1 - نصفان سار وعيون المارة تخترقه باستهزاء وقدمه تزحف زحفاً، أحرقته تلك النظرات فأخذ يبحث عن مسمار وعندما وجده انكفأ على حذائه ليوصل قطعتيه المتخاصمتين، وعندما اطمأن لذلك سار واثقاً بينما كان المسمار يتغلغل براحة قدمه والدم يجري على أرضية الاسفلت فانزوى جانباً وأخذ ينازع ذلك المسمار الذي تآخى مع اللحم المهترئ بينما كان المارة يعبرونه بلا اكتراث. 2 - الكلاب عم الجوع الديار، وتفاقمت الحاجة، وأصبح الناس يفيقون من مراقدهم رابطين أحزمتهم على بطونهم من شدة الجوع، وبات شغلهم الشاغل كسرة خبز تصمت عواء أمعائهم، وبينما هم في كرب مما يجدون جاءهم بشير من أقصى المدينة يسعى مهللاً بفرح: - إن السماء تمطر لحماً طازجاً!! فجذبه أحد المتضورين للحديث: - ومتى كان ذلك؟ - لقد بدأت من الصباح الباكر. فرد عليه ساخراً: - ألم تأخذ لك جزوراً، وتذهب به الى بيتك، وتطعم - منه - أطفالك؟ فأجابه بأسى: - إن الكلاب لا تمكننا من ذلك أبداً!! 3 - بحث حثيث أمره غريب. كان الشارع يضج بالأصوات، وأقدام تخبط الأرض بإيقاع منتظم، تتنافر من حناجرها ترانيم لغناء شجي. وألعاب نارية تغسل الظلام وتتناثر في المدىي لتلاحقها صرخات الابتهاج. شيء ما يتفتح بالخارج له طعم الفرح. كان الشارع يحتفل بالحياة، تفتحت الأبواب وفردت الأجساد قاماتها في ذلك الفضاء البهي، وتماسكت الأيادي في رقصة محبورة، وكلما هلت وجوه اتسع المكان واحتفل برقصهم فنبتت الأغنيات على جانب الطريق، ليتراكض الحضور لقطف أغانيهم. كان هو الوحيد الذي بقي في غرفته جالساً على كرسيه يبحث عن حبل ليكتف نفسه!! 4 - عيون صغيرة تتلو وجه مدرسها دخل للفصل وأطلق ابتسامته في وجوه تلاميذه، وتناول المساحة ومسح السبورة مسحاً دقيقاً، ووضع المسّاحة بجوار حقيبته، ووقف بين تلاميذه فارداً قامته وردد بصوت عميق: - اليوم سنتعرف على معنى الصدق تلك الخصلة التي تقودنا للجنة. ثرثر كثيراً، ولم يقطع صوته سوى طرق خفيض على باب الفصل ورأس زميل من فصل آخر يطل من فرجة الباب مردداً: - لو سمحت يا أستاذ مسّاحة. شعر بضيق وزفر محتداً: - اغلق الباب ليس لدينا مسّاحة. فيما كانت عيون تلاميذه ترمق تلك مسّاحة الزرقاء التي تجاور حقيبته. 5 - جفول ارتفع اذان العصر ندياً يتغلغل في شغاف القلب ويحيله الى موجة مسترخية، فنهض الطفل الصغير لدورة المياه وأحسن وضوءه، كان أبواه سعيدين به، يتأملانه بحبور، وبعد أن أنهى وضوءه ركضت أمه لتقبيله، فجمح بنفور وهو يصيح: - لا تنقضي وضوئي!! - أنا أمك يا حبيبي. تطلع اليها باستنكار: - المرأة تنقض الوضوء، هكذا قال المدرس!! 6 - الأشجار وما بينهما إذا ثار تنكمش لداخلها، وتظل عيناها ترمشان بحركة سريعة خائفة متربصة، دائماً يردد على مسامعها: - أنا رجل دقة قديمة ولا يعجبني الحال المايل. ويدلق أوامره كواقع حتمي، ويمضي تاركاً إياها تحاول الفكاك من حال الارتباك التي تعيشها كلما التقيا. كل حياته أوامر، وإذا غادرها ترك أوامره معلقة على جدران البيت. وثمة حوافر متآكلة تركض في صدرها بجلبة وعنف. يغلق عليها الباب والنوافذ وفرجات الأسطح لتظل حبيسة الهواء الرث والصرخات التي تجاورها. في إحدى المرات تجرأت وقطعت أوامره واتجهت بحذر صوب شقوق النوافذ. كانت ترى أنصاف الأشياء، فتجاسرت وفتحت النافذة الشرقية، فرأت الشارع والناس والمباني يتنامون كالعشب الأخضر، وألقت بصرها هناك ونسيت عودته، وعندما جاء كانت لا تزال تقف بين الناس وتشم هواءهم، فأسرع صوبها كثور هائج، فانكمشت بداخل الغرفة مذعورة، صفعها وجرها من شعرها، وركلها بجزمته الجديدة وحاول اغلاق النافذة، وقبل أن يفعل ذلك كان الشارع والأشجار والناس يقفون بينهما. 7 - عشبة الجدار بقيت معلقاً كمسمار في جدار الليل، أرقب بابك، وأسترق السمع لصوت المزلاج. مضى الليل والباب مغلق. فانزويت لركن معتم، وسمرت عيني ببابك، وصرفت الانتظار باحتمالات سكبتها على قلقي، وغنيت لفكرة بزغت بالبال فنبتت عشبة بجوار الجدار. 8 - تآكل إن الأرض تأكل الحذاء في محاولة مستميتة للوصول لهذا الجسد وكلما استبدلنا أحذيتنا كانت الأرض أكثر شراهة وانتظاراً للوصول لهذا القلب. - أنت متشائم. - يا آآآآآآآآاللّه... انظر لقد أكلت الأرض حذاءك!! 9 - فضيحة كان يأتيها ليلياً وهي تتزين وينام قبل أن تكمل زينتها، وفي أوقات يتسلل الى مخدعه ويغط في النوم، فتوقظه فلا يستيقظ، فتبات الليل بنار متأججة تجاور قلب ثلج جامداً، وكان في بقية النهار إذا صرخ بها محتدّاً لأي أمر تقفز في وجهه كقطة متوحشة صارخة: - أنا الوحيدة القادرة على فضح رجولتك الزائفة!! عندها فقط يغدو رماداً، ويذعن للانكسار. * كاتب سعودي.