لماذا لا ندرس انفسنا فنضطر الى قراءة ما يكتبه الغربيون عنا؟ سؤال طرحه رئيس "تحرير الاجتهاد الزائر لهذا العدد"، وفيما عزا هذا الاضطرار الى التقصير، اعتبر الرئيس المضيف أن "لا علاقة لتقصيرنا الحاصل فعلاً بإقبال الآخرين على الكتابة عنا وإقبالنا على قراءتهم". والواقع إن سؤال "الزائر" يدور حول غياب خطابنا الصناعي عن أنفسنا، وهو يطوف في زيارته هذه على جميع المواقع لملء الفراغ حتى أنه يتقمّص أسماء الغلاف، التي لا يبرز معظمها داخل مربّعه الأزرق الجميل إلا كأوجه من أوجه "الزائر"، الذي عكف على ترجمة فصولٍ طويلة من مؤلفاتهم لتزورنا أطيافهم فيما يتكرر اسمه سبع مرات في لائحة "المقالات" فيبقى منها واحد لجون سبوزيتو وهو مهم رغم كونه مترجماً وذلك لأنه يمهد لمقالات ارنست غلنر حول الأصولية، وآخر عن التاريخ الثقافي للقهوة وثالث حول "العلماء" يعده الزائرُ من عناصر مترجمة، ومقال أخير يبدأ بالتقرب من الاستشراق الروسي ويختتم أقواله بالحكم عليه من خلال قراءته للوهابية "بأنه لا يزال مسكوناً بأشباح الماضي الاستشراقي وأحكامه المفوتة". الزائر يطوف اسمه حول جميع "المقالات" ناهيك عن سيلانه بين اسماء المراجعين حتى أن بعض المهتمين بالفكر الأنثروبولوجي علق على العدد: فضيحة! غير أن لكل فضيحة أن تمسَّ بسر وتكتسب بذلك قوة كاشفيها. والعدد لا يفتعل أي فضيحة بل إنه يكشف الفضيحة الأنثروبولوجية في حقل التداول الجامعي العربي، وذلك بما هو جهد مضنٍ ومفيد يحاول تبرير لجوئه الى الترجمة بسؤال بريء يطال "البديهي" المفروض: لماذا لا ندرس أنفسنا فيدرسنا الأنّاسُ الغربي؟ لندقق السؤال: من لا يدرس ماذا؟ إن عنوان هذا العدد من "الاجتهاد"، حين يعطف الدولة والمجتمع على صورة الإسلام يطرح الإسلام معياراً لفهم آليات العبور من الاستشراق الى الأنثروبولوجيا. لماذا لم يهتم معظم "أساتذة الأنثروبولوجيا العرب في جيلهم السابق والجيل الحالي" بتسديد هذا المعيار والاشتغال به "للزائر" أن يُفاجئهم بسؤاله؟ ألأنهم ذهبوا الى "اعتبار الأنثروبولوجيا بديلاً لأنها في نظرهم علمية أو ميدانية"؟ إنه تبرير "تلطيفي" غير مقنع ولا يلغي كاشفيه السؤال، إذ الأنثروبولوجيا في جوهرها حلم بإمكان العبور بين المختلف واللامتقايس وتأملٌ حول تنوع إشارات الحقيقة خارج المنطق الواحد، وممانعة لشرعية احتجانها من قبل العلم الحديث وادعائه حصر النطق باسمها، وابتعاد عن تحويل أفعال الناس وأقوالهم الى "ميدان" للتقرب من لغتهم وإيقاعاتهم. تقصير أساتذتنا لم يهتم أساتذة الأنثروبولوجيا المحليون بالإسلام وعيّنوا "علميتهم" و"ميدانيتهم" بالهروب الى أنموذج موهوم للبدوي المتفلت منه أو التقني الذي توافقوا سراً على استعصائه عليه... وبقدرتهم على إخفاء صورته أو تشويه ألوانها وتقطيع خطوطها. وفي المقابل لم تعمل فئة العلماء التي اهتمت إجمالاً بالخطاب التبليغي السياسي على إنتاج نص صناعي يفتح آلياتهم المأهولة على اسئلة الجامعة الغربية بما هي مبدأ التعقيل والضبط والتحكم ومبدأ الانشقاق والخروج على