عندما توقف جبران اندراوس تويني في فلسطين إثر عودته النهائية من مصر الى لبنان، لم يكن بصدد كتابة موضوع الى "المقطم"، وإنما كان يزور بعض الأصدقاء. ولكن المشروع الإستيطاني اليهودي الذي قطع شوطاً بعيداً، استفزّه وحفّزه على كتابة ما كتبه في العام 1923 في "المقطم" حيث سلّط الضوء على ما كانت الحركة الصهيونية حريصة على التعتيم عليه. وإثر صدور المقال، قامت قيامة إلياهو ساسون الذي كان يحرر جريدة "العالم الاسرائيلي" لصاحبها سليم الياهو منّ. وبالطبع، حرص ساسون في ردّه على نفي الحقائق التي أعلنها مؤسس "الأحرار" و"النهار"، وكرر المعزوفة التكتيكية التي التزم بها معظم اليهود وخلاصتها ان ما كان يحصل في فلسطين هو مجرد عمل زراعي عمراني يقوم به اليهود الفلسطينيون. وبالطبع ردّ تويني على الرد عبر مقالة ثانية في "المقطم" وقد ضمنها مزيداً من الوقائع التي تؤكد على ان المشروع الذي كان يقوم به اليهود بقيادة الحركة الصهيونية، كان استيطان عموم فلسطين، وليس مجرد إقامة بعض بساتين الليمون في جزء صغير منها. ومن المؤكد ان رئيس تحرير جريدة "الدلتا" في المنصورة كان نشر حلقة ثالثة في "المقطم" بعنوان "من فمك أدينك يا اسرائيل" لو انه اطلع على العدد الأول من الجريدة الصهيونية التي كانت تصدر في بيروت، والتي تولت الرد عليه. حرص سليم إلياهو منّ في "مقدمة" الجريدة التي احتلت كامل الصفحة الأولى ومعظم الصفحة الثانية على إخفاء الغرض الحقيقي من إصدار جريدته أو مجلته كما يحلو له توصيفها. ولكن بعض التلميحات في الإفتتاحية لا تخفى على القارئ اللبيب، ومنها قول رئيس التحرير ان من نتائج الحرب العالمية الأولى "تحرير الأمم والشعوب المهضومة والمحكومة وتخليصها من بين مخالب الظلم والقهر الناشبة وتعضيد الحقوق التاريخية "تجاه القوى القسرية". يضيف صاحب الجريدة "ان الطائفة الاسرائيلية في بيروت" أسوة بكل طائفة أخرى في لبنان، وبالطوائف اليهودية في العالم، لا يجوز أن تكون محرومة من نشرة ناطقة باسمها. بل ان حرمانها من ذلك أمر "لا يغتفر". لذلك كانت "مجلة العالم الاسرائيلي" وهي "علمية أدبية إخبارية إنتقادية وتنقل من حوادث السياسة وأقوال أساطينها في الشرق والغرب ما له تعلّق بالطائفة لا غير. وما لم يكن ضمن هذه الدائرة فلا نتعرض له ولا نخوض فيه. وأظن تلك الدائرة متسعة فسيحة الأطراف فيها مندوحة لا نشعر معها بحاجة الى الخروج عنها. فإن الطائفة منبثّة في كل الأرجاء والبقاع، تكفينا حوادثها مؤونة الإلتجاء الى غيرها". وكان رئيس التحرير سريعاً في تنفيذ ما وعد به. فقد نشر في الصفحة الثانية من العدد نفسه بياناً معرّبا عن جريدة "هاآرتس" بعنوان "المهاجرة الى فلسطين" صادر عن ألبرت هيمسون "وكيل مدير دائرة المهاجرة". ويتضمن البيان الشروط الخمسة التي يحق لليهودي الحائز على واحد منها، أن يهاجر الى فلسطين وهي: "1- الأشخاص المالكون الوسائل المادية اللازمة والراغبون أن يقطنوا فيها بصورة دائمة. 2- أرباب المهن الذين يريدون تعاطي مهنتهم فيها. 3- النساء والأولاد الذين تتوقف إعانتهم على أناس يقطنون في فلسطين. 4- الأشخاص الذين لهم مراكز وأشغال ثابتة في المحلات التجارية أو لهم أشغال. 