتحها الأسبوع المقبل بعد ان حرم الطلاب من التدريب العملي والتطبيق على الجثث لمدة أربعة شهور. ويضيف الحمامي: عملنا نظاماً داخلياً وأعدنا هيكلة المشرحة بالتنسيق مع النيابة وأجهزة الأمن ويشرف عليها استاذ كما وضعت لها لوائح منظمة بالتعاون مع خبراء أجانب. متفوقات رب ضارة نافعة، هكذا يرى القائم بأعمال عميد كلية الطب وهو يقصد أن الكلية استفادت في اعادة النظر في كل شيء وهناك تفكير جاد بعقد ندوة لمراجعة برامج ومحتويات المستويات الدراسية ووضع حد للتدخلات الخارجية. ويعتقد الحمامي ان شعوراً بالإطمئنان يسود حالياً الفتيات المتفتحات الى العلم والمتحمسات للاستزادة والتحصيل حيث بلغ عدد المتفوقات 16 من اجمالي 26 على مستوى الكلية وتم تكريمهن في حفل. ويشير الى ان المجتمع اليمني وأولياء الأمور بدأوا يتفهمون الموقف أكثر كلما مر الوقت، أما الطالبات فيستعجلن الدخول الى المشرحة للتعلم بإرادة تدعو الى الإعجاب. طريقة الإعدام وينص قرار القضاء بإعدام محمد آدم وصلبه داخل ساحة كلية الطب، فأما الإعدام فلا يختلف عليه أحد، وأما طريقته كونه في ساحة الكلية فهناك انقسام في الآراء ما بين مؤيد لأسباب تتعلق بالثأر لكرامة وشرف الفتيات والكلية والثاني رافض لاعتبارات انسانية بحتة تخشى من هول مشهد قتل المجرم على الطالبات فضلاً عن عدم لياقته في صرح علمي. ومن بين الرافضين لفكرة تنفيذ الحكم داخل الكلية القائم بأعمال عميدها الدكتور أحمد الحمامي والذي يؤكد ان ذلك صدمة أخرى وربما تتحطم مباني ومنشآت كلية الطب من جراء ردود الفعل السلبية، وكذلك الطالبة ياسمين العزاني التي ترى ان الكلية مكان علم ولا يجوز تكرار عملية القتل فيها ويكفيها مرة واحدة وتؤيدها زميلاتها ندى الأغبري وسلوى الحمدي وجميلة أحمد الجرادي. ومن بين المؤيدات لتنفيذ الإعدام في حق السفاح داخل الكلية الطالبة أمل محمد المأخذي في السنة الثالثة التي ترى أن ذلك يعيد الى الكلية والجامعة هيبتهما وحتى يكون عبرة للآخرين ممن يفكرون في الاعتداء على شرف الطالبات وتدنيس ساحة العلم. وتذهب مع هذا الرأي الطالبات أسماء علي يوسف وأماني الخطري وسميرة صبر حيث ينصحن بعدم حضور المشهد من يمكن ان تتأثر به سلباً، ويقلن ان مظاهرات الطلاب والطالبات عقب اكتشاف الجريمة كانت تطالب بتنفيذ الحكم في الكلية للثأر من الجاني ورد الاعتبار النفسي للطالبات ولن نقبل بغير ذلك. من جانبه يشيد الدكتور ياسر عاشور رئيس قسم الفسيولوجي بمستوى طالبات الكلية ويرى أنهن أكثر جدية واهتماماً من الطلاب كما ان مستوياتهن العلمية أعلى وربما يرجع ذلك في رأيه الى أسباب تتعلق بالمجتمع والبيئة اليمنية وإصرار الفتاة على اثبات وجودها وكيانها. تعليقات وتشكو الطالبة ندى الأغبري من تغيير نظرة الناس الى الطالبات بعد الحادثة حيث تواجه في المواصلات تعليقات جارحة تذهب في دلالاتها الى ان الفتيات مسؤولات عن الجريمة بسبب سذاجتهن بل وتسامحهن مع السفاح. وتطالب بحملة توعية تشارك فيها وسائل الاعلام والمنظمات المدنية للإسهام في تصحيح الصورة المغلوطة عن الطالبات وتشجع الأسر على تعليم الفتيات. وتقول ندى ان الحادث تم استغلاله من قبل البعض لتحجيم دور الفتاة المتعلمة ومحاصرتها للعودة الى المنزل مرة اخرى وهذا يضاف الى النظرة التقليدية السائدة للمرأة اليمنية عموماً والتي تتسم بالسلبية والدونية. وتقول بعض الطالبات أن زميلات لهن من كليات أخرى توقفن عن الدراسة تماماً لكن عددهن قليل جداً وربما كان الانسحاب لأسباب أسرية اخرى كالزواج مثلاً أو الهجرة خارج البلاد. وفي كل الأحوال فإن شبح سفاح صنعاء لا يزال موجوداً أمام الفتيات في كل لحظة لكنه لحسن الحظ لم يستطع سحب مكاسبهن في التعليم والتطور والتنمية لسبب بسيط هو ان الجريمة عمل ظلامي وشاذ بينما التعليم نور وضياء ويقين يمثل سياجاً للفتاة وحصناً لها طول حياتها.