تبدو حال الثقافة من حال السياسة في المغرب الآن. فقد تضافرت العوامل لعودة السياسي معززاً هيمنته في وقت كان الاعتقاد يميل الى القول بنهاية عهد الرقابة والمتابعة على ما يكتب وينشر في الغرب. بل ان شهراً واحداً في السنة الفائتة عرف حالين متعارضتين: أولاهما تحرير الكتاب من سيف الرقابة بالإعلان الرسمي عن رفع حظر تداول رواية المغربي محمد شكري "الخبز الحافي" والسماح بطباعتها وتداولها في المغرب للمرة الثانية، والى جانبها اعادة "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح الى المكتبات المغربية شأنها في ذلك شأن كتابات فاطمة المرنيسي وأخرى ذات أبعاد سياسية كانت كتبت بنهج السيرة الذاتية لتحكي آلام وأحداث كتابها في السجون والمعتقلات. والحال الثانية جسّدها المنع الذي طاول نسخاً من القرآن الكريم لا توافق القراءة المعتمدة في المغرب عن عاصم... ابان المعرض الدولي للكتاب الذي عرفته الدار البيضاء أخيراً، ثم قرار التوقيف الذي عوقبت به صحيفتان ومجلة - وجميعها أسبوعية - بعد نشرها رسالة كان كتبها الفقيه البصري وهو مناضل وسياسي سنة 1972 وتوحي في مضمونها بتواطؤ زعماء سياسيين نافذين كالراحلين علال الفاسي وعبدالرحيم بوعبيد ورئيس الحكومة المغربية الحالية عبدالرحمن اليوسفي أو على الأقل معرفتهم مع مرامي الانقلابي المُعدم سنتها الجنرال محمد أوفقير. وعدا الحال الأخيرة ظل "الخبز الحافي" لمحمد شكري رمزاً للكتاب الممنوع في المغرب منذ أن صادرته السلطات بتوصية من وزارة الشؤون الدينية قبل سبعة عشر عاماً. وعلى رغم ان حالات منع نشر الكتاب لأن الرقابة لا تمنع طباعة أي عنوان ولا تتدخل إلا بعد مدة من تسويقه في المكتبات ظلت قليلة الى نادرة في المغرب طوال العقدين الأخيرين، وهي تعد على رؤوس الأصابع في أقصى الحالات، اصطدمت بها الكتابات المجحفة في حق الإسلام كآيات شيطانية لسلمان رشدي أو التي تتقصد نظام الملكية في المغرب كصديقنا الملك لجيل بيرو بالتجريح بالخصوص، فقد سجلت في حق الصحافة والمجلات تاريخاً مريراً حجبت فيه عدداً من المجلات الثقافية بالخصوص "كأنفاس" لعبداللطيف اللعبي والطاهر بنجلون و"الثقافة الجديدة" لمحمد بنيس و"الزمان" لسعيد علوش و"أقلام" و"جسور"... وانتهت منذ شهر نيسان ابريل الماضي فقط الى أكثر من 14 حالة استحقت المتابعة من بينها الحالات أعلاه التي أثارت جدلاً واسعاً تداخل فيه الإعلامي بالثقافي حتى وصل الى المطبخ السياسي للحكومة المغربية، ليعيد وضع السؤال الى النقطة التي لا تسمح بتبين المسافة التي ربحتها حرية التعبير في العهد الجديد، الذي بقدر ما عرف توسعاً لا مجال لإنكاره في مجال الحريات العامة والصحافة، عرف أوسع موجة من المحاكمات ضد بعض الصحف والصحافيين حتى وان لم تكن جميعها محاكمات سياسية. وعلى المستوى الثقافي العام الماضي، كانت الدورة السابعة للمعرض الدولي للكتاب أبرز أحداثه" ولا تعود دلالة المعرض في ما عرفه من تظاهرات ثقافية مرتبطة بالكتاب أو ما حملته أروقته من أسباب تواصل الناشرين من خارج المغرب مع القارئ على رغم بعض المشاكل التي اعترضت بعض الناشرين العرب الذين كانوا يشاركون في الوقت نفسه في معرض الشارقة ثم بيروت في نقل الكتاب الى المغرب والقيام بإجراءات الجمارك في الوقت المطلوب؟!. ولكن في الحضور الرمزي لبعض المشاركات التي مثلت في أروقتها نافذة بأبعاد ثقافية وانسانية لا تخفى للزائر: بالخصوص: المشاركة الأولى لمنظمة العفو الدولية أمنيستي المتابعة لقضايا خرق حقوق الإنسان في العالم، والمشاركة الأولى للناشرين الجزائريين في فعاليات المعرض. وقد أظهر البيع السريع لكل الكتب التي جلبوها في رواقهم ما شكله المعرض من حدث تواصلي تحتاجه الثقافتان المتجاورتان في المغرب العربي. أما بصدد الكتاب ذاته" لم يلفت النظر ما يشكل الحدث الظاهرة في المعرض. غير ما تجب الإشارة اليه من حضور الروائي المغربي محمد شكري لأول مرة المعرض وقد تزامن مع عودة روايته "الخبز الحافي" الى السوق المغربية، وهذه المرة بطبعة قام بها "اتحاد كتاب المغرب"" ليوقع في يوم تقديمه الى زوار المعرض أكثر من 600 نسخة من أصل ألف هي كل الطبعة التي نفدت في اليومين الأولين للمعرض، كما الى ما تميزت به مشاركة دور النشر المغربية: عناوين كتب من مؤسسات حققت تراكماً على مستوى النشر كدار توبقال التي جاءت المعرض بأكثر من عشرين عنواناً جديداً لعل أهملها "ابن خلدون من منظور آخر" لعبدالسلام شدادي" و"أبو العلاء المعري أو متاهات القول" لعبدالفتاح كيليطو، وفي الشعر المعاصر بدواوين لمحمد الأشعري وعبدالمنعم رمضان وبترجمة عن الفرنسية من شعر جورج بيريك "فصائل الفضاءات" ودراسة عن أدونيس والخطاب الصوفي لخالد بلقاسم. كما جعلت مؤسسة المدارس من المعرض اعلان دخولها نشر الكتاب بعدما اكتفت طوال عقود من وجودها بنشر الكتاب المدرسي فأطلقت أسماء كتاب هي بدورها جديدة على هذا العالم" كسؤال الحداثة في الشعرية العربية القديمة، لمحمد أديوان، و"الصوفية في الشعر المغربي المعاصر: المفاهيم والتجليات" لمحمد بنعمارة، و"النص من القراءة الى التنظير" للناقد محمد مفتاح. هذا الأخير قدم في المركز الثقافي العربي الدار البيضاء - بيروت ثاني كتبه الصادرة هذا العام في تزامن مع السابق ولمناسبة المعرض ذاته بعنوان "مشكاة المفاهيم: النقد المعرفي والمثاقفة" يستحق أكثر من وقفة. جاء الكتاب الأول "النص..." متميزاً باجرائيته فيما يسعى اليه من عرض الأوليات التي ينمو بها النص الأدبي من خلال دور المعرفة الخلفية في الإبداع، وفي نظره الى اشكال التلقي ورهانات التأويل في ضوء المقصدية التي يثيرها النص والاستراتيجية التي تعتمد لإدراكها. كما خصص الكاتب جانباً منه لتناول القضايا المنهجية والنقدية ليثير من خلالها في الفصل الأخير التصور النقدي الذي يمكن اختزاله بغير قليل من التعسف في بحثه مفهوم المثاقفة، وقد آل اليه بعد أكثر من عقدين من العمل النقدي على النصوص. ولذلك سنجد محمد مفتاح يخصص الكتاب الثاني "مشكاة المفاهيم..." ليتوجه الى هذا المفهوم بصياغته موضوعاً أكثر ايغالاً في التنظير معتمداً مفهوم الخيال وموضوعه كحلقة للبحث في المظاهر الكونية التي تتبادلها النصوص والثقافات. ولعل اعتماد الكتاب ذاته على مقاربات الأنثروبولوجيا وعلم النفس التقليدي والمعرفي يضعه في نفس المنظور من حيث انفتاحه على حقول الخطاب والسيميائيات، وهو يقترح لتناول ظاهرة المثاقفة تعضيد مفهوم التفاعل النصي بالتفاعل المعرفي. في مقام أخير تجب الإشارة الى بعض الإصدارات التي عرفتها الساحة أخيراً، ككتاب أومبيرتو ايكو عن "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" وكتاب فكتور ارايخ عن "الشكلانية الروسية" وهو من أهم ما كتب عن هذا الاتجاه النقدي عالمياً، وهو من اصدار المركز الثقافي العربي أيضاً، ثم كتاب "المعرفة والسلطة في المغرب..." للأميركي ديل أف. ايكلمان عن "مركز طارق بن زياد للدراسات"، وهو دراسة انثروبولوجية للنسق التقليدي لتداول المعرفة في المغرب بالوقوف عند أنظمة التعليم. طنجة - يوسف ناوري