5- رجال الدين الذين يأتون فلسطين لأسباب دينية ويستطيعون ان يثبتوا مقدرتهم على القيام بأمور معيشتهم". والشروط الخمسة الموافق عليها من المفوض السامي البريطاني من شأنها أن تفتح باب "المهاجرة الى فلسطين" لكل يهودي أينما وجد، من الحاخام، الى الثري، الى رجل الأعمال، الى المهني، الى النساء والأولاد. أما الرجال الفقراء فإن البرت هيمسون مستعد أن يزودهم ببطاقات أو شهادات تثبت أنهم أغنياء أو رجال أعمال أو مهنيون أو حاخامباشيون. وتحت عنوان "تيودور هرتزل" نشر قلم التحرير صفحة كاملة بمناسبة "ذكرى موت مؤسس الصهيونية الحديثة"، خصوصاً وأن "البروغرام الهرتزلي قد نجح بصورة قطعية". قبل هرتزل وبروغرامه، كانت النفس اليهودية "مقهورة". ولكن "الأمل في عودة اسرائيل الى فلسطين لم يأخذ شكله العلمي ثم العملي إلا بذلك المفكر العظيم". فقد أوحى له ماضي اليهود وحاضرهم بكتابه "الوطن اليهودي" الذي يحدد فيه "الوسائط التي يقتضي إتباعها للوصول والحصول على الوطن". ما هو الوطن المقصود بكتاب هرتزل؟ ليس سوى "فلسطين الوطن الوحيد الذي ينبغي أن يملكه اليهود". ولم يكتف هرتزل برسم الخارطة. بل هو كرّس حياته لتنفيذ ما رسمه. فكانت إتصالاته المثمرة بالملوك والرؤساء حيث ان "أول دولة فهمت الصهيونية وأعطتها إستحقاقها من العناية هي دولة انكلترا". ومات هرتزل في 24 نيسان ابريل 1903 قبل أن "يرى نتيجة أعماله". وختم الكاتب كلمته التمجيدية بقصيدة قال فيها: هذه مساعيه نمت غرساتها ثمراً ومدّت بعد ذاك طلالا لم يسعف المقدار مرّ حياته ليرى صباح نجاحه يتلالا فمضى وطيّ القلب إشفاق على مشروعه أن لا ينال منالا فلتطمئن عظامه في قبرها نلنا بفضل جهاده الآمالا ونشر قلم التحرير قرب القصيدة مجموعة أخبار "صهيونية" لا بأس من إعادة قراءة اثنين منها. تحت عنوان "هكذا تكون الوطنية" ورد الآتي: "تبرعت عائلة اسرائيلية في المانيا بمئتي ألف فرنك لإنشاء مستعمرة صهيونية جديدة في فلسطين". وبعنوان "قرارات المؤتمر الصهيوني" نقرأ ما يلي: "وافق المؤتمر الصهيوني على إنفاق مليون ونصف من الجنيهات لإبتياع الأراضي وبناء البيوت وإنشاء المعاهد الاقتصادية والتجارية والزراعية وتنفيذ مشروع وتمبرج للتعليم. وقرر أيضاً طلب الأمان التام والمحافظة على أرواح الاسرائيليين وأملاكهم في فلسطين". و"العالم الاسرائيلي" الأسبوعية التي تألفت من 8 صفحات، استمرت بالصدور حتى نكبة فلسطين عام 1948. صحيح ان السلطة "الإنتدابية" قد رخصّت لسليم الياهو منّ باصدارها وتولت رعايتها، وان السلطة "الوطنية" لم توقفها إلا بعد خمس سنوات من تاريخ الإستقلال وإثر "اكتشافها" انها تخالف قانون المطبوعات عبر نشرها مقالات وأخباراً سياسية وهي "مجلة علمية أدبية إخبارية". ولكن ثمة عاملاً آخر يتمحور على الشعب لا الحكومة، وبخاصة المثقفين منه، كان له الدور الفعّال في طول عمر "العالم الاسرائيلي". فعندما أصدر نجيب عازوري كتابه "يقظة الأمة العربية" ونبه فيه أبناء فلسطين والمشرق العربي الى مخاطر المشروع الصهيوني، وقد اعتبره خطراً على العالم بأسره... ردّ عليه سليم كساب، وهو بيروتي، بكتاب معنون "مزاعم الخطر اليهودي" صدر أيضاً في باريس، وبالفرنسية، وفي العام نفسه. في ذلك الوقت، كان نصير المرأة جرجي نقولا باز نجم الحفلات الخطابية والكتابات الإصلاحية. فلم يكتب حرفاً واحداً تأييداً لعازوري ولكنه تبرع لجريدة "العالم الاسرائيلي" بأكثر من مقال. وهذا يعني ان نجيب عازوري وسائر الذين نبهوا من الخطر الصهيوني ومنهم جبران تويني، كانوا قلة قياساً للذين دافعوا عنها أو تجاهلوها أمثال سليم كساب وجرجي باز. لذلك استمرت جريدة "العالم الاسرائيلي" في بيروت بالصدور 27 سنة بصورة متواصلة على رغم انها كانت تدعو، مداورة، الى تحقيق المبدأ الهرتزلي القائل: "أرضك يا اسرائيل من الفرات الى النيل". في حين لم تعمر مجلة "الحسناء" البيروتية أكثر من ثلاث سنوات، مع ان طموح صاحبها جرجي نقولا باز لم يتخط عتبة تعليم المرأة في العالم العربي ومنحها بعض حقوقها البديهية.