بعد موسيقى "البلوز" البلدية، تُعتبر "الجاز" في الولاياتالمتحدة الموسيقى الكلاسيكية وأحد الفنون القليلة المولودة في "العالم الجديد". فهي ترتبط ارتباطا مباشرا بتاريخ البلد، لا سيما مراحل الاضطهاد الذي تعرض له السود الجنوبيون ممن وجدوا فيه منفذاً للتعبير عن معاناتهم. وقد تحول اسلوب العزف المنفرد والتقاسيم داخل الفرقة الموسيقية الصغيرة الحجم على الآلات الغربية، ضرباً من ضروب الفنون الخاصة التي يعتز الاميركيون بتقديمها الى الحضارة العالمية. وهم يردّون بذلك على انتقادات الاوروبيين ودول "العالم القديم" ومفادها ان اميركا انتقلت الى قيادة الكون من دون ان تنتج حضارة خاصة بها. فحضارتها، في رأي هؤلاء النقاد، مجرد مزيج بين حضارات العالم التي انصهرت فوق ارضها. وكما لعبة البايسبول وكرة القدم الاميركية العنيفة، تعتزّ غالبية الاميركيين بالجاز كرمز وطني يتم من خلاله الاطلال على عالم الموسيقى. وثمة بين الموسيقيين من يستخدمون الجاز حجةً للقول ان "الموسيقى الرفيعة" الكلاسيكية ليست أفضل حالاً من انواع الموسيقى الشعبية "الوضيعة". اما في الداخل فيتفاخر الاميركان المتحدرون من اصول افريقية بانهم اعطوا بلدهم فنّهم الخاص. اذ ان معظم مشاهير وعازفي الجاز الاميركيين سود جنوبيون تعرّض أسلافهم، منذ انتشار تجارة العبيد، الى اقصى الاضطهاد. وتبعاً لما يمثله كرمز وطني، يبدو من الطبيعي ان يساور القلق الحريصين على الجاز كلما ظهرت بوادر تراجع في شعبيته وانتشاره بين الجيل الجديد. فقد ادى تعلّق جيل الشباب بموسيقى "البوب" و"الروك" ثم "الراب"، الى انكماش اهتمام شركات التسجيلات الكبرى به، فيما شرع الموهوبون من الفنانين الصاعدين يعنون بأنواع الموسيقى الأكثر العصرية. وزاد من القلق على مستقبل الجاز الاعلان عن ان تسجيلاته لم تحز الا 3 في المئة من مبيعات السي دي في العام الفائت. وبما ان دور النشر اشارت الى ان ما يقارب الخمسين كتابا عن الجاز نُشر وسيُنشر خلال 2000 و2001، بدا ان الاهتمام به تحول الى المادة المكتوبة والتاريخية. وهذا مُقلق لأصحاب الجاز الذين يريدونه اكثر الفنون شعبية في العالم. وبمناسبة الاقتراب من ذكرى انقضاء مئة عام على ولادة الجاز في مدينة نيو اورلينز الجنوبية، تزايد الجدل واحتدم حول مستقبله. فهذا الفن الذي يرتكز على التقاسيم بتأديتها، غالباً ما حظي بخصوصية تُضاف الى خصوصية نشأته التاريخية. إذ فيما تستقي الموسيقى الكلاسيكية دراميتها من انتقالها من نقطة الى اخرى، ومن الافتتاحية الى الحركات التي تضم العقدة والحبكة قبل الانتهاء بالخاتمة، يشتغل الجاز على نحو مغاير. فهو يسعى الى تحرير المستمع ونقله الى عالم آخر عبر التقاسيم والاعادات المنوّعة للنغمات. وبذلك تراه يشبه الموسيقى العربية في اعتمادها التقاسيم والاعادة وصولاً الى حالة الطرب. وبمناسبة المئوية بدأت محطة P.B.S العامة بث سلسلة وثائقية مدّتها 19 ساعة عن تاريخ الجاز بعنوان "جاز"، قام باعدادها وتنفيذها كين بيرنز الذي سبق ان قدّم للجمهور الاميركي برنامجاً عن تاريخ الحرب الاهلية حاز جوائز عدة، فضلا عن فيلم وثائقي عن لعبة البايسبول. ويسرد الفيلم تاريخ الجاز الذي عُرف باسماء كثيرة على مدى تاريخه:"نيو اورلينز جاز"، "شيكاغو جاز"، "ديكسيلاند"، "سوينغ"، "بوغي ووغي"، "بيبوب"... وهو يتنقل من حقبة زمنية الى اخرى مستعينا بصور الأرشيف حين لا تتوفر المواد التلفزيونية المسجلة. كما يتخلل ذلك مقابلات مع فنانين جدد امثال ونستون مارساليس عازف البوق المعروف، ومرسيدس الينغتون حفيدة احد اشهر فناني الجاز دوك الينغتون، اضافة الى دايف بروبيك وجون هاندريكس وآخرين. ويتضمن المسلسل مقاطع من اكثر من 500 معزوفة اضافة الى 57 مقابلة مع فنانين ونقاد. ولا يفوت الفيلم تمجيد عمالقة الجاز الاوائل كلوي ارمسترونغ والينغتون وتشارلي باركر وبيني غودمان ومايلز ديفيس. كما يقدم تسجيلات نادرة لغومان في قاعة كارنغي عام 1938 وحفلة ارمسترونغ عام 1933 في كوبنهاغن. وتأمل شركات تسجيل الجاز ان يساعد عرضه على تنشيط شعبية الموسيقى هذه، وان يترجم ذلك الى زيادة في حجم مبيعاتها عبر الاستفادة من الحملة الدعائية الكبيرة التي سبقت عرض الفيلم والتغطية الاعلامية التي حصل عليها قبل البدء ببثّه.