يستعرض الجزء الأول من هذه الدراسة في شأن أداء اقتصاد الولاياتالمتحدة التغيرات في اداء الاقتصاد الاميركي من الربع الثالث من العام الماضي وانخفاض اسعار الاسهم وارتفاع عجز ميزان الحساب الجاري وتوقعات المرحلة المقبلة. تتوجه الأنظار منذ نهاية العام الماضي إلى مؤشرات الاقتصاد الأميركي نظراً لما لهذا الاقتصاد من وزن وتأثير على بقية اقتصادات العالم، خصوصاً أثر التغير في توقعات أداء هذا الاقتصاد مقارنة بما تعودنا عليه خلال معظم أعوام العقد الماضي من رواج ومعدلات نمو اقتصادي استثنائية. وبدأ التغيّر في التوقعات في شأن أداء الاقتصاد الأميركي منذ الربع الثالث من عام 2000 وذلك بعدما أخذت الشركات تخفض من توقعات ايراداتها عن عام 2000. وبالفعل أخذت المؤشرات الأخرى تؤيد وتؤكد التوجه الجديد للاقتصاد الأميركي المتمثل في انخفاض المبيعات وارتفاع المخزون وتردي الجدارة الائتمانية لكثير من الشركات، بل إن بعضها أوشك على الافلاس نتيجة لعدم استطاعة خدمة ديونه تجاه البنوك. وتشدد البنوك في منح مزيد من الائتمان للأفراد والشركات التي أصبحت ديونها في مستويات غير مسبوقة. هذه الظروف بدأت تزعزع من ثقة المستثمرين في إمكان استمرار النمو الاقتصادي الأميركي بالمستويات التي عرفها خلال أعوام العقد الماضي، الأمر الذي انعكس في انخفاض قيمة أسهم الشركات بشكل ملفت للنظر، خصوصاً أسهم شركات التكنولوجيا ممثلة في مؤشر "ناسداك" الذي فقد أكثر من نصف قيمته مقارنة بما كان عليه في شهر آذار مارس عام 2000. ولمعالجة فقدان الثقة لدى المستثمرين ولمنع مزيد من التدهور في أسعار الأسهم، تحرك مجلس الاحتياط الفيديرالي البنك المركزي الأميركي بسرعة ومن دون انتظار، إذ خفض سعر الفائدة على الدولار بمقدار نصف في المئة، الأمر الذي لم يفعله بهذه الدرجة منذ أكثر من ثمان سنوات. وكانت ردة فعل الأسواق لهذا القرار ايجابية في بداية الأمر، إذ ارتفعت أسعار الأسهم في أميركا بشكل كبير في اليوم الذي أعقب قرار خفض سعر الفائدة، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً، إذ تراجعت أسعار الأسهم من جديد في اليوم التالي بشكل أخذ يثير تساؤلاً كبيراً في شأن ما إذا كان خفض سعر الفائدة كافياً لمعالجة تدني معدلات النشاط الاقتصادي في أميركا، وهل العملية مرتبطة بالحاجة إلى مزيد من التخفيض في سعر الفائدة أم أن مثل هذا الاجراء غير كافٍ لوحده لمعالجة تزعزع ثقة المستثمرين واحتمال التوجه إلى حال ركود اقتصادي أكثر منها مجرد تباطؤ نسبي. في الواقع، تتباين الآراء في شأن هذا الموضوع، فالبعض يعتقد أن الأوضاع لا تدعو إلى القلق، وان الاجراء الذي اتخذه البنك المركزي الأميركي بتخفيض الفائدة بنصف في المئة كافٍ لطمأنة الأسواق والمستثمرين بأن السلطات النقدية جاهزة وعلى استعداد لعمل اللازم لمنع تدهور الوضع الاقتصادي. ويستند هذا الرأي إلى كون الاقتصاد الأميركي هو الأقوى حتى الآن وليس للمستثمرين من خيارات عدة لتجنب التعامل مع الاقتصاد الأميركي، كما أن الاقتصاد الأميركي، في رأيهم، لديه التنوع والديناميكية والمبادرة للاستمرار في تحقيق معدلات النمو الأعلى في العالم، هذا بالإضافة إلى أهمية الدولار ودوره واغراءات الاستثمار المباشر وغير المباشر في أميركا والتي من الصعب مقاومتها أو تجاهلها. أما على الجانب الآخر، فإن هناك آراء أكثر تخوفاً وحذراً مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الاقتصادية في أميركا، وما قد ينعكس على أثر ذلك من آثار على اقتصادات كثير من دول العالم. ويستند هذا الرأي على مؤشرات عدة في تخوفه وحذره من توجهات الاقتصاد الأميركي في المرحلة المقبلة. من هذه المؤشرات هو أنه على رغم انخفاض أسعار الأسهم بشكل كبير، إلا أنه حسبما يبدو، فإن قيمة هذه الشركات، خصوصاً شركات التكنولوجيا، لا زالت مرتفعة بالمقاييس المتعارف عليها، وبالتالي فإن التوقع قائم في استمرار انخفاض قيم هذه الشركات بشكل أكثر مما تم حتى الآن. هناك أيضاً وجهة النظر القائلة بأن الشركات والأفراد في أميركا الذين يعتقدون بإمكان استمرار حال الرواج الاقتصادي الذي تعرفه أميركا منذ بداية العقد الماضي قد توسعوا وفقاً لذلك في الاستثمار والاقتراض إلى مستويات عالية جداً. وبالتالي فإن خفض سعر الفائدة وإن كان مهماً، إلا أنه قد لا يتيح مجالاً لمزيد من الاقتراض، هذا بالإضافة إلى أن البنوك في أميركا أقرضت وتوسعت في الاقراض بشكل كبير ولم يعد، حسبما يبدو، في إمكانها زيادة الاقراض، خصوصاً في هذه الظروف التي انخفضت فيها أرباح الشركات وبالتالي ضعفت مراكزها المالية وإمكان تسديدها لمديونيتها بالشكل المتوقع. هذا، وقد تدهورت أخيراً بالفعل الجدارة الائتمانية لكثير من الشركات وبدأت مؤسسات التصنيف الائتماني تراجع تقويماتها السابقة في اتجاه أكثر تحفظاً. وكما هو معروف، فإن مفعول تخفيض سعر الفائدة يأخذ بعض الوقت الذي يمتد لغاية ستة أشهر حتى يؤتى ثماره، ولا يتوقع أن يكون له مفعول فوري سريع. وحتى في حال تنفيذ الرئيس الأميركي الجديد جورج بوش وعوده بخفض الضرائب، فإن السياسة المالية كذلك لا يتوقع أن يكون لها تأثير قبل انقضاء فترة زمنية لا تقل عن سنة. وفي خلال هذه الفترة، فإن تصحيح الاختلالات الاقتصادية لم يتم من خلال السياسة النقدية أو المالية، بل حسبما يبدو من خلال الافلاسات وتقليص حجم العمالة وحالات الإعسار وتقليص الانتاج والخفض الحاد للمبيعات. ومما يزيد هذه الصورة قتامة هو الارتفاع القياسي في عجز كل من ميزان الحساب الجاري والميزان التجاري الأميركي، فحتى عام 1997 لم يتجاوز عجز الميزان التجاري الأميركي قط مستوى 150 بليون دولار في السنة، أي ما يمثل تقريباً اثنين في المئة من اجمالي الناتج المحلي لأميركا. لكن منذ ذلك الوقت لم يتوقف عن الصعود إلى مستويات قياسية. وفي عام 1999 وصل عجز الميزان التجاري الأميركي إلى 335 بليون دولار، أي ما يمثل 4.3 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، وفي العام الماضي يتوقع أن يكون قد تجاوز 435 بليون دولار، أي ما يقارب 5.4 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. وحسبما تشير إليه هذه الأرقام وهذه الحقائق، فإن الأمر يحتاج إلى اجراءات تصحيحية قد تتم من خلال قوى السوق، وفي هذه الحال يمكن أن تكون نتائجها مؤلمة أو قد تتمكن الإدارة الأميركية من الأخذ بزمام الأمور وقيادة الاقتصاد إلى هبوط آمن وبأقل الأضرار. المهم، وحسبما يتفق عليه غالبية المحللين، فإن الاقتصاد الأميركي وصل إلى مستويات من النمو والارتفاع من الصعب استمراريتها، وقد يكون حان الوقت لتخفيف سخونة الاقتصاد إلى مستويات أكثر صحية. وسواء تحقق هبوط الاقتصاد الأميركي بشكل سلس أو بشكل حاد، فالسؤال يبقى قائماً في شأن مدى تأثير أي تباطؤ للاقتصاد الأميركي على اقتصادات دول العالم. * رئيس مجلس الادارة المدير العام لصندوق النقد العربي.