الحداثة - العقلانية في آن. أهو توادد خفي أو تدبّر بين طلائع تتوهم تقاسم النفوذ من خلال إيقاف التخاصم على الطاقة الرمزية... فيبدو المتسائل حول غياب عبور الذات الى الذات والمطالب بتفكرنا بإنّيتنا بلغة صناعية تستحضر المأصول والمفصول انطلاقاً من ضرورة التحاور وحق التعارض وكأنه ارتكب هفوة! دون هذه "الهفوة" لم يكن فراغ الكلام المحلي في الهم الأنثروبولوجي ليُملأ وإن بالترجمة بمفردات الأنّاس الغربي في سفره الى الإسلام. سفرٌ لا يفهم فقط بأغراضه المعلنة، التي تتراوح بين العشق والتحكم المدمِّر، إذ بانعطاف الأناس الى الإسلام ينكشف فشل الاستشراق بتوضيب مرويات الآخر المسلم وتدجين رموزه، وبقدر ما تُركِّز ادبياتها في مرحلتها الراهنة على التنوع والقبول بالآخر، تظل الأنثروبولوجيا أسيرة سطوة لغة العلم الحديث والتقنية المبهرة، غير أن هماً بات على رغم ذلك يقضّها ويقودها الى التشكيك بقدرة هذه السطوة الميتافيزيقية على تأمين لغة راسخة للإجابة عن السؤال حول متانة مشروع الحداثة المرهون بمدى قدرتها على فرض قواعد عامة وملزمة، أي بمدى قدرتها عن الدفاع عن سيادة دولتها بما هي أصل السيادة الواهبة لشرعية القواعد. إن البحث عن مصادر ووسائل هذا التمتين هو الذي يشغل النص الأنثروبولوجي العضوي المدافع عن الحداثة - ومن أين تأتي القواعد؟ سؤالٌ الغرض منه تفريع مفاهيم التقعيد لتبيان ضرورته وعالمية نموذجه الحديث الراهن حيث يفترض أن يتلاقى الإسلام الآن بعقلانية الغرب. ولهذا العدد من مجلة "الاجتهاد" فضل إبراز الجدل حول هذا الهم المركزي الذي يدفع الفكر الأنثروبولوجي في متحركيته الراهنة نحو الإسلام، وذلك خصوصاً من خلال ما ورد فيه مترجماً من نصوص لآرنست غلنر والمحاورة البالغة الفائدة التي أتاحت لطلال أسد ايضاح بعض مفاهيمه وهمومه الأساسية. خطاب غلنر عند نهايات خطاب غلنر نكتشف أنّ الاهتمام الغربي ب"صورة الإسلام" يتعدّى التصور أو البحث عما هو حقيقي أو حتى ابتداع آليات تحكمٍ جديدة، إذ هنا ينكشف التحكّم بما هو فعل معمم يصبو الى بلوغ مقام تأصيل الأقوال وتأسيس القواعد" وفي هذا الانكشاف يدخل الإسلام شريكاً في التأسيس شرط أن يعترف أنه مجرد سبيل غير حصري الى سيادة القواعد أو الالتحاق بها. وكأنما غلنر مكملاً خطاب كانط حول تقدم البشرية ببلوغ الثقافة الغربية الحديثة غاياتها يردد في جميع نصوصه: الإسلام لا يؤرقنا أنه قد سبقنا الى تقعيد العالم وها أننا ننجز مهمته بتأييد الدولة الحديثة دولة القواعد، وأصلها الأنموذجي المولّد ل"الجمهورية" و"الديموقراطية" و"دولة القانون"، وها هو قادم إلينا أو أنه فينا وهو لذلك كفيل باصطناع آليات ذاتية تعطِّل فيه ما يهددنا. إسلام القواعد الذي يعقب طهورية تتقايس مع طهورية الغرب يعبر الى الحداثة، إذ ينصاع ذاتياً لسيادة القاعدة، بغض النظر عن مصدرها، ويُسقط عن صفاء عبارتها ما تعلّق به من إشارات قد تكون مزاجاً لشتى العلاقات "الارتباطية" الجمعية التي تناهض استواء الرابطة المنطقية القانونية. هل أن مثل هذه الرابطة المنطقية ممكنة؟ وهل أنها قادرة على مواجهة لغة الرابطة القرآنية حيث تتجاور القواعد المحكمة مع القصص الإشارية؟ أكَّد لنا غلنر في مقالته المهمة حول: "الأساس الاجتماعي للسلفية الجزائرية" عام 1976 الواردة في مجلة الاجتهاد العدد المزدوج صيف وخريف 2000 موضوع هذا التعليق، ص. 185 - 228 أن الجزائر المعاصرة حديثة "بمعنى أنها لم تعد تشبه ما كانت عليه في ماضيها الذي كان يسيطر عليه الأولياء، لكنها حديثة بنزعتها الإسلامية وليس بعمليتها العلمانية" ص 228. ولكن ألم تقع الجزائر في هوة العبور بين الإسلام والحداثة فحُوّلت الى نموذج عبرة حيث تُعطّل القواعد الإسلامية بهجران الروابط الجمعية ويوظِّف جهاز القواعد الحديثة الفوضى لترسيخ سيادة لغته؟ هل يدخل الإسلام في نظم القواعد العامة أم أنه السبيل الى تأمين هذه النظم في حال فريدة تحررها من تحكم أي مركز تاريخي زمني فينبسط حقل حيث يقوم التقليد على الاستطراد من دون حاجة الى تدخل أي قوة تركز الزمان وتجعله تاريخها؟ سؤال يحاول طلال أسد، في استحضاره النقدي المضمَر لمدار غلنر النظري، الإجابة عنه منطلقاً من نقد الوحدة المنطقية العقلانية للبحث عن حداثات لا تتلخص بالحداثة الغربية. وقد كان لمقدمة مترجم هذه المقابلة القيّمة فضل وضعها في سياق الانهمام الأنثروبولوجي العام بالإسلام، ما ساهم في تماسك المادة المترجمة في هذا العدد وأظهر قابليتها لتكون مادة اجتهاد حول استشكالات لا بد أن يواجهها الفكر العربي الإسلامي، وقد بدا أنه فيما بت غلنر الأمر وأسكت المخاوف من "الأصولية" بابتداع نظم إقفال جديدة على لغة الوحي التي تقضُّ الحداثة الغربية، منتجاً على رغم ذلك "صورة عن الإسلام" تشهد بقدرته على تعميم نفسه وبسط زمانه على أزمنة العصر حتى بعد تقييده بصيغ الإلزام وإلزامات صيغ المنطق المجرد. بقي طلال أسد يبحث في التقليد وتداول النصحية عن إمكان سريان الأقوال والأفعال خارج مركزة السلطة وهو ما يقربه من طه عبدالرحمن أو يقرب الرجلين من حيث تطلعهما الى اللغة الطبيعية وتماسك الجماعة بها وممانعتها للقواعد المجردة المفروضة. كلام في التراث هو في صلب هموم الراهن، كلامٌ يدور حول إمكان توحد العالم خارج السيادة الحديثة المعلومة التي تدمر تنوّعه بجعل نفسها مصدر القواعد المطاعة، سياقات أنثروبولوجية متنازعة في بحث حول المعادلة السوية التي تمزج بين القاعدة والحرية بين الجماعة والتنوع، للخروج على الصيغ المنطقية المجردة أو لتثبيتها بما هي لوازم الإلزام وأصل كل معادلة نظامية" بحث يقرّبنا حين يستعير مفردات التداوليات الغربية الانشقاقية الناقدة، من التبصر بأمر عجيب تبرزه تلك الهموم، أمرٌ يظل مبهماً على رغم أنه يلمع من التفكّر في الإسلام، وهو أن مزاج الحرية والقاعدة يبقى وثيق الصلة بوجود لغة ثابتة تفرض قواعد صارمة وتظل على رغم ذلك منفتحة على الإشارة وعلى التداول في قلب الجماعة حيث تلامس الفريد والمتنوع لتعود فريدة في تعاليها وتوحّدها. * أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية.